سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"ملك التلفزيونات" يرث اليمين ويهزم اليسار ويفك الحصار عن الفاشيين والانفصاليين . بيرلوسكوني يعود الى قيادة إيطاليا على أنقاض المشاكل المزمنة ... وترهل المؤسسات
عاد سيلفيو بيرلوسكوني 72 سنة الى السلطة، وعادت معه إيطاليا مجدداً الى أحضان اليمين، الوحيد ربما الذي لا يزال يصح فيه هذا التوصيف في شكله التاريخي والتقليدي بين أقرانه في أوروبا. عاد بيرلوسكوني هذه المرة، وهي الثالثة له خلال أربع عشرة سنة ترأس أول حكومة عام 1994، على"صهوة حصان"- وهو الملقب أو الذي يلقب نفسه بپ"الفارس"- مسجلاً انتصاراً فاق دخوله الأول الى المعترك السياسي، آتيا من عالم الأعمال والمضاربات العقارية وعالم"الميديا"يملك ثلاث محطات تلفزيونية وفريق كرة القدم أ. س. ميلان المعروف أوروبياً وعالمياً. فوز بيرلوسكوني في الانتخابات التشريعية فاق التوقعات التي كانت تحدثت في الأيام الأخيرة عن احتمالات تقدمه بثلاث نقاط مئوية فقط على منافسه فالتر فيلتروني 52 سنة زعيم"الحزب الديموقراطي"الناشئ. وضمن سيطرة على مجلسي النواب والشيوخ تؤمن أكثرية مريحة لحكومته الجديدة طيلة خمس سنوات، مدة عمر المجلس الجديد. وتمكن من تحقيق عدد وازن من مقاعد مجلس الشيوخ الذي يقوم التمثيل فيه على نظام انتخابي معقد مرتبط بنسب التمثيل في مجالس المقاطعات، ما أدى عملياً الى سقوط حكومة"وسط اليسار"بزعامة سلفه رومانو برودي بعد أقل من سنتين فقط على قيامها لأنها لم تكن تتمتع سوى بغالبية ضئيلة لا تتعدى الثلاثة أصوات، وجلهم من المعينين شيوخاً مدى الحياة. فيما حصل بيرلوسكوني هذه المرة على أكثرية تفوق ال15 مقعداً. ولأن النظام السياسي الإيطالي المترهل وآلياته المعقدة تفرض على الحكومة نيل الثقة في المجلسين، وكذلك مناقشة القوانين والمشاريع والتصويت عليها في المجلسين وأن أي قانون أو مشروع يعدل ولو في شكل طفيف في مجلس الشيوخ يجب أن يعود مجدداً الى مجلس النواب لإقراره بصيغته النهائية. ناهيك عن عدد البرلمانيين الهائل الذي يناهز الألف بين المجلسين 630 في مجلس النواب و315 في مجلس الشيوخ، وتشكل رواتبهم عبئاً لا يستهان به على الخزينة، لذلك، كان العمل البرلماني والتشريعي يشهد أياماً وأسابيع من الجلسات المملة التي لا تنتهي، سئمها الإيطاليون واضطرت المحطات التلفزيونية الى نقل وقائعها في ساعات الليل الأخيرة. عام 1994، دخل بيرلوسكوني"المغمور سياسياً"كوريث للطبقة السياسية التي حكمت إيطاليا نحو أربعة عقود، وتحديداً اليمين الديموقراطي المسيحي أحد أبرز وجوهه رئيس الحكومة الأسبق ألدو مورو الذي اختطف واغتيل على أيدي تنظيم"الألوية الحمراء"عام 1978، وجوليو اندريوتي رئيس الحكومة الأسبق والمعروف بصداقته للعرب، ولاحقاً بالشراكة مع الحزب الاشتراكي الإيطالي الذي كان زعيمه الأبرز في الثمانينات بيتينو كراكسي. تلك الطبقة التي انهارت تحت وطأة فضائح الرشوة والفساد والمحسوبيات واهتراء المؤسسات، وغابت أحزابها سريعاً عن الوجود خلال أقل من سنتين 1992-1994. عندها،"نزل بيرلوسكوني الى الساحة"والتعبير له كمنقذ، وركّب حزباً في أقل من ثلاثة أشهر أطلق عليه اسم"إيطاليا الى الأمام"، ضم كلاً من تيتّم في الحزبين الرئيسين، الديموقراطي المسيحي والاشتراكي، وصغار رجال الأعمال وكل مشجعي فريق ميلان في أنحاء إيطاليا كافة. كل ذلك، من أجل إنقاذ إيطاليا من"براثن الشيوعية"، فيما كان الحزب الشيوعي الإيطالي في بداية طريقه للتحول الى حزب اشتراكي ديموقراطي. فكان له ما أراد، في بلد كاثوليكي بامتياز تفيد الإحصاءات أن نسبة تفوق الخمسين في المئة من مواطنيه مؤمنة ومعظمهم يمارس شعائره الدينية، ويتأثر بشعار محاربة الشيوعية، على رغم أن الحزب الشيوعي كان قد طاول في السبعينات من القرن الماضي، شرائح وفئات شعبية واسعة من الإيطاليين مكنته من الحصول منفرداً على نسبة 34 في المئة من أصوات الناخبين. وفي 1994، خاض الأمين العام الحزب الشيوعي الذي اصبح اسمه يومها"حزب اليسار الديموقراطي"، والذي كان الناجي الوحيد من فضائح الرشوة والفساد، الانتخابات في مواجهة بيرلوسكوني وخسرها. إلا أن"ملك التلفزيونات الخاصة"لم يكتف يومها بالوراثة الثمينة والسمينة، وإنما ذهب أبعد من ذلك وقام بعملية"فك حصار"عن الحزب الفاشي الذي كان يعرف يومها باسم"الحركة الاجتماعية الإيطالية"لأن الدستور الإيطالي والقوانين تمنع قيام أحزاب فاشية بعد هزيمة بنيتو موسوليني وإعدامه وحل حزبه، عام 1945. وعقد بيرلوسكوني تحالفاً انتخابياً معه بعدما كان يعيش معزولاً وعلى هامش الحياة السياسية. كما انه أدرك بحس رجل الأعمال، وبكونه من شمال إيطاليا، أهمية ضم"رابطة الشمال"الانفصالية والعنصرية، الصاعدة يومها بين 12 و 14 في المئة في انتخابات 1992 في المقاطعات الشمالية الغنية. ولكن هذا التحالف الفضفاض وغير المتجانس، والمؤلف من مجموعة قوى لم يسبق ان مارست الحكم من قبل، قضى على تجربة بيرلوسكوني في أقل من ثمانية اشهر. وسقطت حكومته على وقع التظاهرات النقابية والشعبية التي شارك فيها ما يفوق المليون إيطالي في شوارع روما. عام 2001، عاد بيرلوسكوني الى"الساحة"مجدداً بعد أن قضى ست سنوات في صفوف المعارضة، دفع خلالها حليفه الفاشي جانفرانكو فيني الى تجميل صورته واتخاذ اسم"التحالف الوطني"بعد إبعاد بعض الوجوه الفاشية والعنصرية المقيتة من صفوفه وإدخال بعض الوجوه اليمينية المحافظة وإعطاء بعض المناصب الحزبية والوزارية لبعض الشخصيات الديموقراطية المسيحية اليمينية التقليدية. كما سعى الى احتواء"رابطة الشمال"الانفصالية عبر إغداق المناصب والأموال على بعض قيادييها الذين تبوأوا مناصب نافذة في مقاطعات الشمال أو خرجوا على"الرابطة". فيما كان هو يمارس دور المعارض الشرس لحكومة برودي الأولى 1996- 1998، ومن ثم حكومة ماسيمو داليما 1998 - 2001، الذي كان يومها زعيماً للحزب الشيوعي السابق، أي حزب"الديموقراطيين اليساريين"، والذي شغل أخيراً منصب وزير الخارجية في حكومة برودي قبل انتخابات الأحد الماضي. وساهمت الصراعات والتجاذبات القوية داخل تحالف يسار الوسط، المؤلف من مجموعة أحزاب وقوى غير متجانسة، وكذلك الخلافات داخل اليسار نفسه، بين معتدلين "الديموقراطيين اليساريين" وراديكاليين "حزب إعادة التأسيس الشيوعي" وحزب"الخضر"وغيرها... في عودة زعيم"إيطاليا الى الأمام"الذي استفاد أيضاً من ضعف شخصية الخصم الذي رشحه يسار الوسط في انتخابات 2001، وكان عمدة روما لسنوات وينتمي الى الوسط المسيحي. وذهب رفاق فيلتروني السابقون في"اليسار الديموقراطي"الى تشكيل تحالف انتخابي مع"حزب إعادة التأسيس الشيوعي"وپ"حزب شيوعيي إيطاليا"الراديكاليين الستالينيين وپ"حزب الخضر". وأصيب هؤلاء الذين أطلقوا على تحالفهم تسمية"اليسار - قوس القزح"بهزيمة نكراء أدت الى خروجهم النهائي من البرلمان، إذ لم يتمكنوا من الحصول على مقعد واحد بفعل قانون الانتخاب، الذي أُقرّ في العقد النيابي الأخير بتوافق وتواطؤ؟ تحالف اليمين البيرلوسكوني ومن يشكل اليوم"الحزب الديموقراطي"، والذي يفرض حصول أي حزب أو تشكيل سياسي على نسبة لا تقل عن 4 في المئة كي يتمثل في مجلس النواب الجديد. وهكذا، لم تتمكن التشكيلات"اليسارية"الأربعة من ولوج عتبة ال 4 في المئة. والمصير نفسه لاقاه الحزب الاشتراكي الذي أعيدت الحياة إليه أخيراً، والذي رفض"الحزب الديموقراطي"الجديد ضمه الى تحالفه الانتخابي، وكان نصيبه واحد في المئة فقط. ومن بين الرؤوس التي سقطت رئيس البرلمان وزعيم"حزب إعادة التأسيس"فاوستو برتينوتي الذي أعلن انسحابه من الحياة السياسية. ووصفت بعض الصحف الإيطالية ما حل في صفوف هذا اليسار بپ"التسونامي". أما على جبهة اليمين، فقد عزز بيرلوسكوني تحالفه مع"التحالف الوطني"الفاشيين السابقين ومع"رابطة الشمال"التي فضلت ان تخوض الانتخابات في شكل مستقل وحصدت في شكل مفاجئ نسبة 8 في المئة. ولكن المفاجأة الأكبر هي حصول"الرابطة"على نسب خيالية في شمال إيطاليا قاربت الخمسين في المئة، وتحتوي هذه النسبة على كثافة أصوات عمالية كانت تصوّت لليسار على تنوعه. فيما انفصل"اتحاد الديموقراطي المسيحي"ضلع من الحزب الديموقراطي المسيحي القديم عن تحالف اليمين، الذي استبدل أخيراً بيرلوسكوني، كعادته في حبه لپ"الصرعات"، اسمه"بيت الحرية"بپ"شعب الحرية". وتمكن هذا التيار من تجاوز نسبة 5.5 في المئة، وهو أعلن خلال الحملة الانتخابية انه سيبقى في الوسط ولن يشارك في أي حكومة مع بيرلوسكوني. إلا أن هذا الأخير لن يحتاجه في تشكيل أكثرية داعمة لحكومته. كيف عاد بيرلوسكوني ظافراً هذه المرة؟ يبدو انه تعلم من حملاته السابقة، فهو لم يغدق الوعود غير القابلة للتحقق على عادته، لإدراكه على الأرجح عمق الأزمة الاقتصادية التي تعصف مجدداً بإيطاليا. كان خائفاً الى حد ما من نجم"الحزب الديموقراطي"الصاعد، فعاد الى نغمة التخويف من اليسار متهماً خصمه انه لبس لبوس الديموقراطية ولكنه لا يزال يسارياً شيوعياً. وركز في المقابل على مسألة الأمن وتوفيره للمواطنين، والذي تحول الى حاجة ملحة في السنة الأخيرة. وهذا يفسر في جزء منه ربما صعود"الرابطة"التي تلعب باستمرار على وتر الوجود الأجنبي، خصوصاً العربي والمغاربي المهاجر منه كعنصر"مخل بالأمن". وأدى، خطاب"الرابطة"العنصري الى ظهور شبيه لها، ولكن من الموقع الآخر، في جنوبإيطاليا أطلق على نفسه اسم"حركة من أجل الاستقلال الذاتي"كرد على الإهمال الذي يعانيه الجنوب. إلا أن المفارقة الأغرب هي أن هذه الحركة ضمها بيرلوسكوني الى تحالفه الانتخابي وحصلت على بعض المقاعد في مجلسي النواب والشيوخ. كما أن بيرلوسكوني استفاد من أخطاء الخصم ومن تشرذمه، فقد كسب فيلتروني أصواتاً في الوسط وبين المعتدلين، ولكنه لم يربح أصوات اليساريين التي ضاعت في تصويتها لتحالف"اليسار - قوس القزح". وفي حين استفاد فيلتروني من الاستقطاب الحاد بين الطرفين الرئيسين، إلا ان خصمه بيرلوسكوني استفاد أيضاً. كما ان الضرر الذي لحق بالحزب الديموقراطي، جاء أيضاً من شريحة لا يستهان بها من الناخبين عبرت عن يأسها من السياسة والسياسيين. وهذا يحصل عادة في صفوف اليسار وأصحاب الرأي، وقد تجاوزت مثلاً نسبة الممتنعين عن التصويت ال 3 في المئة مقارنة بانتخابات 2006. * كاتب لبناني