في الصورة التي تبثها أمام أعيننا كاميرات المراسلين، تبدو غزة في حمام قتل دائم ومتواصل، فيما يبدو الناس على عجلة من أمرهم ينقلون أبناءهم الذين اختطفهم الموت للتّو إلى مثواهم الأخير. الصور التي تأتينا من غزة تزدحم بمفردات القسوة وتعصف بما فيها من معان باتت لكثرة تكرارها وتشابهها تتحول إلى لغة حياة يومية لا تثير الخوف بالضرورة، ولا تحرّك غضباً في مشاهديها الذين يثقلهم العجز ويفشلون دوماً في العثور على منقذ ما من سواد هذه"السريالية"العربية والعالمية المبتلية بعقم ولاجدوى التفسيرات على تعددها أو بالأصح تناقضها واضطرابها. هو نوع ضار من تلفزيون واقع بالغ الغرابة تتوالى فصوله وحلقاته في زمن الصورة الحيّة والمباشرة وبالصوت أيضاً، أي بكل المفردات التي يمكنها أن تجعل القتل المباشر فعلاً واقعياً وتجعل ضحاياه يبعثون إلى من يشاهدونهم على الشاشات الصغيرة رسائل تذهب في اتجاهات مختلفة وذات معان متعدّدة، فيها الكثير من بلاغة القدرة على تكثيف الراهن العربي بطريقة لا تحققها أي صور أخرى. ومع ذلك كله يبدو قتل الشاهد ذروة أشد بلاغة. صحيح أن الموت يتجول بطلاقة في شوارع غزة ويحصد البشر بعشوائية لا تفرّق، ومع ذلك فإن قتل مصور تلفزيوني يثير في النفس غضباً من نوع مختلف. إنه إشارة بالغة الوضوح على النيّة المبيّتة لتغييب الحقيقة من خلال تغييب شهودها وإلغاء أي أوهام عن"حصانة"ما يمكن أن تعطيهم الحق في تقديم شهاداتهم الحيّة والمباشرة على ما يجري وعلى حجم الجرائم التي تحدث يومياً في عصر يقال انه عصر حقوق الإنسان والديموقراطية. هي بالتأكيد ليست الحادثة الأولى لقتل صحافي خلال أدائه عمله، فقد سقط صحافيون كثر بالقتل المباشر في فلسطين والعراق، ولكنها مع ذلك"حادثة"تكرّر المعنى وتعيد تأكيده. الصورة عدو مباشر لآلة الموت ولسياسات القتل، وهي لهذا بالذات مستهدفة وتقع في بؤرة الصراع الدامي. إنها صورة ضارية تدفع مشاهدها إلى إعادة قراءة ما يقع أمام ناظريه ورؤية دقائقه وتفاصيله قراءة لا تحتاج إلى ثرثرة الكلمات وتشعّب الحوارات، وهي في هذا المعنى قراءة العقل والمنطق لتفاصيل تخرج عن العقل وتعادي المنطق بالضرورة. إنها صورة غزة متسربلة بالدم الذي يصبغ الشاشة الصغيرة فيصبغ معها حياة عربية باتت تحمل ملامح العبث منذ زمن طويل.