حينما سُئل بيل ريتشاردسون السفير الأميركي لدى الأممالمتحدة "الحياة" 15/3/1998 عن رده على الاتهام الموجه إلى بلاده بالازدواجية في المعايير بسبب استثناء اسرائيل حتى من التدقيق في ما تمتلكه من أسلحة دمار شامل، وبالتساهل الكامل مع رفضها تطبيق القرارات الدولية، أجاب قائلاً: "يوجد فرق بين اسرائيل والعراق بالنسبة الينا، فهي حليف قوي وشريك ثمين، وهي تطبق قرارات مجلس الأمن. في رأينا لا مجال للمقارنة". وحينما سُئل عن عدم امتثال اسرائيل للقرارات الدولية الخاصة بالاستيطان، أجاب: "نؤمن بأن اسرائيل دولة قوانين قائمة على الديموقراطية، ولو عاملتها الأممالمتحدة بطريقة أقل عدائية من دون اصدار هذا العدد من القرارات المعادية لها لكانت هناك أجواء أفضل لمحادثات السلام وغيرها من القضايا المهمة بالشرق الأوسط". ولنترك موقتاً هذا التناقض الصارخ في إجابات المندوب الاميركي لجهة أن اسرائيل في رأيه "تطبق قرارات مجلس الأمن" وفي سطر آخر الأممالمتحدة هي المذنبة بسبب "كل هذا العدد من القرارات المعادية لإسرائيل". نريد هنا أن نتوقف فقط عند الازدواجية الأميركية في تطبيق قرارات مجلس الأمن، وتحديداً عند تفسير الولاياتالمتحدة لهذه الازدواجية كلما تعلق الأمر باسرائيل. فطوال الأسابيع الأخيرة واجه المسؤولون الأميركيون الاتهام السائد بالازدواجية حيثما توجهوا. وسواء جاء الرد الأميركي على مستوى وزيرة الخارجية في اجتماعها الطلابي في ولاية أوهايو، أو على مستوى المبعوث الرئاسي الأميركي الى القاهرة ودول الخليج، أو على مستوى مساعد وزيرة الخارجية الأميركية في زيارته الأخيرة الى المغرب، كانت الحجج الأميركية المتكررة تصل الى مستوى غير مسبوق من التضليل السياسي والاعلامي. لنأخذ، مثلاً، اجابة مارتن انديك مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط وهو يرد على الاتهام السائد بازدواجية موقف بلاده، اذ أجاب قائلاً: "إن الادارة الاميركية تعلم أن هذا هو الانطباع السائد في العالم العربي. وهذا ليس تقويماً موضوعياً للمسألة. ومن يعتقد بازدواجية السياسة الخارجية الأميركية لا يعرف أن القرارات التي تطبق على العراق هي مختلفة عن تلك التي تنفذ في منطقة الشرق الأوسط" اذ أن: "القرارات الصادرة عن الأممالمتحدة في شأن الشرق الأوسط تفسح المجال أمام المفاوضات لإقرار السلام" فيما الأمر غير ذلك بالنسبة الى القرارات الخاصة بالعراق. إذن، القرارات الخاصة باسرائيل هي للتفاوض، اما تلك الخاصة بالعراق فهي للتنفيذ؟ يبدو ذلك، على الأقل، في ما يروجه المسؤولون الأميركيون. لكن هناك ما هو أكثر فجيعة. ففي ندوة منشورة أفتى أحد الاكاديميين العرب بأن الفارق بين حالتي اسرائيل والعراق هو الفارق بين الفصل السادس والفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة إذ أن: "الفصل السادس يتعلق بمحاولة حل المنازعات سلمياً، وتصدر فيها عن مجلس الأمن توصيات غير ملزمة لأنها عادة توجه إلى الطرفين للتفاهم وتوسيط دولة ثالثة. لكن العقوبات تقع تحت الفصل السابع اذا وجد موقف يهدد السلم الدولي. وفي هذه الحال تكون قرارات مجلس الأمن ملزمة". لنبدأ من الآخر. فالحقيقة المجردة أن كل قرارات مجلس الأمن هي بحكم الميثاق قرارات ملزمة للدول الأعضاء في الأممالمتحدة وواجبة التنفيذ. والمادة 25 من ميثاق الأممالمتحدة تقول حرفياً: "يتعهد أعضاء الأممالمتحدة بقبول قرارات مجلس الأمن وبتنفيذها وفق هذا الميثاق". والفصل السادس من الميثاق يتناول حل النزاعات الدولية سلمياً. فإذا لم يتيسر ذلك ولم تلتزم الأطراف المعنية بتنفيذ قرارات مجلس الأمن في هذا الخصوص، يصبح من سلطة مجلس الأمن التصرف حسب مواد الفصل السابع. يعني فرض العقوبات التي تجبر الطرف المعني على التنفيذ. إذن الفارق بين الفصلين السادس والسابع من ميثاق الأممالمتحدة لا يتعلق بالصفة الالزامية من عدمها، فكل قرارات مجلس الأمن ملزمة للدول الأعضاء في الأممالمتحدة، الفارق يتلخص فقط في وجود عقوبات من عدمه. وكما أشار قارئ نبيه في بريد القراء لصحيفة أميركية كبرى فإن هناك أكثر من ستين قراراً في هذا الخصوص انتهكتها اسرائيل بمفردها، في سابقة غير متكررة في تاريخ الأممالمتحدة منذ قيامها. هذا القارئ ضرب من جانبه مثلاً بقرار مجلس الأمن رقم 509 الصادر في سنة 1982 وهو يطلب من اسرائيل سحب كل قواتها المسلحة على الفور وبلا قيد ولا شرط الى الحدود الدولية المعترف بها للبنان. هناك أيضاً قرار مجلس الأمن الرقم 465 الصادر في سنة 1980 الذي يطلب من اسرائيل تفكيك المستوطنات في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس، والتوقف عن التخطيط لإقامة أو إقامة مثل هذه المستوطنات. تلك قرارات وليست توصيات. وهي ملزمة لإسرائيل - شاءت أو لم تشأ - بحكم ميثاق الأممالمتحدة حرفياً. وهي أيضاً قرارات لم تطلب أي مفاوضات أو توصي بمفاوضات. مع ذلك فلا تزال قرارات ولا تزال اسرائيل تنتهكها. لكننا نريد هنا التركيز على قرارين آخرين لمجلس الأمن، لأنهما أكثر ما يستهدفه التضليل الاعلامي في السنوات الأخيرة، وهو بكل أسف تضليل يبدو أن البعض منا تنفسه واستنشقه فعلاً سواء بجهل أو بعلم. لنبدأ بالقرار 425 المثار حالياً. هذا قرار أصدره مجلس الأمن في سنة 1978 عقب غزوة اسرائيل الكبرى الأولى للبنان. إنه قرار يدعو في بنده الأول إلى: "احترام صارم لسلامة الأراضي اللبنانية وسيادة لبنان واستقلاله السياسي ضمن حدوده المعترف بها دولياً". وفي بنده الثاني: "يدعو اسرائيل الى أن توقف فوراً عملها العسكري ضد سلامة الأراضي اللبنانية والى أن تسحب على الفور قواتها من كل الأراضي اللبنانية". زيادة على ذلك فإن مجلس الأمن - في البند الثالث من القرار: "يقرر في ضوء طلب الحكومة اللبنانية أن ينشئ فوراً تحت سلطته قوة موقتة تابعة للأمم المتحدة خاصة بجنوبلبنان وغايتها التأكد من انسحاب القوات الاسرائيلية واعادة السلام والأمن الدوليين ومساعدة حكومة لبنان على ضمان استعادة سلطتها الفعلية في المنطقة". اذن نحن هنا أمام قرار محدد من مجلس الأمن وآلية محددة ينص عليها للتنفيذ. ليست هناك مطلقاً أي مفاوضات مطلوبة بين لبنان واسرائيل ولا هناك مساومة. هناك حدود معروفة للبنان والتزام اسرائيل بالانسحاب الكامل اليها قاطع. فاذا طلب لبنان قوة دولية من الأممالمتحدة فله ذلك. وهذا ما حدث فعلاً ولا تزال تلك القوة موجودة في الجنوباللبناني حتى اللحظة. فقط اسرائيل منذ سنة 1978 هي التي تمنعها من الوصول الى الحدود الدولية للبنان لأن اسرائيل ذاتها مستمرة في احتلال جنوبلبنان. هناك أيضاً القرار 242 الذي أصدره مجلس الأمن في 22 تشرين الثاني نوفمبر 1967. وفي مقدمة القرار ان مجلس الأمن: "يؤكد عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب" ثم ينص في بنده الأول على التزامين. الأول: "انسحاب القوات الاسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في النزاع الأخير". وثانياً: "إنهاء جميع حالات الحرب أو الادعاء بها واحترام والاعتراف بالسيادة ووحدة الأراضي والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة". وفي بنده الثاني يؤكد مجلس الأمن ضرورة: "ضمان حرية الملاحة في الممرات المائية الدولية في المنطقة - تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين - ضمان الحرية الإقليمية والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة من خلال اتخاذ اجراءات تشتمل على اقامة مناطق منزوعة السلاح". وفي البند الثالث من القرار فإن مجلس الأمن: "يطلب من الأمين العام - للأمم المتحدة - أن يعين ممثلاً خاصاً له ليتوجه إلى الشرق الأوسط واقامة اتصالات مع الدول المعنية من أجل السعي لايجاد اتفاق والمساعدة في الجهود الرامية إلى تسوية سلمية ومقبولة بما يتمشى مع شروط هذا القرار ومبادئه". وفي البند الرابع والأخير يطلب مجلس الأمن من الأمين العام "أن يرفع الى مجلس الأمن تقارير عن تقدم جهود الممثل الخاص في أسرع وقت ممكن". نريد هنا ألا ننسى للحظة واحدة أن القرار 242 هذا صدر في تشرين الثاني نوفمبر 1967، أي في ذروة احساس اسرائيل بالنشوة بعد غزوتها الكبرى، وذروة الحماية الأميركية لإسرائيل داخل الأممالمتحدة، ووطأة الهزيمة المروعة التي ذاقها العرب لتوهم على المستوى العسكري. مع ذلك فمقابل إلزام اسرائيل بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وقتها - سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان - لم يطلب من الأطراف العربية المعنية مصر وسورية والأردن سوى إنهاء حالة الحرب مع اسرائيل. أما الآلية التي حددها مجلس الأمن لتنفيذ القرار فكانت تعيين ممثل خاص للأمين العام للأمم المتحدة هو الذي يتصل بالأطراف المعنية. فحتى مطلب المفاوضات المباشرة الذي كانت اسرائيل تلح عليه بدعم أميركي كامل لم يتحقق بالمرة. بعدها أصبح السؤال: ماذا لو لم تذعن اسرائيل لهذا القرار؟ هنا تصبح الاجابة: العودة الى مجلس الأمن ليتحرك الى عقوبات الفصل السابع ويفرضها ضد اسرائيل. وطوال 31 سنة كانت الولاياتالمتحدة تعتبر أن القرار 242 هو انجيلها الخاص في ما يتعلق بالصراع العربي - الاسرائيلي. هل تريد سورية استرداد الجولان؟ إذن عليها أولاً القبول بقرار 242. هذا ما حدث في سنة 1974. هل تريد منظمة التحرير الفلسطينية الانضمام الى التسوية؟ اذن عليها قبل أي حديث أن تقبل أولاً بالقرار 242 رغم أنها لم تكن أصلاً طرفاً يعنيه القرار. مع ذلك حدث. لكن اسرائيل استمرت ترفض حتى الآن تنفيذ القرار 242. إذن هل يطلب العرب من مجلس الأمن التحرك الى الفصل السابع من الميثاق لفرض العقوبات ضد اسرائيل؟ أبداً. والذي يقول: "أبداً" هذه ليس سوى الولاياتالمتحدة بسلطة الفيتو في يمينها وصندوق النقد الدولي في يمينها ومشاة البحرية الأميركية وصواريخ كروز في يسارها. هذا يعيدنا من جديد إلى مفهوم الولاياتالمتحدة للأمم المتحدة في ما بعد انفرادها موقتاً بمركز القوة العظمى الوحيدة في الساحة الدولية.