سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر/ نشيد الموت" ... على وجه الكتابة الروائية وحده . سعي في الثبات على ذرى التشبيه والكناية وترك التخييل الى آلة إلزام بمعانٍ مقصودة
يُخرج حيدر حيدر، في "وليمة لأعشاب البحر" 1983، ط.رابعة، 1992، بيروت، دار بيسان، شخوص "روايته"، على ما يسمي كتابه الموسوم ب"نشيد الموت"، يخرجهم مرة واحدة ومتصلة تكاد تكون طَلَقاً. وتوكل كتابتُه الإخراج على هذا النحو الى التشبيه، وحرف الكاف آلته أو أداته المفضلة والأثيرة. وإذا حذفت الكتابة حرف الكاف، ويممت شطر الصورة، أو الكناية المحتملة أكثر من وجه، قصدت الى استيفاء التشبيه وتمامه، ولم تتخلَّ لا عن الاستيفاء ولا عن التمام. وهو إذا تناول الأماكن، والأوقات، والحوادث، وهي عوامل القص ومبانيه، جرى فيها على المنوال نفسه، وأبرزها في حلة العرس وبلاغته البيانية التامة. فكأن الكتابة الموسومة بالروائية، والمحمولة على الإنشاد معاً وجميعاً، تجلو ما تتناوله على مثال "جلوة" العروس. فعن يدها ينبغي أن تتألق المرويات، وتبلغ سمتها التام فلا تحيد عنه في كل أطوارها - إذا جاز الجمع بين تمام سمت وبين أطوار كثيرة تفترض الأقل والأكثر، ولا تثبت على مثال يتعالى بدوره عن التغير والتحول. ولعل هذا الحال، في رواية حيدر حيدر المفترضة، هو نقيضة العمل الروائي ودوامته المائية المفضية به الى التناثر أجزاء من غير وَصْلة ولا جسم. فإذا كانت كل أوقات القص استواءً للمعنى، أي لجزئه، على كرسي التجلي، ودلالة على هذا الاستواء، خلا القص من التفاوت تفاوت الأقل والأكثر المنشئ لزمن الرواية أو القصة، ولكل زمن إنساني والحق يقال. وإذا حضر ما يوضع الكلام عليه، أو النظر أو التذكر أو التخيل، تماماً، واستوفى شاهدُه معانيه كلها، ولم يلابس الشاهد غياب أو خفاء، استحال إدخاله في باب الكون والفساد، وهو باب الحركة والزمن والصيرورة والاختلاط، واستحال تعقب انقلابه من حال الى حال، ومن طور الى طور. واضطر الكلام الموكول بتعقب الانقلاب، أي بالقص، الى الثبات على ذرى التشبيه والكناية. والكتابة "الشعرية" أو السعي في بلوغها وإرادتها، هي الإعلان الظاهر للثبات على ذرى التشبيه والكناية. وبين تخييل الرواية حقيقةَ من ترويهم، وتروي جزئيات حركاتهم وسكناتهم ومواقفهم وأقوالهم وأفعالهم ومشاعرهم وأحكامهم، وظلالها، وبين نازع كاتب الرواية وصاحبها الى تنصيب الجزئيات والظلال معاني تامة، بين هذا النازع وذاك التخييل تمتحن الكتابة امتحاناً قاسياً، ويغلب أن يكون قاصماً. فإذا هي أرادت تشبيه الحقائق، حقائق الشخوص والأوقات والأمكنة والوقائع، وحمل القارئ على تخييلها حقائق متصلة ومتماسكة، وليس ركاماً شتيتاً، وجب على الرواية إنشاء تناسب داخلي بين أجزاء ما تتناوله بالقص والحكاية. ويتأتى مثل هذا التناسب عن اختيار "أثير" معنوي مشترك وعام تُسبح الكتابة موضوعاتها وأشياءها فيه، وتعرض الموضوعات والأشياء عليه وعلى هذا النحو تجري اللغات" فهي تتخطى التعسف الأول، تعسف جعل اللفظة بإزاء "الشيء" أو المفهوم والمدلول، الى منطق لغوي من طريق توارد المباني اللغوية وتواشجها، ومن طريق تناظر المنظومات الصوتية وترتيبها علائق بعينها، وتقريبها بين بعضها وتبعيدها بين بعضها الآخر.... وعلى هذا فالنشوة الروائية، إذا جازت التكنية بمصطلح أهل الصوف، إنما هي خاتمة مواقف الرواية كلها، وتاج اجتماعها أو جماعها، على معنى هذه اللفظة المضطرب والملتبس. فيترتب عن هذا أن تحضر الرواية كلاً وجميعاً، أو "أفقاً" جامعاً، أجزاءها وأبعاضها، شخوصاً ومراحل ومقالات وغيرها، وأن يتقدم الجميع أفراد القص وآحاده، وينضبط الأفراد والآحاد، أو الأجزاء، على الكل والجميع. أما نشوة الإنشاد فتخالف الرواية في طلبها الأقرب والأظهر والمباشر والمشترك في الجماعة أو بينها" وهي تخالفها في تركها المبني، وصيغه الداخلية والمركبة، الى المعرب وحركاته الظاهرة والمعروفة. ولعل ما يسعى حيدر حيدر، في "وليمة لأعشاب البحر"، فيه، ويريد إدراكه، ويحسب ربما أنه بلغه، هو الجمع بين النشوتين أو المتعتين والفنّين. فيبدو للقارئ أن الرواية المفترضة تتوسل الى بنيانها المجتمِع، وهو مبنى مبانيها، بحركات الإنشاد الشعري ومواقفه ومقاماته، موقفاً موقفاً وحركة حركة. ويستتبع التوسل والحسبان هذان كتابة "شعرية" و"روائية"، عليها أولاً وأخيراً على زعمي المعوَّل في بلوغ الرواية غايتها، واستوائها رواية ونشيداً في آن. وتفاتح الرواية وهي تنصب، في هذه العجالة، فاعلاً وضميراً مستقلين، وينسب إليها قيامها بنفسها، على سبيل الاختبار والتجريب، من وجه، وعلى سبيل تقديم الكتابة موضوعاً للتناول والنظر والتذوق، من وجه آخر، تفاتح الرواية قارئها بكتابتها منذ سطورها الأولى. فواو غير العطف في جملة الافتتاح: "وكان صباحاً مضيئاً"، استهلال لا يتكتم على الاحتذاء حذو الفواتح المنظومة، والمصرَّعة في أحيان كثيرة، من "عيون" الشعر العربي المحفوظ" وكنت وعدتني يا قلب أني...، المنسوب الى مجنون بني عامر، مثل على الباب. وهي واو الفخامة، وواو الخلق ب"كن". وابتداء الجملة الأولى بفعل الكون يرد الى أمر توحيدي وإنشائي، ويناظره. و"الصباح المضيء" هو أول الكون وأول الرواية. وتتصور الرواية، ابتداء، في صورة رواية كونية. فهي تروي إنشاء الكون والعالم أو إنشاء كون وعالم من عناصر طبيعية واستواءهما وحدة مركبة وحية" وهي تنشئ كونها وعالمها من طينة تسلط عليها فعل الكون أو أفعاله. فيتداعى الصبح والضوء، وهما على هذا الحال من العنصرية البسيطة والتكوينية، "سماء صاحية"، و"نوارس تخفق" و"غبطة معلنة" و"طيراناً أبيض واهناً" و"ندى يتلألأ" و"شمساً خريفية". ويأتلف من هذا، أو يتوقع أن يأتلف منه يوم الخليقة الأول. ولا ينقص الائتلاف هذا إلا الماء وصفحته. والكلام الأول الذي يتلفظ به أحد شخوص الرواية هو: "انظر. انظر. هو ذا البحر!". وصيغة القول أشبه بالتسمية أو تعليم الأسماء. فالرجل والمرأة "الفتاة" لا يقصدان بحراً سبقت به معرفة نظر ويطل عليه قاصدوه من بعض مسافة وبعد، بل تستعرض المرأة وهي لاحقاً آسيا الأخضر أو لخضر البحر، وتشير إليه، وتسميه باسمه الذي جُعل له، أو كان له، منذ الأزل. واكتمل الكون، شأنه في روايات الإنشاء الأسقطسية والأسقطس هو العنصر "الأول"، ماء أو ناراً...، في أربعة أسطر، وتداعت المسميات بعضها من بعض، وأقامت على بساطتها الجوهرية. فالصباح المضيء يستوي على صباحيته المضيئة من غير زيادة، لفظية أو كونية، ولا نقصان، ولا تخصيص. فهو ليس صباحاً بعينه، وفي وقت من أوقاته أو ضوء من أضوائه الكثيرة. ويلم الرواي بصباحه هذا إلماماً يتعالى عن الموضع، ويحوطه كله مرة واحدة وعلى وجه العموم. فلا يقيد استقبال الصباح وقت أو محل أو جوار أو خاطرة أو كلام سبق، أو توجه على مخاطَب. وبعد كمال الكون، وإثباته على صفة الوجود المحض والجوهري، تظهر "الفتاة" القائلة، وهي الإنسية الأولى بين إنسيين لا بد منهم لتكون الرواية رواية. وتظهر "الفتاة"، بدورها، على نحو ظهور العناصر والاسقطسات من قبل. فهي إشارة ودعوة وتسمية، وهي حركة "ثم أسرعت خطاها" أو رسم حركة "... باتجاه". وإذا شاءت الرواية تخصيص حركة "الفتاة"، والخروج من عموم الرسم والتعريف، حملت حركتها التالية، وهي خلع "الحذاء" ولا بأس ب"الحذاء" على شاطئ من رمل وشوك وبحص وماء ولكن الكلمة، على صفحة رواية بحرية، توحي بالجلد الصلب وبعمل الإسكافي المتين والحصين أكثر من إيحائها بالمرونة البلاستيكية والامتناع من بلل الماء وملحه، حملت خلع "الحذاء" على "نحو تلقائي"، وأوقعت القارئ في حيرة. فإذا لم تخلع الفتاة حذاءها "على نحو تلقائي" وهي المسرعة الخطى "باتجاه الشاطئ الصخري"، كيف لها أن تخلعه؟ أو أن تخعلهما، وهما "حذاءان"؟ فكأن "التلقائية" المزعومة تخلِّص الرواية - حين تمتحنها مباشرتُها وصفَ حركة يومية ونثرية على خلاف "الشعرية" مثل رمي فردة الشحاطة المشبكة والصفراء ربما من القدم اليمنى ثم اليسرى والانحناء لجمع الفردتين في يد واحدة... - من اقتصاص النثريات، وتجيز لها، بذريعة "الشعر" التخفف من التركيب النثري العسير. فما كادت "الفتاة" تخلع الحذاء "على نحو تلقائي" حتى "اندفعت كالفقمة حافية صوب البحر"، واستعادت الكتابة الحيدرية تشبيهاتها ومجازاتها الكونية والمطلقة. فشد التشبيه بالفقمة وعريها ولزاجتها، "الحذاء" من القدمين، وأخرج القدمين من "الحذاء" من غير حركة أو فعل، "تلقائياً". فإذا قطع الاندفاعَ الحافي هذا كلامُ الرجل: "انتبهي. الأشواك ستدميك". اقتصر جواب الفتاة على عدم فعل: "ولم تلتفت". فالتنبيه، في معرض قوامه الخطى السريعة، والاندفاع التلقائي، وحفاء الفقمة وعريها ووشك تحويلها الى حورية بحرية، التنبيه في هذا المعرض الى الأرض وأشواكها وإدمائها إنما هو ضرب من العمى الروائي، والقصصي النثري، عن شعرية المرأة وعن تناولها المجازي. فهي "لم تلتفت"، وليس لها أن تلتفت الى تنبيه يشدها الى الأرض والشوك، ويدرجها في سلسلة علل ونتائج، وهي الفقمة والحورية، قبل أن تمضي الرواية على المجاز وتجعل منها امرأة "خافقة بذراعيها كجناحي طائر في فضاء أبيض". ولم يشأ حيدر حيدر ربما إرجاع نورسه الى الطيران في السماء الصاحية وضوء الصباح، وهو خلفهما وراءه لتوه بالكاد قبل سبعة أسطر، فنزل من حقيقة النوارس الكلية، ومن خفقانها المغتبط، الى شبه الذراعين بجناحين. وهو شبه جزئي. ولكنه حفظ، في الحالين، الخفقان والطيران، واللون الأبيض. وحفظ كاف التشبيه. وهي الثالثة في الأسطر السبعة. وهذا كثير. فكثير أن يعصى الشبه التجديد، وأن يضطر الكاتب الى أن يكرر عناصر تشبيهه في زهاء ربع صفحة. فيغلب مثالُ التشبيه التقليدي والمتناقل الكتابة، ويصبغها بصباغه الرتيب والقليل الألوان والضعيف التمييز. فتنضبط الكتابة، المفترضة الروائية، على التشبيه الكلي والبلاغي، وعلى إثباته بإزاء وحدة معنوية الصباح، المرأة، الطائر، الطيران... ونظيرها، "صورة" تكاد تكون من صنفها. فتكني الفقمة عن عري القدمين ووشك الدخول في الماء، ويكني الجناحان عن الذراعين، والطيران عن التلويح... ويقتصر التوليد المجازي على نظائر وأشباه بعضها من بعض، معنى أو لفظاً. فإذا رفعت السرعة والريح تنورة آسيا الأخضر "الخضراء"، عوض الكاتب تعريجه على شيء مثل التنورة بتشبيهه "الفخذين الناصعين المكتنزين" ب"الرخام" ليس إلا. ويستوفي التشبيه، وكافُه هي الرابعة، الشبه على نحو بلاغي خالص، ولا يستوفيه إلا على هذا النحو. فيسلَّط التشبيه على "الفتاة" وهي الفتية الخافقة لتوها بجناحي الطائر، ويقسرها، في سياق قريب ومتصل، على الجمع بين خفة الطائر وثقل الرخام ووطأته. والحق أن ا لجمع بين الصفتين والحالين ما كان ليجوز لولا تقديم الكتابة المجاز البلاغي على موجبات القص ونثره. ف"الرخام" ليس مجازاً للفخذين إلا في بعض المأثور العامي، السوقي أو المتأدب لا فرق، وفي الخيالات الثابتة عند ضرب من الأدب ووقت من أوقات العمر. وكان تلقي الرواية هذا الضرب من المأثور بالقبول، واستعادته في كتابتها، يجوز أن يحملا على كناية مركبة عن أحد شخوص الرواية المفترضة، وهو مهدي جواد في هذا المعرض. فيُحمل المجاز المبتذل والآلي على مهدي جواد، وينسب الى مخيلته الساذجة والهزيلة، والى لغته الرتيبة والفقيرة. فمهدي جواد، في هذا الموضع من الكلام والقص، هو من يرى اسيا الأخضر، وتتقدمه هذه في سيرها الى البحر. ولكن النسبة والحمل هذين كانا يصحان لو أن الرواية ميزت لغة السرد من "لغات" الشخوص، وخصت هذه بنازع تخييل وعبارة مختلفة باختلاف الشخوص وأوقاتهم وأطوارهم. وهذا ما لا يتحمله الكاتب ولا يتجشمه، ولا يحمّله كتابته. فما يعود، من غير ريب، الى "صاحب" القص يعود مثله وشبهه الى من يقص خبرهم وأثرهم وحوادثهم، من غير فرق. وجلي أن من كنى عن الذراعين بالجناحين، وعن الفتاة العارية القدمين بالفقمة، وعن بياض الفخذ واكتنازه بالرخام، هو عينه من يكني عن جلال البحر ب"الأبهة الملكية" وعن انحساره بوداعة الطفل، وعن المرأة السعيدة ب"الأميرة فوق الصخور" والطويلة هي نفسها ب"شجر الصنوبر والعرعار" و"أميرة المغرب الأقصى"... وغيرها من الكنايات المتشابهة التي تملأ صفحات الكتاب وتأتلف كتابته منها. وإذا غادر القص الشاطئ والبحر والنوارس، وهذه تسرُّ التشابيه المدرسية والريفية المأثورة، الى طرقات المدينة الداخلية أو الخلفية، وإلى حركات الحياة اليومية وحوادثها، أقامت الكتابة على مجازاتها وعلى نظائرها وأشباهها. فالفتاة ترد على "الشامبانزي" وذي "الوجه الكالح"، على ما يسمي الكاتب رجلاً من أهل مدينة بونه عنابة الجزائرية اعترض طريقها منكراً صحبتها "رجلاً غريباً"، بقول ينم "بثقة وتحد"، ثم تصيح "غَضِبة" بكلمة فرنسية: "إي كلوشار!" تذم الصعلكة والتسكع والعالة، وتختم المشادة بقذفها "خنزيري الشوارع"، "بصقة مدوية غطتهما". فهذا موضع آخر من مواضع الرواية، ووقت ثان، وفعل مختلف، على ما هو ظاهر وبيّن. ولكن كتابة هذه، الموضع والوقت والفعل، تقيم على إشباع المجازات، وتشديد حركاتها وتنوينها، فلا تترك فيها بقية لإعلال ضعيف تنفذ منه الشبهة، وينفذ التقدير أو التأويل. فعلى خلاف الشاطئ المفعم سماء وطيوراً وبحراً وعشباً وأنوثة - وهو إفعام على شاكلة ألوان الرسامين الهواة وصورهم المزوقة - تمتلئ "المدينة" وغابتها المجازية بالحيوانات القبيحة الأسماء والصفات. ولا يداري صاحب القص ظهور الأسماء والصفات، ولا تدرج هذا الظهور درجات وطبقات. فما يظهر في دائرة روايته وقصه يظهر مرة واحدة وأخيرة، على ما يليق بالظهور التام والناجز. فالرجل المعتدي الأول "يشبه الشامبانزي"، ولا يلبث أربعة أسطر، فيطوي الشبه ويتحول، إذا جاز الكلام على تحول، الى "الشامبانزي" من غير فرق بين الشبه الظاهر وبين الحقيقة. وليس "وجهه الكالح"، على هذا، إلا التتمة اللفظية لمعنى العدوان الحيواني نظير طيران النوارس، وضوء الصباح، وأبهة البحر...، وتداعي هذا المعنى. وصاحب الرجل المعتدي "فتى أكرت الشعر، يشبه الخنزير". وعلى ما خلصت "الفتاة"، في آخر الفقرة، ليس الاثنان "أكثر من خنزيري شوارع!". ولا ينبغي لهما أن يكونا غير ذلك في الرواية المفترضة، وعلى ما يقتضي المجاز البلاغي والكلي. وهما "يعترضان" ا لقص اعتراضاً من غير علة إلا التمثيل على التشبيه اللفظي، وتحقيقه. وربما يكني صاحب القص عن هذه الحال حين يكتب أن رجلاً طويلاً يشبه الشامبانزي "يعترض طريق" الفتاة وصاحبها. وإذا أراد وصف ظهور الرجل الثاني كتب: "انبثق من منعطف قريب". وهذا ومثله يترتبان على "توحش" مدينة بونه، وهي "متوحشة... كأي مدينة عربية"، و"محكومة بالارهاب والجوع والسمسرة والدين والحقد والجهل والقسوة والقتل". ويتوج ثلبها، ولا يصح القول: وصفها، انها "تكره الغرباء". ويكتب صاحب القص عشرة أسطر قبل "مشهد" المشادة بين "الخنزيرين" و"الفقمة" ذات الجناحين الخفاقين والفخذين الخ. فتلد غابة التوحش وحوشاً، وهذا لزوم ما يلزم بياناً وبديعاً، ولا محيد عنه. ويلتبس الأمر على صاحب القص، وعلى صاحب الرواية. فيحملان أو يحمل، إذا كانا واحداً توالد المجازات بعضها من بعض، وعلى منطق التوالد الصارم والمحكم، على فعل الرواية. فيُخرج المشادة، وهي لفظية خالصة، من كناية الغابة المتوحشة: الشامبانزي، والخنزير، والاعتراض، والانبثاق، والاشارة بالوجه، و"اللغة المحلية"، وحركة اللسان البذيئة... و"البصقة المدوية" لا يعقل أن "تغطي" الرجلين البهيمين إلا على وجه المجاز المستولد بعضه من بعض، والمستوفي التمثيل والتحقيق. فالفعل، بحسب كتابة الرواية المفترضة، يجب أن يستوفي المفعول استيفاء التشبيه الشبيهين، والكناية المكني عنه. فهو فعل تام الفعلية، وتام الدلالة. والتام الفعلية، والتام الدلالة، لا زمن له. وكابد المتكلمون وأهل اللاهوت والعرفان والإلهيات العناء الشديد في سبيل اخراج المحدَث الفاسد، والناقص، من فعل المحدِث الكامل. فجاءت "روايات" الخلق كلها مشكلة، على هذا القدر أو ذاك. ويجمع بينها استنتاجها الحادثة النتيجة من المقدمات استنتاجاً متوقعاً ومعروفاً: فليس في النتيجة الحادثة ما لم يكن، بقضه وقضيضه، في المقدمات. ولما تعذر تعليل النقص في الحوادث، وهي الصادرة عما لا يعتوره نقص، عمدت الروايات الى التثنية، أو أنكرت النقص ونسبته الى ظاهر عرضي يعوضه اليوم الآخر ويجلوه على حقيقته الباطنة. وعلى مثال المتكلمين، وإنما من غير مكابدة ولا عناء، تلد كتابة "وليمة لأعشاب البحر" الأفعال، الروائية المفترضة، وتلد المشاهد والشخوص والمشاعر والأقوال، من المجازات والكنايات. وهي تلدها على مثال بلاغي وبديعي تام جمالاً وقبحاً، وعشقاً وفسقاً، وحناناً وشبقاً، وإيماناً ويأساً، ورفقاً وعنفاً... فلا يترك التمام المجازي واللفظي محلاً لفعل الزمن، أو "لسعي الدهر"، على زعم الشاعر العربي. ويعود هذا الحال على الرواية، وهي غير القصص ومعانيه المنعقدة على صفحة الحوادث والبارزة للفهم، بعواقب ثقيلة. فتتوالى الفصول على شاكلة صور جهيضة التحريك والحركة. وتكبح الكتابة، النازعة نازعاً ثقيلاً الى الاعراب والتنوين والتفخيم، تشابك الصور ودخولها بعضها في بعض، وتحت بعض. فتنصب كل صورة، بمفردها وعلى حدة، قائمة في نفسها، ولا تدين لغيرها ببعض أودها. ولا تخرج الكتابة من قيامها في نفسها، وبنفسها. وهذا القيام المزدوج هو تعريف البلاغة العربية المدرسية، وتستقيم هذه البلاغة بعوامل، منها: 1 توحيد العبارة على علاقة مستقرة بين طرفي الدال والمدلول وإيداعها معنى ناجزاً في نفسه وسابقاً في ذهن القائل والسمع والكاتب، 2 ونصب هذه العلاقة معياراً جمالياً وخلقياً ثابتاً لا يجوز الحياد أو العدول عنه، 3 وإنكار جواز طرق أخرى قد تسلكها العبارة الى علاقات مختلفة بين دلالات كثيرة على مدلولات كثيرة، 4 وإناطة العبارة تبعاً لما سبق وبناء عليه بمثالات متناقلة ومعروفة. فإذا انقادت الكتابة، الروائية وغير الروائية، لهذه العوامل والمباني اضطرت، شأنها في صفحات حيدر حيدر الموسومة بالرواية والنشيد معاً، الى القبول بما يلزم عنها وتستتبعه من تعسف لا يُسأل عن أوائله وبدائهه ومصادراته، ومن تقليد يخيِّل الإبداع الشعري والصدور عن نوازع الطبيعة العميقة والحية، وأفعال تامة تعصى التأريخ والتوليد والتأويل. ولا يفيد في معالجة نتائج هذه الكتابة وأحكامها المغلقة والميتة، التذرع بأفكار حيدر حيدر، أو بأحكامه الفكرية والجمالية والسياسية، وبعضها معلن على صفحات الكتاب، ولا التنبيه إلى مروياته و"مضامينها" السياسية والاجتماعية. فالكتابة أقوى دلالة وإلزاماً من تناول القص منازعات الحزب الشيوعي العراقي، والقمع القاسمي، ومحاولة "حرب الشعب" في أهوار العراق الجنوبي، والهجرة الى جزائر "المليون شهيد"، والتقلب بين أظهر مجتمع مولود من استيلاء حزب واحد على دولة آمرة، ثم "قذف الجسد الى البحر" كناية عن الانتحار "باندفاعة طائر" - في استتمام دورة الدور على مهدي جواد من الولادة الاسقطسية الأولى الى الموت في البحر والعودة إليه. ففصول الرواية المزعومة، وحوادثها وشخوصها ومحالها وأوقاتها، تنزل من غير استثناء على أحكام بلاغية، تقدَّم إحصاءُ أبرزها وأشدها وطأة. فلا يصدِّق القارئ وهو كاتب هذه العجالة كلمة واحدة، اسماً أو صفة أو فعلاً، من الجمل التي يقرأها. ولا يغفل لحظة عن صدور ما يقرأ عن معان وأحكام سبقت ما يقرأ، وتريد إلزامه بفهمها على الوجه الذي شاءها الكاتب عليه. وكتابة الرواية المزعومة هي آلة الإلزام بالوجه المراد. فهي بمنزلة "الحزب - الدولة" من المجتمع المقهور، وهي جهاز التوحيد والاستباق والتخليد والتنظيم. فليس بين كتابة حيدر حيدر وبين جهاز المقالات السياسية الذي كان سائداً في العقد السابع، وما زال سائداً في آخر العقد العاشر، فرق قليل أو كثير. وهذه الكتابة ملقاة اليوم، هي ومعانيها، على قارعة طرقنا، شعراً ونثراً وهتافات ولافتات وافتتاحيات صحافية ومناظرات تلفزيونية وإذاعية وصوراً شمسية أبدية. * كاتب لبناني