بعد تجربة طويلة مع كتابة الشعر تأتي السورية فاتن حمودي بمجموعتها الشعرية الأولى «قهوة الكلام» (الكوكب – رياض الريس للكتب والنشر – أيلول – 2015) محمَلة بغزارة البوح تجاه موضوعات عديدة تختصر الحبّ ويختصرها. فاتن حمودي في هذه المجموعة الشعرية الأولى تكتب من حدقة امرأة مسكونة بأقنومين لا يتناقضان بقدر ما يدفع أحدهما الآخر، أعني الطفولة والأنوثة. هي تجربة شعرية ترى قبل أي شيء آخر، بل إن ما تكتبه فاتن حمودي يبدو لنا قادماً مباشرة من حدقتيها، فهي إذ تستعيد مفردات ذاكرتها إنما تفعل ذلك باتكاء بالغ على مشاهد رأتها في حياتها اليومية وها هي تعيد تركيبها على مقام الشعر واحتياجاته، وتكتبها بأناقة نراها بسيطة وإن تكن عميقة وفيها الكثير من فن الشعر وجمالياته: «لوجهك مرآة حين غادرت ضاع» ولأن وعي الذاكرة يأتينا مضمَخاً ببلل الراهن وأحزانه تزدحم قصائد فاتن وسطورها بلوعة خفية فيها الكثير من أسى الأنوثة الوحيدة، القلقة، والمفعمة بالحب. هنا سأقول أن الحب في تجربة الشاعرة ليس لافتة أو عنواناً ينتظم الكلام، فهو في أغلب الحالات الشعرية يأتي متخفياً وإن يكن بالغ الوضوح. هي تكتب من الحب، من عالمه البعيد والقريب وكأنها تتحدث عن أشد الأشياء والمفاهيم بساطة وعادية، ولعلها إذ تفعل ذلك تعيد للحب بعضاً من جوهره النادر هذه الأيام: «غريبان معاً نفترش الحصير في الخيال ننحتُ الشمع... نذوب» في قصائد «قهوة الكلام» جموح العلاقة بين الأنا الفردية والمحيط الواقعي بصوره المتعددة، الواقعية المباشرة حيناً، والرؤى المتخيلة أحياناً، وفاتن حمودي إذ تستعيد أزمان وأماكن تحرص أن تأتي تلك الاستعادات «شعرية» بمعنى أن تخرج مقطَرة من أية شوائب وزوائد تفصيلية لا لزوم لها، فالقصيدة في استرسالها لا تندفع وراء السرد من غير ضوابط، بل تنتقي في «سرديات» وعيها وذاكرتها انتقائية تجعل تلك الاستعادات «مشاهد»، وتجعلنا نتأمَل المشاهد بكثير من الدهشة التي تنتابنا عادة أمام بلاغة الفن وجمالياته. هل استفادت فاتن حمودي من عملها الطويل في التلفزيون؟ يبدو السؤال حاضراً في ذهني بالنظر لما يحضر في قصائدها من اتكاء يكاد يكون أساسياً و»شاملاً» على الصورة الشعرية، خصوصاً أن الشاعرة ترسم – غالباً – صورة شعرية حسية، بالمعنى المباشر الذي يعني قابلية تلك الصورة للاستعادة في مخيلة القارئ الذي يمكنه أن يرسمها في ذهنه ومخيلته: «لا تطلق الأسئلة مثل رمال الصحارى أعمارنا مكومة في سلال الغسيل يا امرأة القهوة دعي البحر يمشط الأحلام» تنشغل فاتن حمودي بهواجس روحها الأنثوية من دون أن تعلق تلك الهواجس في خزانة عزلة من أي نوع، فنحن في «قهوة الكلام» أمام بوح أنثوي يدرج في حدائق الحياة بصورها التي لا تحصى، وفاتن حتى وهي تمتح من خزائن حزنها تحتفل بالحياة بفرح خفي وأكاد أقول بفرح حذر يتناوب على إشعال جمرته حبٌ عاصف للحياة والناس نراه في شكل بليغ من خلال احتفالها بالتفاصيل الصغيرة سواء أتت من المحيط الراهن، أو حتى من الذاكرة المزدحمة والحارة والحميمة. هنا بالذات نلاحظ أن الشاعرة إذ تكتب انطلاقاً من تجربتها لا تعتمد خطاب الراوية، ولا نبرتها العالية بل تعمد إلى لغة خافتة فيها الكثير من الشجن الأنثوي الذي تحمله عادة قصائد الشاعرة المرأة ولكنه هنا شجن يمتزج بخبرة التجربة الشعرية واكتنازها باستفادات قصوى من منجزات قصيدة النثر العربية في تجاربها الكثيرة: «دعي البحر يشمُ قهوته ودعي فيروز تغني خذيه إلى حضنك مشطي شعره ضفائر واشكليه خرزاً أنا امرأةُ العصف أنجبتُ طفلة البساتين واللون وطفلة الغجر أنجبت غزالين شاردين أنا الشجرة الهاربة من فيئها ومن أغصانها» «قهوة الكلام»، قهوة الذاكرة الحيَة والحس الإنساني الذي يكتمل في الشعر ويتجمَل الشعر به على نحو لافت. هي تجربة أولى وليست أولى في رشاقة جملها الشعرية وفي حميمية صورها ومشهدياتها، وهي قبل هذا وذاك بلاغة الجمال الذي لا ينتهي بعد القراءة.