من بين التداعيات الكارثية لهيمنة طوائف العسكر والتكنوقراط والمقاومين على المشهد السياسي العربي يبرز الغياب شبه التام للسياسيين ومن ثم لاستراتيجيات وأدوات العمل السياسي كإشكالية ضاغطة لا حل سريعاً لها ولا فكاك منها على الأمد المنظور. للسياسة حين تستقر ممارستها كمهنة سلمية هدفها إدارة الصراع بين قوى المجتمع وصولاً الى تحديد معاني ومضامين الصالح العام وصناعة توافق حولها، نسق أخلاقي ومنظومة قيمية وعالم معرفي تحفز مجتمعة على المساومة والبحث عن مساحات المشترك بين المتصارعين وترفض المقاربات الإطلاقية بنزوعها المعهود نحو الإجهاز على الآخر وإلغاء تعددية المجتمع. أما العسكر والتكنوقراط والمقاومون، وإن لدوافع مختلفة وبصياغات تبريرية متفاوتة، فأنساقهم ومنظوماتهم وعوالمهم تحتقر المساومة ولا ترى فيها سوى دليل وهن غير مقبول أو شاهد اعوجاج وخيانة ينبغي استئصالهما. لننظر بدايةً إلى طائفة العسكر والإشارة هنا لا تقتصر على الجيوش، بل تمتد لتشمل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية وطائفة التكنوقراط، حلفاء الحكم في العديد من المجتمعات العربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وكيفية إدارتهما للسياسة وقضاياها. في مصر، وعلى رغم أزماتها الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة والطاقة الاحتجاجية المتصاعدة، ما لبثت مؤسسة الحكم تقارب المشهد السياسي بمعادلة صفرية تروم الإقصاء والتهميش المستمر لقوى المعارضة الحزبية وغير الحزبية وتحول دون مشاركة شعبية فعالة في تحديد الصالح العام. الغريب والمفجع هنا هو أن بإمكان العسكر والتكنوقراط من دون أن تتعرض سيطرتهم على المجتمع لتهديدات حقيقية، تخفيف القيود المفروضة على حركة المعارضين، بمن فيهم جماعة"الإخوان المسلمين"، وإشراكهم على نحو جدي في الحياة السياسية، بما يكفل إنهاء لحظة الاحتقان الراهنة. فلماذا يصر الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم على الاحتفاظ بما يفوق الثمانين في المائة من مقاعد مجلس الشعب ويحتكر تقريباً كل المقاعد في مجلس الشورى، علماً أن غالبية الثلثين في مجلسي البرلمان كافية لتمرير الموازنة العامة ومشاريع القوانين والقرارات كافة، بل وتعديلات الدستور إن دعت الحاجة إليها؟ ولماذا يحول"الوطني"بين أحزاب المعارضة المسجلة، والمستأنسة، كحزب"الوفد"الجديد وحزب"التجمع"وبين الفوز بما لا يتجاوز نسبة العشر في المائة من مقاعد المجالس المحلية التي جرت انتخاباتها أخيراً نيسان/ابريل 2008؟ ولمَ الزج ببعض قيادات"الإخوان"في محاكمات عسكرية سرية تنتهي بأحكام قاسية لا مردود لها سوى خطر افتقاد الجماعة بوصلتها الاستراتيجية وتماسكها التنظيمي، وكلاهما رتب التزامه العمل السلمي منذ السبعينيات؟ لا تفسير هنا سوى هيمنة المعادلات الصفرية الرافضة للمساومة مع قوى المعارضة على مقاربة العسكر والتكنوقراط للسياسة وتعويلهم البدائي، والكسول بالمعنى الاستراتيجي، على القيود القانونية والأدوات القمعية كضمانات نهائية لاستمرار سيطرتهم واستقرار حكمهم. بل ان ذات الجوهر الرافض للمساومة يتكرر خارج الحياة السياسية حين تتعامل مؤسسة الحكم مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية المصيرية. أديرت ملفات إصلاح الاقتصاد واستراتيجيات التنمية والأوضاع المعيشية للمواطنين من دون نقاش مجتمعي حقيقي ولم يلتفت المسؤولون التنفيذيون، وهم خليط من التكنوقراط ورجال الأعمال القريبين من الحكم، بجدية لاستغاثات متتالية إزاء اتساع نطاق الفقر والغلاء وتآكل الطبقة الوسطى وتحذيرات من انفجارات وشيكة. والحصيلة هي تبلور طاقة احتجاجية غير مسبوقة لم يعد من السهل احتواؤها بمسكنات التكنوقراط المألوفة رفع جزئي للأجور لا يتناسب مع معدلات الغلاء، علاوات غير اعتيادية، وغيرها ولا تجد بين قوى المعارضة من يستطيع تنظيمها وإدارتها على نحو يضمن طابعها السلمي. ومع التسليم بتفاوت نطاق ومدى التعويل على الأدوات القمعية وكذلك حضور أو انتفاء درجة من التعددية السياسية المقيدة من مجتمع إلى آخر، فإن التداعيات الكبرى لهيمنة العسكر والتكنوقراط على السياسة في الجزائر وسورية واليمن لا تختلف كثيراً عن الحالة المصرية. الساسة غائبون وإدارة السياسة تفتقر في التحليل الأخير إلى استراتيجيات المساومة وأدوات البحث عن مساحات المشترك بين قوى المجتمع وصناعة التوافق. أما المجتمعات العربية التي لا تسيطر عليها طائفة العسكر وتديرها أسر حاكمة متماسكة لها حلفاؤها بين التكنوقراط وخارج دوائرهم، كما هو الأمر في المملكتين المغربية والأردنية ودول الخليج، فتواجه، وإن تمايزت المضامين، ذات الإشكالية. إذا ما استثنينا المغرب في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين وتوترات البحرين حتى نهايته ولحظات متقطعة في الأردن خلال العقود الثلاثة الماضية، لم يمثل التعويل على الأدوات القمعية أحد ثوابت إدارة السياسة بهذه المجتمعات، كما أن بعضها، وتحديداً في الخليج، لا يعاني من أزمات اقتصادية أو اجتماعية حادة. بيد أن حقيقة غياب السياسة وفقرها تتجلى بوضوح حين النظر إلى محدودية قدرة مؤسسات الحكم على التعاطي الخلاق مع قضايا مصيرية من شاكلة العمالة الوافدة وفرص توطينها في الخليج وحقوق المواطنة للفلسطينيين من حملة الجنسية الأردنية واوضاع الفقر والفساد في المغرب وتوليد نقاش مجتمعي صريح حولها. من جهتها، تشارك حركات المقاومة، وهي تتوزع بين فلسطينولبنانوالعراق ولجميعها اليوم هوية دينية كثيراً ما تتقاطع مع أخرى طائفية، في الحياة السياسية محملة بأنساق أخلاقية وقيمية إطلاقية وقناعات تستند دوماً إلى تنويعات اختزالية على ثنائيات الحق -الباطل، وترتب مجتمعة نزوعاً قاسياً نحو إقصاء الخصوم أو ممارسة الهيمنة عليهم ومن ثم تتناقض مع الجوهر السلمي للسياسة بكونها تهدف إلى التحفيز على مساومات بين المتصارعين وترفض الإلغاء. بل ان تواكب إطلاقية حركات المقاومة مع غياب مؤسسات الدولة بفلسطين وانتفاء قدرتها على احتكار الاستخدام المشروع للعنف في لبنانوالعراق يدفع هذه الحركات نحو عسكرة داخلية متصاعدة ويجعل من القابلية للعنف حقيقتها التنظيمية الأولى. هنا، وبغض النظر عن شرعية فعل المقاومة حين يتجه إلى الآخر المحتل في فلسطين أو العراق، شريطة ألا يتحول إرهاباً للمدنيين أو قتلاً على الهوية، ليست ممارسة العنف ضد خصوم الداخل أو التهديد بها سوى فعل إجرامي مدان لا شرعية له ولا مصداقية. ومع أن عنف الداخل في المجتمعات الثلاثة لا يقتصر فقط على المقاومين، إلا أن إسهام"حماس"و"حزب الله"والحركة الصدرية يفوق الآخرين كماً وتزداد خطورته كيفاً لارتباطه العضوي بسردية دينية تدّعي احتكار الحقيقة المطلقة ويؤمن أتباعها، إلا في ما ندر، بأن الباطل لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها. خالد مشعل والسيد حسن نصرالله ومقتدى الصدر ليسوا سياسيين أو مشاريع لسياسيين قد يكتسبون استراتيجيات وأدوات العمل السياسي إن تغيرت البيئة المحيطة بهم بزوال الاحتلال أو بعودة الوفاق الوطني أو بكليهما، بل هم بوجودهم وبأدوارهم حلفاء العسكر والتكنوقراط العرب في نفي السياسة وتجريدها من المضمون. * أكاديمي مصري