مع حلول الذكرى الستين هذا الشهر لقيام إسرائيل سنتابع سلسلة من الاحتفالات بتلك الذكرى من جانب إسرائيل ومؤيديها. لكن الجديد هذه المرة سيكون مجيء الرئيس الأميركي جورج بوش إلى إسرائيل خصيصا للمشاركة، وكذلك الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، بما يعني التوحد النهائي المعلن مع الدولة الصهيونية، وهي التي لم يكن قيامها ممكناً من الأصل بغير الدعم، بل التواطؤ، الغربي بهدف استخدامها لأداء وظائف محددة في المنطقة. لكن الملفت هو تلك الأبواب العربية الرسمية التي أصبحت مفتوحة أمام إسرائيل، سواء أمام الكاميرات أو خلفها. وحينما طرح العرب مبادرتهم الشاملة للسلام مع إسرائيل من خلال قمة بيروت في سنة 2002 كان يفترض أنها تعطي لإسرائيل الجائزة الكبرى التي طالما تطلعت إليها منذ قيامها كدولة. مع ذلك فقد ردت إسرائيل على تلك المبادرة بصلف وتجاهل، بل أصبحت تطالب العرب بإعطائها تلك الجائزة الكبرى مقدما من دون أن يرتبط ذلك بالحد الأدنى من الثمن المطلوب منها وهو الانسحاب الشامل من الأراضي العربية المحتلة وعودة اللاجئين الفلسطينيين. إسرائيل كانت ترفض دائما عودة اللاجئين الفلسطينيين وتقول بين وقت وآخر إن هذا استباق للمفاوضات. الجديد أنها تقول الآن إنها لن تسمح أبدا بعودة اللاجئين الفلسطينيين، سواء بدأت مفاوضات أو لم تبدأ. ستحل الذكرى الستون لقيام إسرائيل إذن وهي تحتفل بمكاسبها السياسية وبانتفاخها الإقليمي. لكن من واجب العرب أمس واليوم وغدا أن يراجعوا بأنفسهم ولأنفسهم دروس تلك المرحلة الطويلة الدامية من الصراع مع المشروع الصهيوني، بدءا من الحقائق المؤكدة كوقائع مجردة. أولى تلك الحقائق هي أن إسرائيل كمشروع لدولة استمرت تولد أمام أعين العرب طوال نصف قرن على الأقل قبل قيامها. وحينما خاضت إسرائيل حربها الأولى في 1948/1949 كانت تقول إنها انتصرت على جيوش سبع دول عربية. لكن الحقيقة المؤكدة هنا هي أن القوات العسكرية الإسرائيلية في تلك الحرب كانت تبلغ ثلاثة أمثال الجيوش العربية السبعة، فضلا عن تدريبها الأحسن وأسلحتها الأفضل، بخلاف الميزة الأعلى وهي وحدة القيادة والهدف. حينما قامت إسرائيل بحربها الثانية في سنة 1956 كان هذا بمشاركة دولتين إمبراطوريتين هما بريطانياوفرنسا. مشاركة بريطانيا كانت عقابا لمصر على تأميمها لشركة قناة السويس - التي لا علاقة لإسرائيل بها - ومشاركة فرنسا كانت لسبب إضافي هو معاقبة مصر على دعمها للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي. المقاومة المصرية والموقف الدولي منها أديا إلى هزيمة ذلك العدوان الثلاثي في 1956. لكن إسرائيل انسحبت من سيناء مضطرة في آذار مارس 1957 كي تبدأ لتوّها في التحضير سرا لغزوتها الكبرى التي قامت بها في حزيران يونيو 1967. هذه المرة استفادت أميركا من دروس 1956 ونجحت - موقتا - في إخفاء حقائق دعمها لإسرائيل في غزوة 1967 بل ودفعها إليها استثمارا لإسرائيل كوظيفة في المنطقة. وأحد الأوراق المهمة التي استخدمها ارييل شارون ومن قبله موشي دايان لابتزاز أميركا هو التلويح بكشف وثائق الدور الأميركي في مساعدة إسرائيل على شن غزوتها الكبرى في 1967. بدا انتصار إسرائيل عسكريا في 1967 ساحقا والهزيمة العربية مروّعة. مع ذلك فمن الملفت هنا أن عرب 1967 المهزومين هؤلاء لم تنخلع قلوبهم وتنادوا لموقف عربي مشترك، عبرت عنه القمة العربية في الخرطوم في آب أغسطس 1967، ليقرر الخطوط الحمر التي تحكم المقاومة العربية للغزوة الإسرائيلية الكبرى. أما على المستوى الدولي فقد جاء قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر في تشرين الثاني نوفمبر 1967 بإجماع الأصوات بما في ذلك الصوت الأميركي ليقرر أساس التسوية: انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة مقابل إعلان إنهاء حالة الحرب من الدول المعنية، وهي في حينه مصر وسورية والأردن. لا حديث عن علاقات مع إسرائيل من أي نوع، أو سفارات، أو حتى مفاوضات مباشرة. لا مفاوضات مباشرة. المفاوضات كلها تديرها الأممالمتحدة وبهدف تطبيق قرار مجلس الأمن والمبدأ الأساسي في ميثاق الأممالمتحدة، وهو عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة. حينما جرت حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 كان يفترض أن تصبح أساسا أكثر صلابة وثباتا لموقف عربي يتقدم على موقف آب أغسطس 1967. لكن الملفت أن ما جرى كان العكس. شهور قليلة من الزهوة العربية بالانتصار الواضح، ثم بدأ تفكيك الهدف الشامل إلى مراحل جزئية أساسها اتفاقات لفض الاشتباك بين مصر وإسرائيل ثم بين سورية وإسرائيل. كانت اتفاقات فك الاشتباك تلك هي الجسر الذي أقامه وعبره هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي آنذاك كي يفكك الموقف العربي بما لا يعيد روح تشرين الأول أكتوبر العربية مرة أخرى مطلقا. تفكيك وصل إلى ذروته الأولى بالمبادرة المفاجئة التي قام بها أنور السادات بزيارة القدس ثم باتفاقه المنفصل مع إسرائيل في كامب ديفيد 1978 ومعاهدته معها في 1979. خروج مصر عسكريا من الصراع كان يمكن تعويضه بجبهة شرقية يقودها العراق. لكن صدام حسين اختار الحرب الخطأ ضد الجمهورية الإسلامية الجديدة في طهران، ولأهداف ثبت تاليا أنها لا تخدم سوى أميركا وإسرائيل. وحتى من قبل ظهور الوثائق كان هنري كيسنجر هو الذي اختصر المسألة بمقولته: أهمية هذه الحرب هي أنها تتيح للعراق التخلص من إيران، وتتيح لإيران التخلص من العراق. بالنتيجة أسفرت الحرب عن مليون قتيل واستنزفت كلا الدولتينلكي تنتهي عند النقطة نفسها التي بدأت منها. ومن زاوية اهتمامنا هنا فقد خرج العراق تحديدا وهو مثقل بديون تتجاوز عشرات البلايين من الدولارات تصور صدام حسين بجهله وحماقته أن غزو الكويت سيكون مكافأته الأميركية فإذا به يذهب بالضبط إلى الكمين الأميركي والتداعيات المروّعة بعدها على العراق والعالم العربي بمجموعه. أيضا من زاوية اهتمامنا هنا فإن المرحلة الثالثة لتفكيك الموقف العربي جرت بفعل اتفاق أوسلو المفاجئ بين إسرائيل وياسر عرفات في 1993. الآن أصبح التراجع الجديد هو تحويل القضية الشاملة إلى قضايا جزئية. وحتى كل قضية جزئية جرى تفكيكها إلى مسائل أخرى فرعية. لم تعد المرجعية هي الأممالمتحدة ولا قرار مجلس الأمن رقم 242 أو حتى ميثاق الأممالمتحدة. أصبحت المفاوضات هي مرجعية نفسها وحسب إملاءات الطرف الأقوى. كان هذا تغييرا كاملا وجوهريا في قواعد اللعبة سرعان ما انطلقت منه تغييرات أخرى أخذت تفرضها إسرائيل كلما ناسبها ذلك. فمع إعلان إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل الذي وقع هو نفسه على اتفاق أوسلو أنه"لا مواعيد مقدسة"، لم تتحقق الأهداف المعلنة لذلك الاتفاق في موعدها المقرر وهو خمس سنوات. بدلا من ذلك أعلنت إسرائيل وأميركا بديلا جديدا هو"اللجنة الرباعية"التي قررت في 2003"خريطة طريق"تتضمن التزامات متبادلة ومتوازية وعلى مراحل. وفي سنة 2002 كان مسؤولو الإدارة الأميركية يجوبون العواصم العربية طالبين الاحتفاء بما أعلنه رئيسهم لتوّه من أنه يؤيد قيام دولة فلسطينية. لكن مع مضي الوقت أصبح الرئيس الأميركي نفسه يعلن تأجيلا بعد تأجيل إلى أن أعلن أخيرا أنه يتوجب قيام تلك الدولة الفلسطينية قبل نهاية سنة 2008. والآن تقول الإدارة الأميركية إن الهدف الجديد سيكون التوصل إلى"رؤية مشتركة"عن"تعريف الدولة"الفلسطينية قبل نهاية ولاية الرئيس جورج بوش في كانون الثاني يناير 2009. الأسوأ من تقسيم الأرض وتقسيم الهدف أصبح تقسيم الشعب. فإسرائيل وأميركا لم تكونا بعيدتين عن نجاح حركة"حماس"في انتخابات 2006. مع ذلك فهما أيضا اللتان قادتا حصار"حماس"وقطاع غزة كله كي يصبح لدينا شعبان فلسطينيان: شعب محاصر رسميا في قطاع غزة وشعب فلسطيني آخر محاصر فعليا في الضفة الغربية. وفي ما بين فساد حركة"فتح"وتسلط حركة"حماس"أصبحت القضية الفلسطينية تتآكل يوما بعد يوم. وبموازاة هذا كله تفرض إسرائيل حقائقها المستجدة على الأرض. هي مستمرة في"استيراد"المهاجرين، وفي إقامة المستوطنات، وفي تصفية المقاومين الفلسطينيين بعلم أو بغير علم"السلطة الفلسطينية". هذه السلطة بدورها يعتمد استمرارها بحد ذاته على حسن علاقتها بإسرائيل وتعاونها معها. هذه ظاهرة غير مسبوقة في العلاقة بين قوة احتلال وشعب تحت الاحتلال. وبدلاً من أن تصبح المواجهة هي بين الشعب الفلسطيني والقوة التي تحتله أصبح ما نتابعه هو المواجهة بين فلسطينيين هنا وفلسطينيين هناك. حتى الأممالمتحدة لم تعد تعتبر أن من شأنها إدانة اعتداءات إسرائيل الوحشية ضد المدنيين أو استهدافها أفرادا مع عائلاتهم بالاغتيالات. لم تعد الأممالمتحدة طرفا، ولا مجلس الأمن الدولي مرجعية، ولا الأهداف الشاملة عنوانا. أكثر من ذلك أصبحت وزيرة خارجية إسرائيل تدعو العرب علنا الى الاصطفاف مع إسرائيل صفا واحدا ضد إيران. أما القضية الفلسطينية فليتركوها للزمن وللسلطة الفلسطينية. مضت ستون سنة إذن على قيام إسرائيل. وبصورة تقريبية كان نصفها الأول صعودا عربيا رغم الجراح والتعرجات. لكن نصفها الثاني كان هبوطا متتابعا رغم زيادة القدرات. مع ذلك ففي قضايا مصيرية من هذا المستوى يظل الزمن عنصرا محايدا دائما. فقط هي العزيمة وإرادة الانتصار التي تجعله يعمل لحسابنا، وليس سيفا على رقابنا. * كاتب مصري