يبدو أن مسار العولمة بلغ منعطفاً حرجاً حتى صار من المتعذّر اجتماع أي جسم دولي من قواها المحرّكة، من دون استفزاز رد فعل قوي ضده. وكما لاحظ ميثيل كامديسيو، المدير السابق لصندوق النقد الدولي الذي نال حظه المباشر من الاحتجاج ابان تظاهرات بانكوك في شباط فبراير المنصرم، فإن السؤال اليوم ليس عن العولمة، بل عن مضمونها والتوازنات والمصالح التي تجدر مراعاتها. وفي معنى مشابه، جاء تعليق الرئيس الأميركي بيل كلينتون في خضم تظاهرات سياتل ضد مؤتمر "منظمة التجارة العالمية" حين لاحظ أهمية الانتباه الى مصالح من هم في موقع الأضعف والأهش في المعادلات الصارمة للعولمة. قبل سياتل: الاحتجاج البيئي وفي تظاهرات سياتل التاريخية التي وصفت بأنها بداية "الجزء الثاني" من العولمة، تصدرت هموم البيئة، وخصوصاً الحفاظ على التنوع البيولوجي Biodiversity صفوف الاحتجاج. وقبل سياتل، وفي آذار مارس 1999، شهدت مدينة قرطاجنة في كولومبيا احتجاجات صاخبة ضد عقد مؤتمر "السلامة البيئة" فيها. وركز البيئيون، وخصوصاً منظمة "السلام الأخضر" أو "غرين بيس"، الجهد على نوع معين من البذار المعدّل جينياً والذي يعرف بإسم حبوب "الناهي" أو "تيرميناتور" Terminator التي تنتجها شركة "مونسانتو" الأميركية، وهي عملاق شركات المنتوجات المعدّلة جينياً. وفي منتصف الثمانينات، توصل فريق من العلماء يعمل لمصلحة شركة صغيرة نسبياً، هي "دلتا أند باين لاند"، الى تعديل التركيب الجيني للبذار، حتى لا تعطي الحبوب سوى غلة واحدة في موسم واحد، ثم تموت تلقائياً. ومع موت البذار، يضطر المزارعون الى معاودة شراء البذار للموسم المقبل وهكذا دواليك. وفي العام 1988، اشترت شركة مونسانتو "اختراع" تيرميناتور وأدخلته الى أنواع البذور التي تنتجها مثل الأرز المُحَسّن المأخوذ من الهند وبعض أنواع الذرة ذات النوعية العالية. وسرعان ما منح الكونغرس براءة اختراع لحبوب تيرميناتور. ويفتح الأمر باباً لملاحظة الفارق بين ضفتي الأطلسي حيال تشريعات الأطعمة المعدّلة جينياً. وبفعل قوة هيمنة الشركات الأميركية على سوق الأطعمة المعدّلة، والتي تقدر قيمتها بنحو مئتي بليون دولار سنوياً، تغطي الدولة وتشريعها قوة الشركات، تماماً كما تذهب الأساطيل والطائرات لحماية المصالح الاقتصادية. أما في أوروبا، فإن منظمات البيئة هي أقوى عضداً، ويميل المشرّع الأوروبي الى مراعاة وعي المستهلك الأوروبي وحذره حيال كل ما هو معدّل جينياً. وفي العام الجاري، أدى الضغط الأميركي الى احداث تغيير جزئي في موقف السوق الأوروبية المشتركة المتشدد تقليدياً حيال الترخيص للمنتوجات المعدّلة. فسمحت المفوضية العامة بالترخيص لبعض المنتوجات شرط اتمام سلسلة كاملة من التعديلات الجينية عليها، لا مجرد ادخال تعديل واحد أو أكثر. موت الحياة؟ ويستند الاحتجاج البيئي على الأطعمة المعدّلة جينياً الى أسباب متعددة. فمن الواضح والثابت أن حبوب تيرميناتور" على سبيل المثال، شديدة الخطورة. فهذه الحبوب محكومة بالموت، والأنكى أنها إذا خالط طلعها pollen لقاح وأزهار النباتات الطبيعية، تسير هذه الأخيرة الى الفناء. وما الذي يمنع حقلاً مزروعاً بحبوب تيرميناتور أن تحمل نسمات الريح طلعه الى كل ما يجاوره فيموت في موسم واحد؟ ولا يبقى سوى نوع واحد هو المعدّل جينياً، ما يحمل شبح الفناء التام لظاهرة التنوع البيولوجي التي هي من روافد الحياة. وأثبتت أبحاث، كتلك التي أجراها العالم الألماني ارباد بوستازي، ضرر البطاطا المعدّلة جينياً على صحة الإنسان. وعملت الشركات على "كتم" تلك الأبحاث، بل ان ذلك العالم فُصِلَ من عمله في شركته ومُنِع من الوصول الى الكومبيوتر الذي يحتوي نتائج أبحاثه. ويشبه الأمر ما دأبت شركات التبغ على القيام به، خلال أربعين عاماً، من مخادعة الرأي العام وتضليله، عبر مصادرة الأبحاث التي تثبت مضار التدخين وشرائها، ومنعها من الوصول الى الرأي العام. وثمة ما يعرفه الأطباء واختصاصيو البيولوجيا جيداً، وهو خطورة العبور بين الأنواع، وخصوصاً على نحو مفاجىء وغير تدريجي. ومطلع التسعينات تمكنت احدى الشركات الأميركية من انتاج بندورة معدّلة جينياً تقاوم الاهتراء الناجم عن البرد. لكن تلك الخاصية تأتت من ادخال جين gene مأخوذ من احد أنواع الأسماك القطبية. أي أن حبة البندورة باتت موضعاً لتهجين بين نوعين لم يحصل في التاريخ المعروف للتطور الطبيعي أنهما تخالطا: البندورة والسمك، علماً أن التخالط القسري يهدد التنوع البيولوجي أيضاً. ووصف الاختصاصي البريطاني في البيولوجيا بيتر رايلي هذه الحبوب بأنها "فرانكشتاين الأغذية". ومن يضمن سلامة تناول أنواع لم تتفاعل معها تاريخياً وتطورياً، بيولوجيا الحياة، وخصوصاً الكائن البشري، وعدم احداثها ضرراً؟؟ وشيئاً فشيئاً، أخذ الموقف الأوروبي يكسب أنصاراً له في الولاياتالمتحدة. وزاد من عدم ثقة المستهلك الأميركي ظهور أكثر من علامة استفهام عن مدى تدخل مصالح الشركات العملاقة في القرارات العلمية مثل "وكالة الأغذية والأطعمة" أو FDA. ووتّر حدّة التساؤل قرار FDA عدم مطالبة الشركات المسيطرة على سوق الأطعمة المعدّلة جينياً بوضع دمغات Labels تظهر في وضوح ماهيّة هذه المنتوجات. وفي جو انعدام الثقة، وحيث يقدر أن سبعين في المئة من الأطعمة المعلّبة الأميركية تستخدم مواد معدّلة جينياً، اندلعت تظاهرات بوسطن لتطالب باعلاء صحة الكائن وحفظ التنوع البيولوجي والحياة في البيئة، على اعتبارات المصالح ونفوذ الشركات العملاقة. "حروب اللحمة" والمصالح الدولية في ما سُمّي ب"حروب اللحمة" التي شهد العام 1999 احد أمر فصولها، وعلى وزن "حرب النجوم للمخرج الهوليوودي جورج لوكاس، ثمة بعد بيئي لافت ومتداخل مع صراع المصالح بين ضفتي الأطلسي. وتشكل الولاياتالمتحدة، حتى اللحظة، حصناً منيعاً لحماية الشركات الكبرى للمنتوجات والأطعمة المعدّلة جينياً، كمثل شركة "مونسانتو". وفي وقت مبكّر نسبياً، عام 1984، أقر الكونغرس أول ترخيص في التاريخ لأول منتوج معدّل جينياً، هو حبوب البندورة المقاومة للاهتراء والمعروفة بإسم "فلافر سافر" Flaver Savir. ولطالما أخذ الأوروبيون على المنتوجات الحيوانية والنباتية الأميركية مأخذين متداخلين هما: الإفراط في استعمال الهرمونات، والتعديل الجيني. وفي أوروبا، نجحت منظمات البيئة في اثارة النقد ضد تلك الأطعمة، كمثل تسمية منظمة "غرين بيس" لها ب"الكائنات المعدّلة جينياً". وتؤكد التسمية رؤية التكامل في ظاهرة الحياة، التي تشمل كل الأنواع في النبات والحيوان والبشر، وحتى أدق الكائنات، فضلاً عن أهمية ظاهرة التنوع البيولوجي وعمقها، من حيث هي شبكة علاقات للكائنات. ولم تنظر الدولة الأميركية قط الى هذا الموضوع من زاوية البيئة والصحة، بل رأت في الأمر حرب مصالح مكشوفة تشنها أوروبا على منتوجاتها. وجاءت أزمة "جنون البقر" لتزيد من الارتصاف التقليدي لإنكلترا مع الحليف الأميركي، خصوصاً مع التشدد الأوروبي حيال اللحمة البريطانية ومشتقاتها. وعندما حدثت أزمة الدجاج البلجيكي وثبت اعطاء الطيور الفرنسية أعلافاً مخلوطة بزيوت من بقايا الصناعة، اندفعت حرب المصالح الى ذروة شاهقة وصارت تطاحناً مكشوفاً. فهل يعيد متظاهرو بوسطن الأمر الى الأصل فيه، أي الحفاظ على التنوع البيولوجي في البيئة وحماية صحة الإنسان؟ سؤال مفتوح. * محرر الشؤون العلمية في "الحياة".