عندما يجد الجد في السياسة والتسيس تتصدر المصالح العارية الأجندات وتتهمش الخطابات البلاغية والشعارات الرنانة. في كل سياسة وجدت على وجه الأرض هناك محركات أساسية وجوهرية، وهناك شعارات ورطانة تجمّل تلك المحركات وتكسوها بطبقة من القيم أو المبادئ أو النوايا المعلنة. ليس هذا بجديد بل إعادة إنتاج يومي لصفة السياسة ذاتها واصطراع القيم والأخلاق معها. لا تستطيع قوة غازية أن تفصح بالفم الملآن أن هدفها هو الغزو والاحتلال، بل تضع هدفا نبيلاً وراء ما تقوم به، كأن تقول بأنها تساعد على نشر مبادئ معينة، مثل الديموقراطية والحرية، أو قيم الحضارة والاستنارة كما في الحقبة الكولونيالية، أو نشر دين معين كما في تاريخ الإمبراطوريات المسيحية والإسلامية، وهكذا. إيران المعاصرة، كما بقية الدول، لا تحيد عن تاريخ السياسة والتسيس، وربما لا تُلام كثيراً، بل من لا يحفر تحت طبقة الشعارات والخطابات ليصل إلى جوهر ومحرك السياسة الإيرانية هو الذي يُلام. إيران الثورية الخمينية وظفت «فلسطين» و «المقاومة» في قلب حملتها الشعاراتية خلال أكثر من ثلاثين سنة ماضية، لتحمي وتمرر سياسة واقعية قائمة على تكريس النظام في الداخل وتوسيع النفوذ الإقليمي في الخارج. من حين لآخر توفر الظروف والتحولات فرصة لكشف التناقض بين الشعار والممارسة، وهذا ما تتيحه مرحلة التوافقات الجزئية والأولية بين الغرب وإيران على الملف النووي. فهنا واليوم، يغدو من المشروع تقديم السؤال التالي، والذي يتطلب اجابة من الإيرانيين: اين تقع فلسطين في أجندة المفاوضات والنتائج المُستهدفة، خاصة وأن الخطاب الإيراني بشأن امتلاك القدرة النووية كان يستبطن مسألة «المقاومة والممانعة» ومناصرة فلسطين والفلسطينيين ومعاداة إسرائيل كحجر الأساس في كل التعبئة والدعائية الرسمية وغير الرسمية المتعلقة بتلك القدرة؟ إذا كانت فلسطين، وكما دأب ذلك الخطاب على التوكيد والقول، قضية المسلمين الأولى، وقضية إيران الأولى تبعاً لذلك، فلماذا لم تبرز في جدول أعمال المفاوضات مع القوى الكبرى؟ لماذا لم تضع طهران ولو شروط الحد الأدنى، من مثل تطبيق الشرعية الدولية والقانون الدولي في القضية الفلسطينية، وتربط تنازلاتها في الملف النووي ببروز سياسة غربية جديدة إزاء فلسطين والفلسطينيين؟ ولماذا ينزوي خطاب المقاومة والممانعة في اللحظات الحاسمة مع الغرب، الداعم الرئيس لإسرائيل، ولا نرى على طاولة التفاوض إلا المصالح الإيرانية القومية البحتة؟ كيف نوائم بين خطاب المقاومة والممانعة الذي توجهه طهران نهاراً وليلاً إلى «الجماهير الإيرانية والعربية» معاً، والخطاب البراغماتي القائم على التقديرات الاستراتيجية للمصلحة القومية الإيرانية؟ من ناحية سياسية بحتة وتحليل بارد، نفهم انهماك طهران وتركيزها المطلق على مصالحها السياسية والاقتصادية ومحاولة تعظيم ما يمكن أن تحققه في المفاوضات والصفقة مع الغرب. وربما لم يكن لأحد أن يطلب منها غير ذلك لولا أنها تتشدق بخطاب «المقاومة» الذي ضلل ولا زال يضلل الملايين في المنطقة ثم لا يلبث أن يتبخر عندما تأتي أي لحظة اختبار جدية، كما الآن. ولأنها استخدمت ذلك الخطاب طويلاً، فمن حقنا محاسبتها ومساءلتها عن ذلك الآن ... وطويلاً. من حق كثيرين أن يسألوا أيضاً أنصار ايران وأنصار خطابها الادعائي حول المقاومة والممانعة عن موقف البلد القائد وشطبه القضية الفلسطينية في الأجندة التفاوضية، ولماذا تتبخر هذه القضية في الممارسة السياسية الإيرانية عند المحطات الانعطافية، ثم نراها تشتعل من جديد عندما يكون الظرف محملاً بالمزايدة اللفظية والعنتريات اللغوية؟ لماذا لا يظهر هذا الخطاب في السنوات الأخيرة إلا في سورية ولمناصرة النظام الأسدي ضد شعبه، وما هو نوع «المقاومة والممانعة» الذي تجسد هناك سوى الوقوف ضد حرية الشعب السوري وتحرره من النظام المستبد والبائس، ثم تسليم السلاح الاستراتيجي الكيماوي للغرب، والاستسلام الكامل للضربات الإسرائيلية المتلاحقة من الحين للآخر؟ من حق كثيرين القول الآن إن الموضوع الفلسطيني وكل خرافة المقاومة والممانعة في الخطاب الإيراني، كما هي في الخطاب الأسدي، لم تكن يوماً سوى توظيف سمج ومتواصل لقضية تحظى بتعاطف الملايين، وإن وطأة تلك القضية تجعل أولئك الملايين يواصلون إعطاء الفرصة تلو الأخرى لكل من يتشدق بها، بما في ذلك طهران. من حق كثيرين أن يتساءلوا لماذا لم تضع طهران شروطاً إقليمية تخدم فلسطين والفلسطينيين على طاولة المفاوضات في الوقت الذي تضع إسرائيل فيه شروطها عبر ممثليها غير المباشرين، سواء الأميركيين أو الألمان، بل ومن خلال الرئيس الفرنسي نفسه الذي صار يتحدث بلسان نتانياهو في المفاوضات وليس بلسان مصالح فرنسا؟ حتى من ناحية براغماتية وسياسة مصلحية بعيدة عن المبادئ وادعاءات خطاب المقاومة، من حق كثيرين أن يتساءلوا عن هذا الغياب الفاضح لكل ما له علاقة بفلسطين والقضية الفلسطينية والاختفاء الكلي لها عن أجندة الاهتمام الإيراني. مرة أخرى تتبدى السياسة الإيرانية في جوهرها الحقيقي وهو أنها مُقادة ببوصلة المصلحة القومية الإيرانية لا أكثر ولا أقل. وأحد جوانب هذه المصلحة القومية هو الدفاع عن مصالح ايران وتكريس الدور والنفوذ الإيراني في المنطقة. وهنا لا يمكن الاعتراض على الجزء الأول من هذه السياسة، وهو الدفاع عن المصالح الحيوية لإيران، لأن ذلك ما يجب أن تقوم به كل دولة وكل نظام في أي بلد. لكن الاعتراض على سياسة ايران الراهنة في المنطقة يأتي من زاويتين: الأولى هي أن هاجس تكريس الدور والنفوذ يُترجم على الأرض تدخلاً في دول الجوار العربي وتجييش الشيعة العرب وفق تقسيمة طائفية بشعة في كل دولة يتواجد فيها شيعة. والزاوية الثانية هي امتطاء خطاب المقاومة والممانعة وتصدر جبهة العنتريات اللفظية في ما يتعلق بفلسطين وما ينتج عن ذلك من عسكرة وانقسامات في بلدان محددة في المنطقة، ذلك أنه من لبنان و «حزب الله» إلى فلسطين حيث «حماس» و»الجهاد الاسلامي»، وصولاً وليس انتهاء إلى اليمن والحوثيين، عملت إيران على تعميق الخلافات الداخلية وتقويض الوحدات الوطنية وشراء الولاءات وخلق تيارات تابعة لها تحت شعار المقاومة. ومن جوانب الكوميديا السوداء أن بعض الناطقين باسم الحركة الحوثية يُضمّن دعم المقاومة في فلسطين ومواجهة إسرائيل في تصريحاته هنا وهناك! وتحت شعار المقاومة شغّلت ايران ماكينتها الدعائية بل وأنشأت «جيش القدس» الذي لم نر أفراده وضباطه وقادته يخططون ويقاتلون إلا في العراق وسورية، ولم يطلق رصاصة باتجاه القدس. بل شهدناه ينشط ويقاتل في الجوار العربي. لماذا تتدخل طهران في الشأن العراقي الأمني والعسكري وتسيطر عليه موظفة اسم «القدس»؟ ولماذا تنشط في قتل السوريين وتقف بالطول والعرض مع نظام فاسد ومُستبد وكل ذلك تحت وباسم «القدس»؟ ثم عندما تجلس مع كل القوى الكبرى في العالم والتي تخشى برنامجها النووي وتتجه نحو صفقة كبرى مع تلك القوى، فإنها تترك القدس وأهلها خارج قاعة المفاوضات وترتد إلى مصلحتها الإيرانية الصرفة والعارية؟ سيُقال هنا، مرة أخرى، إن ايران لا تستحق أن تُلام على ذلك، وإنها كأي دولة في العالم وكأي لاعب سياسي في أي مكان، تحاول ان تستخدم كل ما تستطيع من أوراق لتعظيم مصالحها القومية والإقليمية، وإنها تقدم وتؤخر استخدام تلك الأوراق بحسب ما تراه مناسبا زمانا ومكاناً، وإن اللوم وأصابع الاتهام يجب أن تتوجه إلى أولئك الذين لا يزالون يركضون خلف إيران ويرددون ببغائية عمياء خطابها الادعائي حول المقاومة وفلسطين. على هؤلاء أن يتدبروا القراءات الإسرائيلية التي تتوافق ومنذ سنوات طويلة على أن ايران لا تفكر في خوض اي معركة مع إسرائيل، وأن ذلك آخر همها، وأن العين الإيرانية والنفوذ الإيراني متوجهان للمنطقة والجوار العربي أولاً وثانياً وأخيراً، وأن كل مزايدات نتانياهو واليمين الإسرائيلي هدفها رفع سقف المفاوضات وتعكس الهوس على إبقاء إسرائيل الدولة الأولى في المنطقة من ناحية النفوذ والسيطرة، وليس خوفاً من توجه الصواريخ النووية الإيرانية إلى إسرائيل، لأن ذلك ليس وارداً في الأجندة الإيرانية العسكرية أساساً، كما أن فلسطين كلها ليست واردة في الأجندة الإيرانية السياسية، كما رأينا سابقا وكما نرى اليوم. * كاتب وأكاديمي عربي Email: [email protected]