دأبت الدعايات الصهيونية والغربية على استخدام مختلف الأساليب وأشكال التزيين لإخفاء وتمويه علاقة الصهيونية واسرائيل بالغرب عموماً وبالولاياتالمتحدة خصوصاً، كما دأبت السياسة العربية على نسبة القرارات الاميركية، في ما يختص بالصراع العربي - الاسرائيلي الى الصهيونية وتأثيرها على صُنّاع القرار في الولاياتالمتحدة. لهذا السبب من المهم ان نعي بوضوح ما هي الأجهزة والجهات صاحبة القدرة والصلاحية في هذا المجال. من جملة الحقائق والمعطيات المعروفة حول علاقة الولاياتالمتحدة الخاصة مع الكيان الصهيوني ودور اسرائيل في المنطقة، ومدى حرص الولاياتالمتحدة على ضبط ايقاع الحركات السياسية والعسكرية لاتباعها في المنطقة، يمكننا الاستنتاج أن القرار الاسرائيلي في القضايا الجوهرية، لا بل في بعض الأمور الداخلية الاسرائيلية، لا يمكن أن يكون قراراً اسرائيلياً خالصاً. فالمنطقة العربية أخطر من أن تُترك تحت رحمة التجمع الاستيطاني الصهيوني الذي يتراوح مسلكه بين جنون العظمة وهستيريا الفزع. هذه الحقيقة ليست مجرد ظاهرة طارئة مقترنة بمرحلة زمنية معينة، بل هي ظاهرة ملازمة لاسرائيل منذ نشأتها، ولكنها لم تكن تتبدى في الماضي، إلا في بعض الحالات والمنعطفات، من خلال توزيع الأدوار على بعض الدول الاوروبية. لقد فرضت أميركا على اسرائيل القرارات التي تريدها عام 1949 حينما وصل الجيش الاسرائيلي الى مشارف العريش، وفي عام 1956 أفلح الضغط أيضاً، وكذلك حدث في حرب "الاستنزاف" وفي حرب "يوم الغفران". ويقول يعقوب أرلشتاين الكاتب الاسرائيلي: "وقد نجحت حرب الأيام الستة لأن الولاياتالمتحدة لم تمارس ضغوطاً على اسرائيل". من الواضح ان تلك الحرب تمت بموافقة أميركا، لأن الجيش المصري كان اقترب من منابع النفط في حرب اليمن. ويشير الكاتب نفسه الى "أن كيسنجر سافر الى موسكو، إبان حرب تشرين ووقع هناك على اتفاق وقف اطلاق النار من دون أن يُعلم اسرائيل بذلك". أما الكاتب الاسرائيلي حاييم شور فيقول: "ان دولة اسرائيل تعتبر في مجموعة المصالح الشاملة للولايات المتحدة، عاملاً يمكن استخدامه عند الضرورة ومن غير المستحسن الاعتراف بذلك". لكن حرب تشرين واهتزاز الكيان الصهيوني قادت الى القاء المزيد على ظاهرتين متلازمتين: عجز الزعامة الاسرائيلية في اتخاذ القرارات، وحقيقة ان اسرائيل لم تعد تملك المبادرة في تحريك الأحداث في الشرق الأوسط، وانها أصبحت للمرة الأولى في تاريخها مواجَهة ومطالبة بضرورة اتخاذ قرارات، تُمثّل سلسلة من التراجعات الحقيقية. إذ أصبحت أية مغامرة عسكرية، تقوم بها، غير مأمونة العواقب. هذه الظاهرة ليست طارئة، وليست متوقفة على زعامة من دون أخرى، بل هي صفة ملازمة للكيان الصهيوني، فها هي الأزمات تأخذ بخناق صانعي القرار الاسرائيلي بعد مؤتمر مدريد للسلام، كما كانت قبله. وها هم الصحافيون والسياسيون الاسرائيليون يلقون اللوم على الحكومات والزعامات، ويلوكون الاتهامات ويقدمون التفسيرات نفسها. أين الحل إذاً؟ كيف تخرج اسرائيل من أزماتها؟ عند كل أزمة، ترتفع الأصوات من كل جانب، بأن الحل يكمن في اجراء انتخابات جديدة للخروج "بزعامة وطنية"، ونابعة من "صميم الأحداث". فوظيفة الانتخابات الاسرائيلية - السابقة واللاحقة -، ليست أكثر من اعطاء مهلة للاسرائيليين لإعادة صوغ قراراتهم وأولوياتهم. فاليمين يزاود ليرضي الجمهور، ويهدد ليخيف الطرف العربي من أجل الفوز بأكبر قدر من غنائم الاحتلال، و"اليسار"، يتصلب أمام الجمهور اليهودي ويراوغ ويداهن الطرف العربي ويراهن على "سلام" ينجزه بأقل قدر من التراجع. أما الولاياتالمتحدة فتكتمل لها "أدوات الشغل"، فهي تستعمل فزاعة اليمين لدفع العرب الى مزيد من التنازل، وتغريهم بخطاب اليسار "لانتهاز الفرصة" للقبول بفتات حقوقهم. وفي الحالين تظهر نفسها وسيطاً نزيهاً. والظاهرة الثانية تتبدى بأن اسرائيل لم تعد قادرة على اختيار النهج الذي تريد، بل أصبحت مرتبطة مع الولاياتالمتحدة "في كل عمل سياسي أو عسكري على حد سواء". ويرى يوسف حريت بأن "واشنطن كفّت عن سؤال اسرائيل، وهي تنسى التشاور معها، وتفعل ما تراه حيوياً، حتى لو تسببت بمفاجآت لاسرائيل". ويرى مئير تلمي سكرتير حزب مبام، بأن الولاياتالمتحدة تعرف ان اسرائيل عصفور بيدها، وستبقى مخلصة لها حيث لا يوجد أمامها خيار "آخر". وبعد العدوان الاسرائيلي على مصر عام 1967، عندما طلب رئيس الوزراء ليفي أشكول، سحب الجيش الاسرائيلي - بناء على توصية موشي دايان - سحب الجيش بضعة كيلومترات شرق قناة السويس "حتى لا نستفز المصريين"، أمرته الادارة الاميركية، بأن يبقى حيثما هو، حتى تسمح له بذلك. وخلال مفاوضات التسوية الجزئية مع مصر، كانت الاقتراحات التي يعدها الفريق المفاوض المؤلف من رابين وآلون وبيريز، ترسل أولاً الى وزارة الخارجية الأميركية وبعد الموافقة عليها أو تعديلها، تُعاد الى اسرائيل كي تصادق عليها الحكومة الاسرائيلية، ومن ثَمَّ تعاد الى الخارجية الاميركية لإرسالها الى مصر. وعندما تسربت رسالة جيرالدين فورد، التي يطالب فيها رابين بعدم اقامة أية مستوطنات في الجولان والضفة الغربية من دون تشاور مسبق مع الولاياتالمتحدة واضطر رابين الى ارجاعها "حفاظاً على هيبة" حكومته، ردت الادارة الاميركية، وفي مؤتمر صحافي علني، بأن على اسرائيل استشارة الولاياتالمتحدة. وعلقت الصحف الاسرائيلية على ذلك بالقول: "حتى الآن كانت الادارة الاميركية تقدم تعليماتها لاسرائيل علناً. فجاءت الأوامر لتبرهن من هو صاحب البت هنا". وعندما اعتمد نتانياهو على اللوبي الصهيوني وبعض رجال الكونغرس ليلاحق كلينتون ورفض عملياً تنفيذ اتفاق "واي ريفر"، قال كلينتون: "ان هذا الرجل لا يعرف من هو رئيس الدولة العظمى". ونقلت أوساط كثيرة في الادارة الاميركية الى نتانياهو بأنه "اذا اراد الحديث مع كلينتون فلديه هاتف البيت الأبيض". ان الاسرائيليين يعرفون موقعهم - مهما كابروا - في معادلة أخذ القرار والقوة والوجود، أكثر بكثير مما يعرف العرب عنهم. فها هو الكاتب السياسي أوري افنيري يكتب معلقاً على غباء نتانياهو: "ان قلعة وجودنا ليست في نفق القدس، ولا في موقع رأس العمود، انها علاقاتنا مع الولاياتالمتحدة، انها تمنحه تمنحنا كل سنة هدية مالية مذهلة، تمنحنا السلاح الحيوي، المطرقة الأمنية والمساعدة الاستخباراتية انها تستخدم حق الفيتو من أجل الدفاع عنا أمام حكم الشعوب، انها تمنحنا الأمن الذري وتتجاهل أعمالنا في هذا الصدد". يكتب موشي فرنكل: "ان اسرائيل حليف صغير للولايات المتحدة، ان المعراخ والليكود يتحاوران ويتناقشان الآن حول سؤال واحد يقول: تُرى ما هي السياسة الاسرائيلية التي تعتبر الأكثر ملاءمة للمصالح الأميركية؟ وهل تُعتبر اسرائيل - التي يسيطر عليها الليكود أو التي يسيطر عليها المعراخ - هي المُدافع المجدي جداً عن "العالم الحر"". آلية اتخاذ القرار الاسرائيلي غالباً ما يتم اتخاذ القرار الاميركي - الاسرائيلي تحت ستار التشاور والتنسيق من خلال المذكرات أو الرسائل السرية، أو أثناء الزيارات المتبادلة والاتصالات، وبعد أن تكون الأجهزة السياسية الاسرائيلية والاعلامية مهدت لذلك، بهدف اظهار القرار، وكأنه صادر من اعتبارات اسرائيلية، أو جاء تلبية للمصلحة الاسرائيلية، كما يحدث عادة قبيل اتخاذ القرارات المتعلقة بالحروب العدوانية التي تشنها اسرائيل في المنطقة، بما فيها حتى الغارات الاسرائيلية على الفدائيين والمقاومة في جنوبلبنان. أما في الحالات التي يحتاج الأمر فيها الى وجود هامش للمناورة ويقتضي ظهور نوع من الاختلاف بين الموقفين الأميركي والاسرائيلي، فإن الاعتبارات تتعلق بالوضع الداخلي، أو بالتحرك السياسي الأميركي، كما هو الحال بالنسبة للنزاع العربي - الاسرائيلي، فإنه يسبق اتخاذ القرار عادة الحديث عن وجود تعارض بين مصالح كل من اسرائيل والولاياتالمتحدة، وعن ضغوط تمارس ضد اسرائيل، بحيث تصبح معها مرغمة على الأخذ بأحد خيارين، فإما أن تستجيب للضغط وتقبل بالموقف الذي تريده الولاياتالمتحدة، وإما عدم الاستجابة للضغط وبالتالي تعريض علاقاتها مع الولاياتالمتحدة للخطر والتمزّق، ويتبع ذلك قيام الولاياتالمتحدة بإغداق مساعداتها المالية والعسكرية على اسرائيل وتقديم الضمانات لها، تعويضاً عن "التنازلات". وتقتضي آلية اتخاذ القرار الاميركي - الاسرائيلي وجود ثلاثة شروط: 1 - ان يكون الفريق الموجّه في الحكومة الاسرائيلية، خصوصاً رئيسها، صاحب موقف صقري تجاه العرب، وهو أمر مطلوب لاعتبارات عدة في مقدمتها ضرورة مراعاة الوضع الداخلي في اسرائيل. 2 - ان يكون رئيس الوزراء الاسرائيلي قوياً وقادراً على ضبط وزارته وتمرير القرارات من خلالها. 3 - المحافظة على السرية وقواعد التمويه بالنسبة الى حقيقة العلاقات بين اميركا واسرائيل. ان رؤساء الوزارات الاسرائيلية قدموا أنفسهم مع هذه المتطلبات بطلب صارم من الولاياتالمتحدة. فالذين لم يكونوا صقوراً، أصبحوا كذلك عندما صعدوا الى رئاسة الوزارة. وجميعهم أحاطوا أنفسهم بفريق أكثر شهرة و"وطنية" وجميعهم طعّموا وزاراتهم بأشخاص عُرفوا ب"اعتدالهم". أما في مجمل الأمور كان يطلب بوضوح من الذين لا يوافقون على سياسة الحكومة تقديم استقالاتهم منها. وفي سبيل منع التسريب اضطرت الحكومة الاسرائيلية الى اصدار قرار بتاريخ 18/1/1976، يقضي يحظر نشر أي اخبار حول الرسائل والاتصالات والزيارات السرية بين اسرائيل والدول الأخرى. والآن بعد نجاح شارون، فإنه ينبغي على الفلسطينيين والعرب، ألاّ يخشوا هذا الأمر. فأمام شارون خياران ونصف: الأول القبول بالتسوية بحسب التصور الأميركي لها. ويمكن تلخيصها بثلاثة خطوط عريضة: العودة الى حدود عام 1967 مع تعديلات تبقي الكتل الاستيطانية الكبيرة تحت السيادة الاسرائيلية ومبادلتها بأراض كانت تخص الفلسطينيين وراء خط الهدنة" تبقى القدسالشرقية - المخنوقة بمستوطنات وأحياء يهودية - تحت شكل من السيادة الفلسطينية. وأما القدس البلدة القديمة بما فيها الأماكن المقدسة فتقسم السيادة عليها بين الفلسطينيين والاسرائيليين" الاعتراف لفظاً بحق عودة اللاجئين، وتطمين اسرائيل بأن العائدين بضعة آلاف فقط. النصف خيار: ان يُناور شارون لتجاوز هذه التسوية بحيث يحتفظ بأكبر قدر ممكن من غنائم وميزات الاحتلال - أرضاً وسيادة -، مستعملاً القوة العسكرية المحدودة ضد الفلسطينيين، وإذا أصر على التصدي لهذه التسوية، يكون "هو الرجل الذي يحقق في نهاية الصدام المضرّج بالدم مع الفلسطينيين، تنازلات كبرى وأليمة". وقد يضطر للاستقالة والدعوة الى انتخابات جديدة. الخيار الثاني: ان تهديد شارون بحرب شاملة هو مجرّد تهويش وتهويل. فحتى اذا كانت اسرائيل تملك دوافع الحرب، فيجب إضافة الى هذه الدوافع، أن تكون هناك أهداف يؤدي النصر في الحرب الى تحقيقها. غير أن وجود حاجات ودوافع تدفع اسرائيل للحرب، لا يكفي لتجعلها تشن حرباً، إذ يجب أن تتوافر في مقابل الحاجات الاسرائيلية حاجات اميركية، وفي مقابل الدوافع الاسرائيلية دوافع اميركية. ان هذه الحاجات والدوافع والأهداف الاسرائيلية والأميركية ليست متطابقة ولكنها متقاطعة. وان النقطة التي يجري فيها تقاطع خط الحاجات الاسرائيلية المتجه لتحقيق اهداف اميركية، هي النقطة التي يتم فيها اتخاذ قرار الحرب ضد العرب. وهذه النقطة الآن غير موجودة. لكن هذا التصور الاميركي للتسوية هو الخطر الأكبر الذي يهدد حقوقنا وقضيتنا ووجودنا الحر، إذ انه يبقى بعيداً جداً من الحد الأدنى لحقوقنا، فتبادل الأراضي لا يتم بأراض "اسرائيلية"، بل يتم، أصلاً، بأراض هي جزء من أراضي الدولة الفلسطينية التي شملها قرار التقسيم رقم 181 ومساحتها تبلغ 5750 كيلومتراً مربعاً - وهي أكبر من مساحة الضفة والقطاع معاً الذي ينطبق عليها، ما كان مفروضاً ان ينطبق على الممرات الآمنة، فهم عندما يبادلوننا بهذه الأراضي، مثلهم مثل الذي ينشل من جيبنا اليمنى ليعطينا بدلاً منه جزءاً مما كان نشله من جيبنا اليسرى. أما القدس فهي ليست القدس التي نعرفها، ويبقى مصير 4 ملايين لاجئ في مهب الريح. هذا، ناهيك عن حقوقنا التاريخية. ينبغي ألا يفهم مما سبق ان التصور الاميركي للحل هو قدرٌ محتوم علينا، ينبغي التعامل معه وتطويره حتى يتقاطع مع الحقوق الفلسطينية والعربية أو افشاله نهائياً، وهذا يستلزم: 1 - موقفاً فلسطينياً متماسكاً داخلياً وخارجياً واعادة النظر في النهج والأسلوب المتبعين حتى الآن. 2 - موقفاً عربياً صلباً ومتماسكاً ملتزماً بدعم الانتفاضة الفلسطينية قولاً وفعلاً، ومستعدين لنيل حقوقهم ولو كلفهم ذلك التصدي للمشاريع والتسويات الأميركية - الاسرائيلية. * مؤسس وصاحب مؤسسة الأرض. للدراسات الفلسطينية سابقاً.