كانت العلاقات العربية - الأميركية في بداياتها التاريخية مبشرة، فالشعوب العربية كانت تنظر في ذلك الوقت الى الولاياتالمتحدة على أنها بمثابة جزيرة تقدمية في بحر من الرجعية الاوروبية، وذلك نتيجة لكونها لم تدخل في صراعات أو مواجهات تاريخية أو مطامع استعمارية، على غرار ما كانت تتسم به سياسة اوروبا تجاه العالم العربي. كما كانت مبادئ الرئيس الاميركي ويلسون في شأن حق تقرير المصير في اعقاب انتهاء الحرب العالمية الاولى مصدر إعجاب وإلهام من جانب قادة الحركات الوطنية العربية، وفي مقدمها الحركة الوطنية المصرية، ولذلك كان من المتوقع أن تنمو موجة التفاؤل الخاصة بهذه العلاقات وتتعمق بين الجانبين العربي والاميركي، ولكن مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من تداعيات ونتائج وأحداث خاصة بمنطقة الشرق الأوسط، ولعل من أهمها على الإطلاق قيام دولة اسرائيل، دخلت العلاقات العربية - الاميركية طوراً جديداً أكثر تعقيداً. فقد أصبحت منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم محكومة بالصراع العربي - الاسرائيلي وبطبيعة العلاقة الخاصة بين الولاياتالمتحدة واسرائيل، ومن ثم اصبحت سمة التذبذب والشد والجذب هي السمة المميزة لتلك العلاقات. ومع هذا كان هناك مدى معين لما يمكن أن تذهب اليه الولاياتالمتحدة في سياستها تجاه المنطقة العربية طيلة حقبة الحرب الباردة نتيجة لما أتاحه النظام الدولي في تلك الحقبة التاريخية حتى اوائل التسعينات، من حرية حركة امام الأطراف العربية في مواجهة سياسة واشنطن في المنطقة، ومكنها مثلاً من اتخاذ قرار بحظر تصدير النفط اليها في اعقاب اندلاع حرب 1973، بل وإمكان تهديد المصالح الاميركية ذاتها في المنطقة بدرجة حقيقية. ولكن منذ انتهاء حرب الخليج الثانية، ثم ما تبعها من تفكك وانهيار الاتحاد السوفياتي ذاته، ومن ثم انتهاء الحرب الباردة رسمياً، اصبحنا نعيش في ما يسمى باللحظة - الاميركية. أي اللحظة التي اصبحت فيها الولاياتالمتحدة السيد الاعظم في النظام الدولي والذي أصبحت رؤيته هي الرؤية السائدة في ذلك النظام، وذلك بتسليم مختلف الدول، كبيرها وصغيرها، بتلك الحقيقة. ومن هنا بدأت مرحلة جديدة من العلاقات العربية - الاميركية، إذ انتفت، الى أدنى حد، مصادر التهديد للمصالح الاميركية، في المنطقة مع تسارع مختلف الدول العربية، وبخاصة تلك التي كانت تتميز بالراديكالية تجاه السياسة الأميركية في المنطقة، لكسب رضاء واشنطن. واستغلت واشنطن من جانبها تلك الحقائق الجديدة في النظام الدولي والإقليمي العربي، أيما استغلال، في إعادة رسم خريطة التفاعلات السياسية والاقتصادية والأمنية في المنطقة بما يتفق ورؤيتها ومصالحها في النظام العالمي الجديد، في الانتقال بالشرق الأوسط عبر عملية السلام من منطقة ذات هوية صراعية عربية - اسرائيلية، إلى شرق اوسط ذي توجهات تعاونية عربية اسرائيلية إقليمية، بما يعنيه ذلك من استبدال الصيغ المؤسسية القومية القائمة مثل الجامعة العربية، بصيغ مؤسسية اخرى شرق أوسطية أكثر تعبيراً عن خريطة التفاعلات الجديدة في المنطقة. وعلى هذا الأساس بدأت واشنطن الترتيب لعملية السلام، والتي انطلق قطارها من مؤتمر مدريد في تشرين الأول اكتوبر 1991، ورغم تسليم الأطراف العربية المشاركة في هذه العملية وإقرارها بأهمية الدور الأميركي كوسيط له صفة الشريك الكامل في الضغط على اسرائيل للوصول الى تسوية مرضية لكل الأطراف، إلا ان مفهوم واشنطن لدور الوسيط أصاب الأطراف العربية بخيبة أمل، إذ جاء هذا المفهوم الاميركي لدور الوسيط منسجماً مع المفهوم الاسرائيلي، والذي يعنى تجنب الضغط على تل ابيب لتقديم تنازلات من جانب واحد في مفاوضاتها مع الدول العربية ومشاورتها قبل أن تقدم أي مقترحات إلى طاولة المفاوضات بين العرب واسرائيل في شأن مستقبل المنطقة، وذلك في الوقت الذي رفضت قيام اي اطراف اخرى بدور ذي شأن في عملية السلام، وبخاصة من جانب دول الاتحاد الاوروبي، رغم اعتراف قادته بأن دوره سوف يكون مكملاً للدور الاميركي وليس بديلاً عنه، ولاستعادة الثقة في الراعي الاميركي الذي فقد صدقيته لدى الجانب العربي بانحيازه الواضح لإسرائيل. وحدث أن وصف المسؤولون الاميركيون محاولات الاتحاد الاوروبي للعب دور في مفاوضات عملية السلام بأنه سيحولها الى امم متحدة اخرى، وبأن كثرة الطباخين تفسد الطبخة، وأن هذا من شأنه أن يؤدي الى تصلب الموقف العربي في المفاوضات مع اسرائيل وتجاه واشنطن، داعية الاتحاد الاوروبي الى الاقتصار على عملية تمويل ودعم عملية السلام. وتمثل الانحياز الاميركي لاسرائيل في تبنى المواقف الاسرائيلية ورفض إدانتها في مجلس الأمن الدولي، مثلما هو الشأن بالنسبة الى الاستيطان، القدس، أزمة المبعدين، مذبحة قانا... وهو ما كان يعني تكريس مرحلة الانهزام الذاتي التي تمر بها الرموز والقيم العربية، قيادات وشعوباً، ولذا أصبحت الولاياتالمتحدة - وكما وصفها بعض المحللين الاميركيين - وإن كانت أكثر القوى الخارجية نفوذاً في العالم العربي، إلا أنها ليست أكثر هذه القوى شعبية او قبولاً بين شعوب المنطقة. ومن هنا اعتبر البعض هذا الانحياز الاميركي للمفهوم الاسرائيلي للسلام بأنه خروج على القواعد الأصلية التي طرحت لعملية السلام وتخلياً عن الشرعية الدولية ما يعد تشجيعاً لنتانياهو كي يخرج هو الآخر على هذه القواعد، وأن استخدامها للفيتو يعتبر بمثابة حماية لتصرف اسرائيلي تعلن هي نفسها أنه خاطئ، ثم تحجم عن النهوض باللازم لإزالة الآثار السلبية للفيتو الذي لجأت اليه. وليت الأمر وقف عند هذا الحد، إذ سعت الإدارة الاميركية، في إطار هدفها رسم خريطة سياسية جديدة للشرق الأوسط تكون اسرائيل هي محورها السياسي والاقتصادي والعسكري، الى عقد ما يشبه التحالف الاستراتيجي بين الدولتين من خلال اتفاق وقعه الطرفان في نيسان ابريل 1996. واستغرب البعض توقيع مثل هذا الاتفاق الاستراتيجي لجهة تقلص التهديدات الموجهة الى اسرائيل بعد تدمير القوة العسكرية العراقية. وكان رد واشنطن على ذلك هو أن التهديدات الامنية التي تواجهها اسرائيل تقتضى دعم هذه الدولة حتى يتحقق لها التفوق العسكري النوعي في مواجهة الدول العربية كافة، ما دفع الوزير عمرو موسى الى التصريح آنذاك بأن مصر تعارض ذلك الاتفاق، مشيراً الى اهمية الاختيار بين السلام او التحالفات الاستراتيجية. ومن هنا، وإزاء هذا الافلاس في السياسة الأميركية في المنطقة العربية، وبخاصة منذ أن شكل نتانياهو حكومته في أيار مايو 1996، والذي وضح بجلاء في الأزمة العراقية - الأميركية الأخيرة، هذا العام، وفي أحدث مبادرات واشنطن في شأن انقاذ عملية السلام، لم يكن غريباً أن يكون هناك استياء عربي على المستويين الرسمي والشعبي، حتى من قِبَل الدول الأكثر اعتدالاً تجاه الولاياتالمتحدة. وفي المقابل بدا أن هناك موقفاً اميركياً متعمداً لتجاهل الرأي العام العربي ودوره في الضغط الحقيقي على النظم العربية الحاكمة، كما بدا أن واشنطن لا تتفهم بعض المواقف العربية الرسمية المناقضة للسياسة الاميركية وبخاصة من جانب مصر. وهو ما وضح في البداية في الموقف من معاهدة عدم الانتشار النووي، حيث وصف روبرت بلليترو مساعد وزير الخارجية الأميركي هذا الموقف بأنه لا يتفق والمصالح الاميركية، وبالتالي فإن واشنطن لا تقره، داعياً الدول العربية ومنها مصر الى تأييد التمديد اللانهائي لتلك المعاهدة من دون ربط ذلك بتوقيع اسرائيل. وهو، أي بلليترو، تجاهل بذلك الشواغل الأمنية العربية تجاه الخطر النووي الإسرائيلي، بل إن الإدارة الاميركية ردت على هذا الدفاع العربي المحدود عن مصالحه بإثارة قضايا تعتبر من صميم الشؤون الداخلية للدول العربية في رسالة لها مغزاها للأنظمة الحاكمة العربية، مثل قضايا المعونات والأقباط في مصر، وحقوق الإنسان في دول عربية أخرى، والاتهامات في شأن دعم الإرهاب في ما يتعلق بسورية والسودان. وعلى هذا الأساس تحولت نغمة السياسة الاميركية تجاه العالم العربي من دور الشريك او الحليف الى دور الآمر الناهي، ولعل هذا ما حرصت واشنطن، في الأزمة العراقية - الاميركية تحديداً، على إبلاغه للأنظمة العربية الحاكمة - التي حاولت اتخاذ مواقف مستقلة نسبيا من الموقف الاميركي في المنطقة - بأنها السيد الذي يجب أن يطاع وأن التمرد على رغباتها يكلفهم الكثير. ومما لا شك فيه أن هذا الخلل في العلاقات العربية - الاميركية والتجاهل شبه التام من جانب واشنطن للمصالح العربية لم يكن ليتم لولا هذا المسلك العربي غير المسؤول منذ انتهاء حرب الخليج الثانية تجاه القضايا القومية العربية، وهو ما أتاح لواشنطن واسرائيل اختراق الجبهة العربية بشكل كان يمكن أن يكون أكثر عمقاً وأشد أثراً لولا مسلك نتانياهو المناهض للسلام والذي وضع الأطراف العربية كافة في مأزق تجاه عملية التطبيع امام شعوبها، ووضع حداً أعلى للسير العربي في هذا الطريق، إذ أنه، وعلى خلاف الاندفاع العربي لنسيان حساسيات الماضي مع اسرائيل، نجد أن الدول العربية ظلت أسيرة أحداث وذكريات أزمة الخليج الثانية. ولم تفلح كل المحاولات، منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، في إعادة ترميم العلاقات العربية - العربية وتحقيق المصالحة العربية الشاملة. وقد حدث ذلك على رغم التحديات الكثيرة التي تواجه العرب جميعاً، وليس دولة دون أخرى، ما يستدعي منهم، باعتبارات موضوعية وحسابات المصلحة القومية، الارتقاء فوق الخلافات وتجاوزها حتى يمكن تحقيق الحد الادنى من المصالح العربية المشتركة وحمايتها. ثم تأتي قضية أخرى مترتبة على غياب هذا التضامن العربي والمتمثلة في فقدان التنسيق سواء في ما بين الأطراف العربية المشاركة في عملية السلام أو في ما بين الدول العربية عموماً، وكان من أولى علامات فقدان هذا التنسيق توقيع بعض الدول العربية على معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية رغم وجود قرار موحد سبق اتخاذه في أيلول سبتمبر 1992 من قِبَل وزراء الخارجية العرب. وتكرر الامر نفسه في ما يتعلق بمؤتمر التمديد اللا نهائي لمعاهدة عدم الانتشار النووي، إذ كان واضحاً منذ البداية أن مصر تتحرك من دون غطاء عربي كاف. فلم يتجاوز التأييد العربي للموقف المصري مجرد التصريحات من قِبَل بعض القيادات العربية. أما الخروج الأهم على هذا التنسيق فقد تمثل في ما بين الأطراف العربية المشاركة في عملية السلام، والذي بدأ باتفاق اوسلو في أيلول سبتمبر 1993، ثم المعاهدة الاردنية - الاسرائيلية في تشرين الاول اكتوبر 1994، بل واعترف الملك حسين صراحة بأن هذا التنسيق العربي لم يحدث قط، وهو ما مكّن اسرائيل من تفكيك المسارات التفاوضية العربية، وإضعاف الموقف التفاوضي لطرف على حساب طرف آخر. وهو ما أدى في النهاية الى إضعاف الموقف التفاوضي العربي ككل، ولعل المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية الجارية الآن خير دليل على ذلك، إذ أنه في الوقت الذي يقبل فيه الفلسطينيون تقديم تنازلات لإنجاح المبادرة الاميركية، نجد اسرائيل لا تزال ترفضها وتصر على موقفها من دون ان تكون هناك ضغوط حقيقية من واشنطن، بل أننا الآن نتخوف من أن تخضع واشنطن، ومن ثم السلطة الفلسطينية ذاتها في النهاية، للموقف الاسرائيلي في شأن إعادة انتشار القوات الاسرائيلية في الضفة الغربية. نخلص مما سبق الى ان الوضع الحالي للعلاقات العربية - الاميركية هو على العكس تماماً من بداياتها التاريخية والآمال التي كانت تحدوها، ولا سبيل لتصحيح هيكل هذه العلاقات وتقوية القدرة التساومية العربية في مواجهة واشنطن سوى بإعادة التضامن العربي ودعم القدرات العربية واستغلال الفرص الضائعة، والعمل على الانفتاح على القوى الدولية الاخرى في النظام الدولي ودعم العلاقات العربية معها، بما يقلل من تجاهل المصالح العربية الى ادنى حد ويدعم المطالب المشروعة للدول العربية كافة. إذ أنه من غير المعقول ان تطالب دول اجنبية وتسعى الى رفع العقوبات عن ليبيا والعراق، بينما تطالب دول عربية بالإبقاء على تلك العقوبات. كما أن خبرة العلاقات العربية مع الدول الكبرى عموماً توضح حقيقة مهمة، وهي أنه عندما يكون العرب متضامين، يبدأ الاستعداد الجاد من جانب هذه القوى الكبرى للتعاون مع الجانب العربي واحترام الحد الادني من مصالحه والعكس صحيح، ولعل من اصدق الامثلة على ذلك ما تحقق في حرب 1973. أما استمرار هذه الاحوال العربية على ما هي عليه فلن يؤدي الا الى مزيد من تكريس الخلل في العلاقات العربية مع القوى الكبرى عموماً والولاياتالمتحدة بصفة خاصة، إذ أن الولاياتالمتحدة لن تسعى الى إرغام اسرائيل على تحقيق السلام وفق المنظور العربي في ظل نظام عربي ينتظر من الآخرين ان يؤدوا وظائفه بدلاً منه. وبطبيعة الحال فإن مسار العلاقات العربية - الاميركية في الوقت الحاضر لن يكون في التحليل الأخير في مصلحة اي من طرفيه في ظل سعي اميركا الى تكريس حال العنف وفقدان الثقة لدى الطرف العربي، ورضي العرب باستبعادهم عن القيام بدور في إعادة تشكيل خريطة التفاعلات العالمية والاقليمية.