رسمت للمرأة العربية قبل الإسلام صورة نمطية، سوداء من سائر جوانبها، إذ تبدو موءودة مهانة، لا شأن ولا مكانة، وتتعرض دوماً للعنف الجسدي والجنسي والنفسي صورة انتقام موتور من أنوثتها وجنسها. وكثيراً ما روّج الباحثون العرب هذه الصورة، وردّدوها كأنهم يقرأون من كتاب واحد، وهذا مثلاً خليل أحمد خليل، جعل عنوان كتابه المرأة العربية وقضايا التغيير: بحث اجتماعي تاريخ القهر النسائي ورسم فيه صورة ثابتة هي: صورة المرأة الجارية الأَمة، العبدة مؤكداً أن المرأة"وضع التابع المقهور"والرجل"وضع المتبوع القاهر". ولو تركنا هذه الصورة النمطية وراجعنا جملة من الظواهر والمفاتيح المناسبة لوصلنا إلى نتيجة مغايرة لما لحق بالمرأة العربية من تشويه وسوء قراءة. ففي أنساب العرب، نجد كثيراً من الأفراد والجماعات عُرفوا بأسماء الأمهات أكثر من الآباء، وقد نُسِبَ المناذرة، ملوك الحيرة أمهم"ماء السماء". ومثل هذه النسبة نجدها أسماء كثير من الشعراء والأعلام، حقبة ما قبل الإسلام، المرحلة الإسلامية أيضاً، ومن هؤلاء: ابن شبة، وابن الزبعرى، وابن الحدادية، وابن الشجراء، وابن طاعة، وابن الدمينة، وابن ضبة، وابن الطثرية، وابن ميادة، وابن الإطنابة... ومثل هذا كنى الشعراء: فحاتم الطائي أبو سفّانة، والزبرقان بن بدر أبو شذرة، والمهلهل بن ربيعة أبو ليلى... وقد ألّف ابن حبيب كتاب"من نسب أمه من الشعراء"عدّد منهم تسعة وثلاثين، فهي ظاهرة معروفة أنساب العرب، وحسبنا من هذه النسبة ما تومئ إليه من تقدير للمرأة، ولشهرة الرجل بها من دون أن يقلل ذلك من مكانته أو حسبه، فضلاً عن إشارة مهمة وردت عند الجاحظ في قوله:"وبنو مزينة، هم بنو عثمان، ومزينة أمهم، ولكن الأم إذا كانت ذات نباهة، أضافوا الولد إليها، وإن كان الأب نبيهاً". ففي هذا التعليق ما يومئ تقدير الأم/ المرأة، بل ويشير تقديم العرب للمرأة إن تساوت مع الرجل النباهة، فهم لا يلجأون النسبة للمرأة حين يجهلون الأب، ولا حين يكون من المغمورين، بل هي عادة فيهم، ومكوّن جوهري وعيهم، مردّه تقدير المرأة ووعيهم بشراكتها معهم الحياة، ومبلغ اعتزازهم بذكرها والانتماء إليها. وفي الشعر العربي تنهض المرأة بوظيفة الناظم الأساس القصيدة. فالشاعر حين يفتتح قصيدته يجعل المرأة العنصر الأساس فيها، فالطلل منسوب امرأة، وكل ما يظهر هذا المشهد مرتبط بها. وتحضر المرأة مشهد الظعائن الذي يرد إما مستهل القصيدة، أو بعد مشهد الطلل عند افتتاح القصيدة به، والظعينة هي المرأة الراحلة. وكثيراً ما يقصر الشاعر قصيدته على المرأة، فتضحي بذلك منحى تعبيرياً، يعينه على محاورة عالمه والكشف عن رؤيته للكون والحياة، وتأخذ هيئة الرابط الذي ينظم وجود الشاعر ومواقف قصيدته. بما اتصلت المرأة بالحرب فدفعت العاشق حومة المعركة ليبدو جديراً بحبها كعنترة بن شداد أو سواه. المستوى الرمزي ربط العرب بين المرأة واللات إلهة الشمس وهي إحدى أشهر الإلهات أو الربّات الديانة الوثنية، ديانة جمهور العرب قبل الإسلام. فاللات نفسها إلهة أنثى، وقد شبّه الشعراء العرب المرأة بالشمس، أي بالإلهة. ولو أن المرأة واقعاً ورمزاً لم تكن على مستوى رفيع من التقدير الذي قد يصل حد التقديس، لما رفعها الشاعر العربي الصورة الرمزية مستوى الشمس المعبودة، سواء اعتقد الشاعر بها أم لم يعتقد. فهي كل حال تمتلك تاريخاً وجدانياً عميقاً نفوس العرب، وأن ترد المرأة سياق ديني أو مرتبط بالمعتقد الوثني معناه نها رمز للقداسة ولما هو قريب من الروح والتصور الاعتقادي. وليس مما يدخل باب المعقول أن تكون المرأة مهانة مستوى الواقع، مكرمة مستوى الرمز، بخاصة إذا تذكرنا مكانة الشعر وموقعه ?? حياة العرب ووعيهم، وأن تكون صورة المرأة فيه على النحو الذي أشرنا إليه معناه أنهم يصدرون عن تصور شامل وليس عن فهم فردي يخص الشاعر وحده دون بقية جمهور العرب. أما النساء المبدعات في الشعر والنثر فقد اهتم المصنفون العرب بنتاجهن، وخصص بعضهم كتباً مستقلة لشعر النساء، وقد وصلت إلينا نماذج من هذه الكتب، ومن أمثلتها:"بلاغات النساء"لابن طيفور وپ"أشعار الجواري"للمفجَّع الشيعي، وپ"أشعار النساء"للمرزباني، وپ"الإماء الشواعر"لأبي الفرج الأصفهاني، وپ"الحدائق الغنّاء في أخبار النساء"لأبي الحسن المعافري، و"نزهة الجلساء أشعار النساء"للسيوطي. ومن الكتب المتأخرة:"كتاب الدر المنثور في طبقات ربّات الخدور"لزينب فواز في أواخر القرن التاسع عشر، وپ"أعلام النساء"لعمر رضا كحالة. وقد اشتهر من بين من تكهنوا جملة من النسوة اللواتي قصد العرب إليهن التماساً لعونهن، ولأولئك النسوة دور واضح الحياة العربية من خلال حل المنازعات وفصل الخصومات، فضلاً عن تأويل الرؤيا، وكأن العرب اعتقدوا بأن المرأة قدرة خفية، وأن صلتها بعالم الغيب أوثق من صلة الرجل، ولذلك قصدوا الكواهن من النساء يشاورونهن، ويعرضون عليهن قضاياهم. وممن اشتهرن هذا العلم: طريفة الكاهنة التي لقبت بطريفة الخير، حكايات مرتبطة بخراب سد مأرب، إذ هي أنذرت ملك اليمن وأعلمته بخراب السد، وزوال ملكه. وأما كاهنة ذي الخلصة فمنسوبة ذي الخلصة، أحد بيوت الأصنام أو المعابد العربية، وهو الكعبة اليمانية المرتبطة بالدين الوثني، مما يضفي على الكعبة وعلى المرأة المقيمة فيها صفة دينية وطابعاً مقدساً. وقد ظهرت بعض النسوة اللائي عرفن بالحكمة وإصابة الرأي، وذكروا أخباراً عن حكيمات مشهورات عدّد منهن الألوسي بلوغ الأرب خمس نسوة: ابنة الخس، جمعة بنت حابس الإيادي، صخر بنت لقمان، خصيلة بنت عامر، حذام بنت الريان. والكلام على أولئك الحكيمات، وتداول أخبارهن، والمواقف التي أصبن فيها، وأسكتن من يسألهن، دليل على مبلغ عناية العرب بمن يمتلك المعرفة، رجلاً كان أو امرأة، وتمثل الحكيمات مظهراً آخر من مظاهر الإسهام المعرفي للمرأة عصر ما قبل الإسلام، كما يقدم دليلاً آخر على أن النبوغ، كما فهمه العرب، وتفاعلوا معه، لا يرتبط بجنس دون آخر، وأنهم يقدرون المرأة سائر وجوه نشاطها وضروب اهتمامها. أما في الجانب الاجتماعي والأسري، فنلاحظ حرية المرأة اختيار الزوج، وثمة أخبار كثيرة تشير أن بعض النسوة اخترن أزواجهن بأنفسهن، لم يجبرهن أب أو ، ولنا مثال خديجة بنت خويلد التي كانت تاجرة ذات مال وشأن، وهي التي اختارت محمداً عليه السلام وخطبته لنفسها، فعلها هذا ما يشير بعض ما اعتادته العرب آنذاك، وعي متسامح بطبيعته، يقوم على الحرية والاختيار، لا على العنف والإجبار. وليس هذا الأمر وقفاً على خديجة، فهذه هند بنت عتبة أيضاً تقول لأبيها: إني امرأة قد ملكت أمري، فلا تزوجني رجلاً حتى تعرضه علي، قال: لك ذاك. وقولها:"قد ملكت أمري"يشير نضج المرأة العربية، ووعيها بحقها اختيار من تشاركه حياتها، تسيير شؤونها، من دون أن يجبرها وليها أو يزوجها ممن لا تستشار فيه، رد أبيها ما يومئ المجتمع المتسامح الذي يتفهم حق المرأة الزواج، أن العرب لم يكونوا يجبرون بناتهم على الزواج ممن يريدون، بل كانوا يشاورونهن في ما يخص شؤونهن. ومثلما امتلكت المرأة حق الزواج فقد امتلكت حق الطلاق، فللمرأة أن تطلق زوجها إن هي أعرضت عنه، أما الإشارة الطلاق، أو إعلانه فليس صعباً، إذ تكتفي بتغيير باب البيت أو الخيمة. ومن ذلك ما جاء"الأمالي"للقالي، خبر حاتم الطائي مع ماوية زوجته بعدما ضجرت من كرمه فقد عاد إلى بيته فوجدها قد غيرت باب الخباء أو حولته فعرف أنها طلقته. وما يهمّنا من هذه الحكاية ما تشير إليه من حق المرأة الطلاق، وهو مثال لحرية المرأة، وامتلاكها ما يوثق مكانتها ويضعها مرتبة لا تبعد من مرتبة الرجل وما يمتلكه من حقوق. وتفيدنا الإشارة الرمزية وقوع الطلاق، من دون اعتراض من الرجل، فإذا تغير الباب المألوف يمتنع الرجل من دخول البيت، ويعرف ما وقع، ويقبل به، دون أن يحاول إجبارها على البقاء معه، كلام القالي ما يشيرنها عادة شاملة وليست حالاً مفردة تختص بها امرأة حاتم وحدها. أما قضية الوأد فمسألة مشهورة، وقد شاع أمرها وذاع، حتى كادت تغلب على صورة المرأة العربية قبل الإسلام، وقد ورد ذكرها القرآن الكريم، واختلف الباحثون توجيهها والنظر إليها مذاهب شتى، لكنها كل حال لم توضح حجمها وصورتها الصحيحة بما يتناسب مع الحياة العربية وأحوال المرأة فيها آنذاك. أما قتل الإناث أو الذكور على حد سواء، فيمكن فهمه على نحو ما فعل عبدالمطلب عندما نذر أن يضحّي بأحد أبنائه إذا رزق عشرة أولاد، فهذا من باب التضحية المقدسة التي لا تقتصر على جنس دون آخر. أما الوأد بسبب الفقر والفاقة فيخصّ البنين والبنات معاً، كما أنه مقصور على بعض اليائسين. وقد سمعنا أيامنا الحاضرة عما يشبه ذلك غير مكان، فلم لا يكون الحال ذاته عصر ما قبل الإسلام، وجاء القرآن ليهدّئ نفوس الناس الذين قد يبلغ بهم شظف العيش وجنونه مثل هذا المآل. ومقابلة هذه الملاحظة بالوضع العام الذي كانت عليه المرأة، تسهم تحديد مشكلة الوأد وضبطها، بعدما بولغ فيها، فصارت مضرب المثل إساءة العرب الى المرأة وعنفهم ضدّها. ولعل الأمور التي عرضنا لها بإيجاز شديد تشير إلى صورة مختلفة للمرأة العربية في فجر تاريخها، وهو ما يدفعنا إلى عدم القبول بأمور شائعة سارت بين الناس كأنها حقيقة مقررة في قضية المرأة وغيرها، وما نراه أن تدهور أحوال المرأة جاء متأخراً كثيراً عن الجاهلية وعن العهود الإسلامية الأولى، فهو من نتاج العصور المتأخرة، وبولغ فيه بتأثير من محاولة بناء تاريخ للقهر النسائي العربي يشبه ما مر في التاريخ الأوروبي من دون مراعاة لاختلاف الأحوال ومجرى التاريخ بين ثقافتين مختلفتين تكويناً وتاريخاً إلى حد العداء المتجدد من حقبة إلى أخرى.