هناك صعوبة في استقراء مستقبل العلاقات المصرية - الإسرائيلية، بسبب الضباب الكثيف الذي يخيم على قصور الرئاسة ومراكز صنع القرار في عواصم المنطقة العربية، وكذلك في معظم العواصم الغربية. لا يزال الأمر يبدو شديد الغموض، فضلاً عن أن مواقف غالبية الأطراف تكتسي حساسيات مقلقة ومزعجة وتغلب عليها شبهة تواطؤ. ولكن هناك حقائق عدة، لابد من أن تؤخذ في الاعتبار عند محاولة تصميم أي سيناريو مستقبلي للصراع العربي - الإسرائيلي. أولاً: استمرار هيمنة القوى الغربية على العالم العربي والشرق الأوسط وما ينطوي عليه من تأكيد العلاقة العضوية بين أميركا وإسرائيل علاوة على حرص إسرائيل على تأكيد انتمائها إلى الغرب. وعلى رغم أن العلاقة بين إسرائيل وأميركا ستكون المفتاح والضابط إلى حد كبير لاستيعاب السيناريوات المقبلة، إلا أنه بات واضحاً الثمن الباهظ الذي تدفعه الولاياتالمتحدة، والغرب من خلفها لحماية إسرائيل. ولم تعد إسرائيل تقدم مقابل تلك الحماية الغربية أي خدمات جليلة للغرب. فالعالم العربي تفتت وجيوش سورية والعراق وليبيا، لم يعد لها وجود يمثل خطراً. إذ أصبح الانكفاء على المشكلات الداخلية سمة مميزة للمجتمعات العربية، ما يقلل أهمية الدور الذي تقوم به إسرائيل لخدمة الغرب. وهناك رؤية إسرائيلية يمكن الاستشهاد بها في هذا الصدد، فقد كتب تسفي برئيل في»هآرتس» (نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية) أن الدول الغربية تمنح إسرائيل رخصة غير مقيدة لفعل ما ترغب فيه مثل بناء مستوطنات جديدة ومصادرة أراض فلسطينية واحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في الثلاجات وهدم منازل الفلسطينيين وتنفيذ اعتقالات إدارية بأعداد قياسية، وتستند في ارتكاب هذه الجرائم الى أن مكانتها مرتبطة ببطاقة الاعتماد التي حصلت عليها في السابق كونها دولة ضحايا المحرقة النازية وليس إلى تصنيفها دولة «هاي تِك». كما أن حقها في الوجود كان يعتمد أساساً على الشعور بالذنب من طرف معظم دول العالم. ولا تزال إسرائيل على ثقة بأن بطاقة الاعتماد والمشروعية التي حصلت عليها أبدية وأن ما كان في الماضي هو ما سيكون في المستقبل. ولكن الدول الغربية التي منحت إسرائيل صك الوجود واغتصاب الوطن الفلسطيني بدأت تنشأ فيها أجيال جديدة تختلف عن الأجيال القديمة التي منحت إسرائيل هذا الحق. وهناك العديد من المؤشرات القوية التي تؤكد أن صبر العالم إزاء إسرائيل أخذ في النفاد وأن الأجيال الجديدة في العالم كله والغربي بالذات بدأت تسخين المحركات لمواجهة صفاقة الوقاحة والتعالي والاستخفاف بالقانون الدولي وحقوق الشعوب وكان ينظر لها في السابق أنها أسس أخلاقية، إذ كانت إسرائيل ترسخ لدى الرأي العام العالمي أنها قامت على أسس أخلاقية، لكنه بات يدرك حالياً حقيقة إسرائيل باعتبارها آخر دولة كولونيالية في العالم. وبناء على ذلك فإن الجيل الإسرائيلي المقبل هو الذي سيدفع الديون السياسية التي تسببت فيها سياسة إسرائيل منذ قيامها. وإذا كانت الحكومة الإسرائيلية الحالية تواصل سياسة التخويف من أعداء ليست لديهم قوة حقيقية لمحاربة الدولة العبرية (كمايري برئيل) فإن هناك جبل الجليد الضخم الذي ينتظر إسرائيل من وراء الأفق في وقت يواصل القبطان والملاحون الرقص على ظهر السفينة. وقد طرأت بعض المؤشرات الدولية لابد من أن تؤخذ في الاعتبار عند تصميم رؤية استشرافية عن الصراع العربي - الإسرائيلي تتمثل في التغيرات التي طرأت على الموقف الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة مثل اليونسكو التي دانت الانتهاكات الإسرائيلية في المدن التاريخية الفلسطينية منها الخليل والقدس واعتبرت أن التوسعات وأعمال الحفر والبناء غير القانونية التي تقوم بها إسرائيل وبناءها المستوطنات والجدار العازل إنما هي أعمال غير شرعية وتعد انتهاكات تعرقل حرية التنقل والمرور داخل مدينة القدس. وطالبت اليونسكو إسرائيل التي تطلق عليها «سلطة الاحتلال»، بضرورة إنهاء هذه الانتهاكات وفقاً لأحكام اليونسكو والقرارات والاتفاقيات ذات الصلة. ثانياً: توالي الهزائم العربية أمام الكيان الصهيوني خلال حروب 1948، 1956، 1967. وإذا كانت هزيمة 1967 أدت إلى تدشين الحقبة النفطية، فإن حرب 1973 أدت إلى انطلاق عصر التسوية وتدشين حقبة الهيمنة الإسرائيلية التي تسعى إلى تحقيق أهداف عدة، أولها استمرار تفتيت الجبهة العربية، أي التفتيت داخل كل دولة عربية وما بين الدول العربية، وثانيها تحويل إسرائيل قوة إقليمية كبرى ذات قدرة عسكرية مطلقة وذاتية تمكنها من تطبيق نظرية الأمن المطلق وإدارة الصراع في المنطقة، وثالثها إعادة صوغ العقل الجماعي العربي تجاه إسرائيل من خلال اختراق المحيط الثقافي العربي وتسريب التفسير الصهيوني للتاريخ وتشجيع الدراسات والبحوث المرتبطة بالصهيونية كعقيدة وكحركة سياسية. ولا شك في أن زيارة السادات القدس في تشرين الثاني (نوفمبر) 1977 أعطت قوة دافعة لانتكاس الفكر القومي وأظهرت نقاط ضعفه الكامنة، إلا أنها خلقت واقعاً جديداً يتسم باليأس ويؤكد عجز الحكومات العربية عن طرح البديل. فالملاحظ أن معظم الحكومات العربية واصلت النهج الساداتي نفسه مع بعض الاختلافات الشكلية، ما أدى إلى كامب ديفيد عربي على رغم مختلف أشكال المعارضة الشعبية. ثالثاً: أن إبرام اتفاقيات التسوية التي اتخذت شكل المحادثات الثنائية المنفصلة وبدأت بكامب ديفيد المصرية ثم أوسلو الفلسطينية (1993) حققت هدفين إستراتيجيين بالنسبة إلى إسرائيل، يتمثل أولهما في تجزئة التسوية سعياً إلى تجزئة الصف العربي، ما يعني عدم إزالة أسباب الصراع وتحقيق أهداف (إسرائيل الكبرى) على المدى الطويل. فيما يشير ثانيهما إلى نفي الحقوق الشرعية الأصيلة للشعب الفلسطيني وتأكيد شرعية وجود إسرائيل، ما يعني تراجع الإرادة العربية وهزيمتها على المستوى الإستراتيجي. لقد نجحت إسرائيل في إلحاق هزائم عسكرية عدة بالعرب، وفي المقابل كان هناك إدراك عربي أن تلك الهزائم لا تعدو كونها مرحلية يمكن تعويضها. وتجسَّد ذلك الإدراك في رؤية عبدالناصر التاريخية لطبيعة الصراع عندما أكد (أن قطعة من أرضنا قد تسقط تحت الاحتلال ولكن أية قطعة من إرادتنا ليست عرضة لأي احتلال) ولذلك رفع شعار (ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة) وترجمه في إطار من الإجماع العربي في لاءات الخرطوم (لا تفاوض – لا صلح – لا اعتراف – لا تصرف بالقضية الفلسطينية). كما عبّر أبا إيبان عن الرؤية الإستراتيجية ذاتها للصراع من الجانب الصهيوني عندما سئل عما ستفعله الصهيونية لو نجح العرب في تدمير إسرائيل، إذ قال: «كنا سنبدأ من جديد لإقامة دولة إسرائيل». رابعاً: استمرار الممارسات الإسرائيلية العنصرية والعدوانية ضد الشعب الفلسطيني سواء قبل معاهدات التسوية أم بعدها. علاوة على الإصرار على إفشال المفاوضات الثنائية التي تستهدف تنفيذ نصوص إتفاق أوسلو التي تلزم الطرف الصهيوني إقامة دولة فلسطينية على 22 في المئة من الأرض. وفيما تفتح إسرائيل ملفات ممتلكات اليهود وأماكنهم المقدسة في بلدان عربية عدة، فإنها تعطي أبشع نموذج لانتهاك حقوق الفلسطينيين ومقدساتهم بما فيها المسجد الأقصى، ولا تزال تهدم بيوتهم وتأسر ألوفاً منهم من دون اتهامات أو محاكمات، كما ترسل مستوطنيها لإتلاف الحقول واقتلاع أشجار الزيتون. خامساً: لقد التقت المصالح الصهيونية مع مصالح الحكام العرب في إطالة أمد الصراع وكان ذلك لمصلحة إسرائيل كي تتمكن من بلورة أوضاعها ككيان مختلف في المنطقة متفوق عسكرياً. وأراد الحكام العرب الشيء نفسه كي يتجنبوا التصدي لبناء دول ومجتمعات عصرية سوف تؤدي بالضرورة إلى إسقاط نفوذهم. وكشفت الثورات والانتفاضات العربية أن المسألة الفلسطينية لا تمثل الهم المركزي للحكام العرب. سادساً: يلاحظ أن إسرائيل التي تمسكت برفض بنود المبادرة العربية للسلام التي أقرت في مؤتمر القمة العربية في بيروت 2002 وطالبت إسرائيل بالمزيد من التنازلات وقد حصلت على ما تريد في ضوء مبادرة الجامعة العربية التي أعلنها وزير خارجية قطر في شباط (فبراير) 2013 وتضمت المزيد من التنازلات العربية. إذ أكد وفد الجامعة العربية أن الاتفاق في شأن إقامة الدولتين يجب أن يستند إلى أساس حدود 4 حزيران (يونيو) 1967 مع إمكان تبادل طفيف للأراضي. والسؤال: هل ستكتفي إسرائيل بهذا التنازل، أم أنها ستطالب بالمزيد جرياً على عادتها منذ 1948؟ وهل سيبقى شيء لدى الجانب العربي للتفاوض عليه أو لتقديم تنازلات جديدة؟ لقد اتضح بعد مرور 68 عاماً أن إسرائيل اعتمدت مبدأ «خُذ وطالب»، ونجحت في سياسة الخطوة خطوة وأصبح في إمكانها أن تحصل على ما تريد وأكثر مما تريد حتى لم يبق لصناع القرار العرب أي شيء لتقديم تنازل عنه. وتطمح إسرائيل إلى أن يعترف لها العرب بشرعية هذه الانتهاكات وجرائم الحرب وأن يقبلوا استغلالها خطر «داعش» أو تهديدات إيران، ويسارعوا إلى التطبيع والتفاهم على حساب الحقوق العربية. ويلاحظ هنا أن نتانياهو كرَّر في إطار ترحيبه بوزير خارجية مصر بالتحرك المصري في إطار ما سماه مبادرة أوسع في المنطقة، ما يعني إشراك دول عربية فيها. وترى دوائر عربية وإسرائيلية أنه ربما جرى في السر أخيراً تحرك في شأن احتمال عقد اتفاقية صلح أو معاهدة سلام أو بروتوكول صداقة وأمن متبادل أو أي صيغة أخرى، تؤدي إلى إقامة علاقات ديبلوماسية أو سياسية بين إسرائيل ودول عربية. سابعاً: انتقال الجماهير العربية من حالة الحماسة والحيوية والتفاؤل التي رافقت حقبة المد القومي خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي والتي استمرت حتى حرب 1973 إلى حالة السلبية واللامبالاة التي أعقبت مسيرة التسوية مصرياً وعربياً وقمع الانتفاضتين الفلسطينيتين، ثم الاحتلال الأميركي للعراق فضلاً عن القمع المنظم الذي تمارسه حكومات عربية ضد جماهيرها من خلال وسائل السيطرة المتنوعة بدءاً بالإعلام. وهكذا غاب الهدف القومي متأثراً بالتحولات الحادة التي شهدتها المنطقة العربية منذ نهاية السبعينات، متمثلاً على المستوى الإقليمي في تصفية الناصرية، وتحييد موقف مصر وتآكل الثوابت الوطنية الفلسطينية، في ظل الهيمنة الغربية. هذه الأسباب الموضوعية أدت إلى تجريد الشعوب العربية من حيويتها وقدرتها على المقاومة، بل ألقت بها في جب عميق من الإحباط والشلل وفقدان الأمل في المستقبل. ولكن هذه المظاهر السلبية لا تجعلنا نتجاهل استمرار نبض الاحتجاج الشعبي الذي تجسَّد في مواقف معظم القوى العربية غير الرسمية مثل الاتحادات والنقابات والأحزاب والجمعيات ومنظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الأكاديمية التي اتخذت مواقف ثابتة ضد إسرائيل والصهيونية. * كاتبة مصرية