"غداً لن نجد في مصر بذور قطن ... ملايين الهكتارات والفدادين ستخلو من أي زرع أخضر"! صدرت هذه العبارة من فم السائق الذي أقلني من مطار القاهرة، إلى فندق"لا موتروبول". وأصرّ مُحدّثي مصطفى ع. على معرفة بعض التفاصيل عن مؤتمر"بيوفجن 2008" Biovision 2008 بعدما عرف أن حضوري هو لمتابعة هذا المؤتمر. ويتطلّب قطع المسافة بين المطار والفندق المُشاد في الساحة التي يرتفع فيها تمثال الزعيم المصري الراحل سعد زغلول مؤسس حزب الوفد، ما يقارب 3 ساعات. وبذا، انفتح المجال لحديث طويل. ولم يكن مُحدّثي خليّ الذهن من المعلومات، لأنه يحمل شهادة جامعية من أحدى الكليات العلمية في جامعة القاهرة. ولأنه لم يستطع التوصّل إلى دَخْل مُجْز من العمل بتلك الشهادة، انتقل إلى العمل في شركة سياحية، وساعده في ذلك اتقانه للغة الانكليزية نسبياً. شبح الأرض اليباب لم تكن تلك المرّة الأولى التي"يفاجئني"سائق مصري بأنه من حملة الشهادات العليا، فالارجح أن ثمة أعداداً كثيرة مثله. وفي المقابل، فانها من المرات النادرة التي يصرّ فيها سائق على تقصي أهمية المؤتمر الذي ينقل زبونه إليه. أوضحت له أن المؤتمر يتعلق بعلوم البيولوجيا تُسمى أيضاً علم الأحياء، ففهم الأمر بسرعة. وبيّنت أن من ضمن الأشياء الأساسية التي يبحثها هو الغذاء والمحاصيل والحبوب والمياه، وقُدرة العلم على المساهمة في حلّ مشاكل أساسية مثل الجوع. ولم يكن الوقت ببعيد من اضراب 6 نيسان ابريل وما تلاه من أحداث ارتبطت بمشكلة الخبز والجوع وارتفاع أسعار المواد الغذائية وغيرها. والأرجح أن ذلك زاد في تحفيز مصطفى، فشرع في إلقاء أسئلة عن علاقة العلم بتلك الأمور. وخطر لي أن أعطيه مثالاً عملياً، خصوصاً أننا كنا نسير في الطريق الصحراوي الذي يربط القاهرةبالاسكندرية. وأشرت إلى المناطق الكثيرة التي صارت خضراء على ذلك الطريق، وسألته عن أبرز الصعوبات في تلك المسألة، فقال إنها المياه. ثم أنعشت ذاكرته بالنسبة الى تركيب الخلية الحيّة، فذكّرته بأنها تحتوي على نواة فيها عناصر الوراثة جينات. وبعدها، بيّنت له أن العلماء صاروا قادرين على التعامل مع تلك الجينات، التي تُحدّد الكثير من مواصفات الكائنات الحيّة من نبات وحيوان وأنسان. "مثلاً، إذا استطاع العلماء التعرّف إلى الجين الذي يعطي شجرة الصُبّار القدرة على النمو في الصحراء شبه الجافة، يمكنهم نقل ذلك الجين إلى أي نبتة أو شجرة. وبذا، يمكن زرع الجوّافة والقطن والرز والبرتقال والكُمّثرى في الصحراء القاحلة". وسُرّ محدّثي بتلك النتيجة. وتشجّع على القول بأن الاعلام يجب ان يترك المواضيع كلها ليعرض على الناس هذه الانجازات العلمية المُبهِرَة. ثم سألني إذا كانت تلك البذور المُعدّلة جينياً لها مشاكل تتصل باستعمالها. ولم يحضر في ذهني سوى"القِفل"الجيني الذي يثبّته اختصاصيو الشركات العملاقة التي تُنتج البذور المُعدّلة جينياً، فتصبح تلك الحبوب غير صالحة لسوى موسم وحيد! ويعني ذلك حُكماً أن الفلاح الذي يستعمل بذور الشركات مضطر إلى معاودة شرائها في كل موسم، وإلا تحوّلت أرضه إلى بور. وبدا مُحدّثي وكأنه صعِق من تلك الفكرة. وصَدَرتْ عنه العبارة التي وَرَدَت في مطلع المقال"وأتبعها بسؤال عن سبب هذ التلاعب"الشرير". وبادرت للقول بأن المسألة لا علاقة لها بالشر. وبيّنت أن تلك البحوث تتكلّف مبالغ هائلة، إضافة إلى سعي الشركات المنطقي للربح والمزيد منه. وسأل عن الحل لتلك المعضلة. وأجبت بأنني لا أعرف. وبيّنت أن البعض يطرح حلولاً من نوع أن تُعطى الشركات ثمناً مناسباً عن بحوثها، لكي تتشارك فيها مع الدول التي تستعمل البذور المُعدّلة جينياً. وأضفت أن هناك أيضاً من يطالب بأن تفتح تلك الشركات مختبرات لها في الدول النامية لتُدرّب علماء من تلك الدول على التعامل مع التعديل الجيني، وأيضاً لقاء مبالغ تدفعها الدولة أو"البنك الدولي"أو غيرها من المؤسسات. ولاح لي أن مصطفى بات أكثر غمّاً، فصرفت الحديث إلى نواح أخرى. وحرصت على ألا أُثقل عليه بتفاصيل من نوع أن الدول الأوروبية تشترط، مثلاً، أن تُحاط الأراضي التي تُزرع بالبُذور المُعدّلة جينياً بمساحات خالية. السبب؟ الحرص على ألا تختلط بذور الشركات مع الحبوب الطبيعية. ومن المعلوم أن ذلك التخالط قد يؤدي الى نقل"القفل الجيني"الى البذور الطبيعية، فتموت بعد انتهاء الموسم! يرسم ذلك أخيلة كابوس عن ذواء تدريجي للطبيعة على يد البذور المُعدّلة جينياً، بحيث يصبح الحلّ الوحيد هو الاستمرار في الارتهان بصورة لانهائية الى الشركات التي تصنع تلك البذور. وثمة نقاشات علمية كثيرة عن الآثار السلبية الآخرى لبذور الشركات، ما لا يتسع له هذا المقال. وعقب عودتي الى لبنان، قفز إلى ذهني خيال"الأرض اليباب"باقتباس من القصيدة الذائعة الصيت للشاعر الأميركي ت. أس. إليوت، لكن بسبب من واقعة ذكّرني بها أحد الأصدقاء: البطيخ في لبنان مُهدّد بالتحوّل إلى زراعة تعتمد على البذور المُعدّلة جينياً. وفي الصورة التقليدية للبطيخ أنه قوي التكاثر، ويكفي نثر بذوره في الأرض لكي تستنبت. وأخذت هذه الصورة بالاختفاء بعد أن انتشرت البذور المُعدّلة جينياً. هل تشترط الحكومتان اللبنانية والمصرية على مستعملي بذور الشركات التحوّط لعدم اختلاطها مع الطبيعية؟ وهل يعلم الفلاحون في البلدين المخاطر البعيدة المدى لتلك البذور؟ تصعب الاجابة عن تلك الأسئلة. وقد ثار في الاعلام اللبناني أخيراً نقاش مرير عن البذور المُعدّلة جينياً. وفي السنة الماضية، تحدثت الأنباء عن انتشار تسمية"القطن الهندي"على ألسنة الفلاحين المصريين في الاشارة الى محصول للقطن متدني النوعية، ساد اعتقاد لديهم انه ناجم من أثر البذور المُعدّلة جينياً على القطن الفاخر الذي ينتجونه والذي يحمل اسم"الجيزة 70". مخاطر تتهدّد نخيل العراق حضرت إلى ذهني الكوابيس المصرية واللبنانية، متزامنة مع حلول"يوم الأرض"Earth Day في الثاني والعشرين من الشهر الجاري. والمعلوم انه يسجّل بداية النشاط المنظّم للحفاظ على البيئة في الولاياتالمتحدة، في عام 1970. وبدا لافتاً أن يتزامن"يوم الارض"هذه السنة مع انعقاد"قمة أسعار الأغذية"في لندن، التي بحثت في الأزمة الهائلة التي تعيشها شعوب الأرض بأثر من تناقص الأغذية وارتفاع أسعارها في شكل قاس. لعل الكابوس الأكبر عربياً في البذور والأغذية يأتي من العراق، في تساوق قوي بين الغذاء والبيئة والسياسة. فبعد أقل من سنتين من احتلال بلاد الرافدين، تبيّن أن شركة أميركية عملاقة في صناعة البذور المُعدّلة جينياً استفادت من الوضع العراقي، لتنشر بذورها بين مزارعي النخيل. أي رعب إن مرّ في الخيال أن بلد المليون نخلة قد يصبح خالياً من بذور تصلح لزارعة تلك الشجرة، التي قيل أنها ظللت يوماً ما الطريق بين بغداد ودمشق! هل يصيب"التسونامي الصامت"وهو الوصف الذي استُعمل في قمة لندن عن الأسعار الغذائية الشركات العملاقة أيضاً، فتحاول التخلي عن بعض تقنياتها ومعارفها وعلومها لتضعها في خدمة المزارعين، وخصوصاً في العالم الثالث؟ لقد ردّد جيفري ساكس، رئيس"معهد الأرض"، دعوة مماثلة أثناء مؤتمر"بيوفجن 2008"في الاسكندرية، فهل تلقى كلماته وما يشبهها، صدى في رؤوس المسؤولين عن تلك الشركات؟ وما هي مسؤولية الدول والمنظمات الدولية في هذا الأمر أيضاً؟ واستطراداً، فكثيراً ما يصل النقاش في ذلك الأمر الى مسألة حقوق الملكية الفكرية. ولا يتسع المجال لنقاش موسّع عن هذا الموضوع، لكن يمكن الاشارة الى الطرق المتعددة التي تصل فيها الشركات العملاقة الى معلوماتها وتقنياتها. وفي نموذج عن الحصول على العلم بفضل المال، وليس بالبحوث وأدمغة اختصاصيي الشركات العملاقة، يمكن الاشارة الى"صفقة"ذاع صيتها السنة الفائتة. توصلت إحدى الشركات الكنديّة الى إنتاج بذور مُعدّلة جينياً تتأقلم مع حال الجفاف، وفي الوقت نفسه، تحافظ على مستوى الإنتاج ثابتاً. وأعلنت أنها جرّبت هذه البذور على نبات"الكولزا"فحصلت على مردود يفوق ب26 في المئة مردود النباتات العاديّة. وسارعت شركة"سينجنتا"Syngenta، وهي الشركة الثالثة عالميّاً في إنتاج البذور المُعدّلة جينياً، إلى عقد اتّفاق مع المؤسّسة الكنديّة لإنتاج بذور لنباتات الذُرة والكولزا تستطيع أن تتأقلم مع حالات الجفاف، بعد أن أضيفت للبذور جينات أُخرى تجعلها قادرة على التأقلم مع الكمّيات الكبيرة من الأسمدة والمبيدات. تتعلّل الشركات الاحتكاريّة المتخصّصة في إنتاج الكائنات المحوّرة جينيّاً، وضمنها البذور والنباتات، بضرورة تحقيق الأمن الغذائي ل6 بلايين من البشر، خصوصاً مع توقع أن يتضاعف هذا الرّقم مع حلول عام 2050. وعلى رغم ما أحيط بهذه المنتجات من هالة ودعاية، فقد جاءت نتائجها مخيّبة للآمال. فمن المعروف أن أكثر من 90 في المئة من هذه البذور أعدّت لكي تتقبّل كمّيات ضخمة من المبيدات. ويرى كثير من العلماء أن هذا الأمر بحد ذاته، يُشكّل خطراً كامناً إذ لم تدرس آثار المنتجات المُعدّلة جينياً بصورة كافية على البشر. فمثلاً، تحتوي بعض هذه الكائنات جينات تُعطيها مناعة تجاه المضادّات الحيويّة، فلا يستبعد أن تكون لها آثار وخيمة على الصحّة والبيئة. كما أنّ هذه البذور لم تُعط إنتاجاً أوفر أو أرفع قيمة من البذور العاديّة، إضافة إلى أنّ التلوّث الجيني الواسع قد يؤدّي إلى القضاء على البذور الطبيعيّة. ويجدر التنبيه إلى أن أفريقيا مُعرّضة أكثر من غيرها لآفة الجفاف، وفي المقابل، فإنها تمثّل مخزون المياه العالمي الأول. وراهناً، تركز الشركات العالميّة المتخصّصة بالبذور المُعدّلة على إفريقيا لكي تعمّم فيها تلك المنتجات، إمّا تحت غطاء ما يُسمى بپ"الثورة الخضراء"أو بتبرير أنّها تريد ضمان الأمن الغذائي لسكّان إفريقيا. والحق أنّها لم تفعل لحدّ الآن سوى تشجيع الزراعات المروية المعدّة للتصدير، التي تُعَدُّ مسبباً رئيسياً للجفاف، على حساب الغذاء المحلي. وبذا، زاد استعمال مياه الريّ بنسبة 60 في المئة خلال الخمسين سنة الأخيرة، كما تستهلك الزراعة المرويّة اليوم 70 في المئة من الماء الصالح للشرب في القارة السمراء. هل يحمل هذا المثال دلالة ما بالنسبة الى المخاطر التي تحيط بالدول النامية، ومنها الدول العربية؟ [email protected]