لاحظ مايكل ريدهيد M. Redhead في تعليقه على كتاب فيزيائي للعالم الأميركي لي سمولن، صدر في 2002، ان الفيزياء في أيامنا هذه تقترب أكثر فأكثر نحو الفلسفة، وحتى علم الجمال، وذلك بعد أن أصبح البرهان المستمد من التجربة والمشاهدة على النظريات الترقيعية لنموذج الانفجار الكبير، متعذراً في حدود الامكانات التكنولوجية الراهنة. أو بكلمة أخرى، أصبحت هذه النظريات أقرب الى الميتافيزيقا منها الى الفيزياء. ويقول: كان ولا يزال هناك اتجاهان في الميتافيزيقا، صنّفهما بيتر ستراوسون Peter Strawson ب"الوصفية"، و"التصحيحية". تسعى الميتافيزيقا الوصفية الى الكشف عن كيف نفعل، أو أكثر طموحاً، كيف نتصور العالم الذي نجد أنفسنا في خضمه. أما الميتافيزيقا التصحيحية فتسعى، على خلاف ذلك، الى التأكيد على أن تفكيرنا الاعتيادي عن العالم، أو الواقع، خاطئ وبحاجة الى تصحيح. كان من أشهر الفلاسفة التصحيحيين أفلاطون، ولايبنتز، وبيركلي، حائكو التأملات الميتافيزيقية الفانتازية. أما الميتافيزيقا الوصفية فقد أعطاها كانط شحنة قوية، وأصبحت منذ ذلك الحين أقرب الى الموضة، بعد أن اعتبر الكثير من فلاسفة العصر الحديث الميتافيزيقا التصحيحية فاقعة وبلا أساس. أما اليوم فإن الميتافيزيقا التصحيحية عادت الى الظهور ثانية وبنَفَس انتقامي، وذلك من خلال قناتها الفيزياء النظرية الحديثة، أو ان الفيزياء الحديثة أصبحت ضرباً جديداً من "الميتافيزيقا التجريبية"، على حد تعبير أبنر شيموني. ويزيد الطين بلة ان النظريات الحديثة تنطوي على رياضيات معقدة جداً قد تزيد النظريين غطرسة وتمسكاً بآرائهم، مستغلين عجز التجارب المختبرية الراهنة عن أن تكون حكماً قاطعاً في شأن صحة أو بطلان نظرياتهم. كنت أود أن أتحدث عن ظاهرة تشبيح المادة، وهي دعوى ميتافيزيقية، على ما يبدو، تلتقي مع نظرية الانفجار الكبير، أي تذهب الى القول بغياب المادة، والفضاء، والزمن، في لحظة الفرادة، أي لحظة الانفجار، أو نشوء الكون، كما يقول اصحاب هذه النظرية. لكنني سأتجاوز هذا الموضوع، أو أرجئ الحديث عنه الآن، لأستعرض بعض أحدث ما يُطرح من نظريات في علم الفيزياء. وسأبدأ بحكاية تشبيح الفضاء، والزمن، لأنها تبدو أكثر فانتازية. اذا كان معظم علماء الفيزياء يفضلون الحديث عما بعد لحظة الانفجار الكبير، لأن القوانين الفيزيائية تتعطل في تلك اللحظة، كما يؤكدون، فإن ستيفن هوكنغ تصدى الى البداية ذاتها. بحث هوكنغ مع زميله، العالم جيمس هارتل، موضوع الانفجار الكبير، و"توصلا" الى انه في هذا الجحيم الكوني من الحرارة المقارب الى الصفر في حجمه تنعدم الفوارق بين الزمن والفضاء، ويُصبح الزمن بُعداً فضائياً، أي ان الزمن "يتفضأ" على حد تعبير هوكنغ. وقد استند هوكنغ وهارتل هنا الى الأعداد التخيلية، وطبقاها على مفهوم الزمن، وعند ذاك سيفقد الزمن طابعه الأساسي في جريانه الدائم باتجاه واحد هو المستقبل، أو ما يُسمى سهم الزمن، وهذا الزمن الخيالي سيؤشر الى الاتجاهين المتعاكسين. وتصور هوكنغ ان الزمن يرتد الى الوراء في ظروف خاصة: يحدث هذا، كما قال، عندما يكفّ الكون المتحدد حالياً عن النمو ويبدأ بالتقلص. وقد أجفل هوكنغ بذلك زملاءه العلماء النظريين، عندما أطلق هذه الدعوة في 1985 لكنه تراجع في ما بعد عن هذا الكلام الذي لا يختلف كثيراً عن تهويمات المحششين. على ان موضوع "تفضؤ" الزمن لم يتخلّ عنه العلماء أو بعضهم؟ وهذا ما طالعنا به العالم الأميركي بريان غرين، صاحب كتاب The Elegant Universe، بعد أن كلفته جريدة "نيويورك تايمز" بكتابة كلمة عن الزمن عند حلول عام 2004، فكتب تحت عنوان الزمن الذي كنا نحسب أننا نعرفه. في ومضات زمنية قصيرة جداً نحو واحد على عشرة ملايين الترليونات، الترليونات، الترليونات من الثانية ومسافة فضائية قصيرة جداً نحو واحد من بليون ترليون ترليون من السنتيمتر، تشوه اضطرابات ميكانيك الكم فيزياء الذرة وما دونها الفضاء والزمن الى حد ان المفهوم التقليدي لليسار واليمين والخلف والأمام، والأعلى والأسفل والقبل والبعد يصبح لا معنى له. ويقول بريان غرين ان لدى العلماء قناعة بأنهم مشرفون على ثورة كبرى، ستكشف النقاب عن الطبيعة الجوهرية للزمن والفضاء، فالكثير من العلماء يعتقدون بأن هذه ستتمخض عن صوغ لقانون طبيعي جديد بكل معنى الكلمة سيُلزم العلماء على التخلي عن مصفوفة الفضاء - الزمن التي كانوا يتعاملون معها لقرون، مقابل "عالم" مجرد من الفضاء والزمن. لكن بريان غرين يعترف بأن هذه الفكرة تنطوي على تحد كبير، قد لا يهضمه المشتغلون في حقل العلوم التجريبية. مع ذلك يتصور هؤلاء القائلون بتشبيح الفضاء والزمن، أن الزمن والفضاء لن يكون لهما موقع في المعادلات الأساسية لهذا الموضوع. أو ان الزمن والفضاء سيعتبران ظاهرتين ثانويتين، لا يظهران إلا في ظروف ملائمة في عقبول الانفجار الكبير، على سبيل المثال. ها نحن نعود الى نموذج الانفجار الكبير الذي يعتبره بريان غرين ومعظم أفراد الجالية الفيزيائية منطلقاً أو مقدمة منطقية لكل شيء. ويقول غرين: ومهما بدا ذلك خيالياً للكثير من الباحثين، بمن فيهم أنا، فإن انسلاخ الزمن والفضاء من القوانين الجوهرية يبدو لا مناص منه. أمّا لي سمولن Lee Smolin فيذهب الى ما يرقى الى تشيؤ أو تجسيد الفضاء والزمن، وكأنهما كيانان ماديان. يقول في مقالة ذرات الفضاء والزمن، المنشور في عدد كانون الثاني يناير 2004 من مجلة ساينتفيك أميركان: في العقود الأخيرة، تسأل علماء الفيزياء والرياضيات فيما إذا كان الفضاء مؤلفاً من قطع منفصلة، وهل هو متصل Continuous، كما تعلمنا في المدارس، أم أنه أشبه بقطعة قماش، منسوجة من خيوط منفردة؟ وإذا كان في وسعنا ان نتوصل الى قياس قطع صغيرة بما فيه الكفاية من الفضاء، فهل سنرى "ذرات" من الفضاء، "حجوماً" لا تُختزل ولا يمكن تجزئتها الى أي شيء أصغر؟ وماذا عن الزمن؟ هل تجري الطبيعة بصورة متصلة، أم ان العالم يمضي في سلاسل من خطوات دقيقة جداً، يتصرف على نحو أشبه بحاسوب رقمي Digital؟ تتنبأ نظرية "جاذبية الكم الأنشوطية" Loop quantum gravity، وهي من اجتهاد لي سمولن، بأن الفضاء يشبه الذرات: أي أنه مكوّن من مجموعة من الذرات. وتذهب الى ان أصغر حجم فضائي منفصل ممكن يعادل مكعب المسافة التي تُدعى بالطول البلانكي نسبة الى العالم الألماني Plank مؤسس ميكانيك الكم، ويساوي جزءاً من عشرة مرفوعة الى الأس 99 من السنتمتر المكعب. وبالتالي تذهب هذه النظرية الى ان هناك زهاء واحد وبعده تسعة وتسعون صفراً من الذرات الحجمية في كل سنتمتر مكعب من الفضاء. ومن المنظور الزمكاني للأشياء، ان لقطة فوتوغرافية للحظة زمنية معينة هي أشبه بشريحة مقتطعة من الزمكان... ان الزمن، بحسب هذا التفسير، لا يجري مثل النهر بل مثل تكة الساعة، بتكات تستغرق الواحدة منها جزءاً من عشرة مرفوعة الى الأس 43 من الثانية. ويتذرع العلماء بعجز التكنولوجيا الحالية عن قياس هذه الوحدات الفضائية والزمانية الصغيرة جداً... لكن لي سمولن يبدو متفائلاً: ليس من المستحيل أننا قد نرى في زمننا الراهن دليلاً عن الزمن السابق للحظة الانفجار الكبير. وبعد هذا يستدرك - في آخر المقال - قائلاً: مع ذلك، ان كل ما طرحته شيء نظري، فقد يكون الفضاء متصلاً، بالرغم من كل ما تحدثت عنه...! وفي الثمانينات من القرن العشرين اجترحت نظرية الأوتار، أو الأوتار الفائقة Superstrings والتي يُفترض - نظرياً، طبعاً - أن تضع حداً لسلسلة الدمى الروسية الصغيرة من الجسيمات التي تشكل الذرة. بمقتضى نظرية الأوتار هذه أن محتويات الكون ليست جٌسيمات أولية Particles، بل خيوط دقيقة جداً، ذات بُعد واحد؟ أشبه بأشرطة مطاطية متناهية الدقة، تتذبذب الى الأمام والوراء. وتقول هذه النظرية ان الأوتار مقومات مجهرية فائقة الصغر تتكون منها الجسيمات الدقيقة التي منها تتكون الذرات. وطول الوتر، كما يزعم أصحاب هذه النظرية، أصغر بمقدار مئة بليون بليون مرة من نواة الذرة! ولا شك أن قياسه سيكون من باب المستحيلات في حدود طاقات أجهزتنا المحلية. الى هنا وكل شيء يتعلق بهذه النظرية يبدو محتملاً او مقبولاً في اطار الفطرة السليمة، بيد ان الأمر يتجاوز هذا الإطار عندما يؤكد اصحاب هذه النظرية انها تصح تكون سارية المفعول. فقط في عالم مؤلف من ستة وعشرين بعداً لنأخذ في حسابنا ان عالمنا او كوننا يتألف من ثلاثة ابعاد، كما هو معلوم. ثم طرأ تغير على هذا العدد من الأبعاد، فاختصر الى عشرة، ثم الى اثنين، ثم الى ناقص بعدين! وهنا ينصحنا خواو ماغويشو بأن نتشبث جيداً بكراسينا لئلا يستبد بنا الضحك فنفقد توازننا! ثم استقرّ العدد اخيراً على احد عشر بعداً. ولقصور إمكانات التجارب المختبرية، التي باتت تكلف اليوم بلايين مضاعفة من الدولارات في التسعينات لم يصادق الكونغرس الأميركي، لأسباب مالية، على بناء احدث معجل لتحطيم الذرة في ولاية تكساس، اطلق العلماء النظريون العنان لمخيلاتهم. لهذا باتت الساحة العلمية تشهد في العقود الأخيرة الكثير من النظريات التي تبقى معلقة في الهواء، لأنك لا تستطيع دحضها في اطار الوسائل المتيسرة لديك، ولا تستطيع القطع في صحتها. من بين هذه النظريات الجديدة، فضلاً عن نظرية الأوتار، نظرية تفترض وجود مادة او طاقة غامضة في الفضاء الخالي ترعى "الجوهر" Quintessence وتفترض ان هذا الجوهر له خاصية مذهلة تجعل الكون يتسارع في تمدده: "ان معظم اشكال الطاقة، كالمادة والإشعاع، يجعل التمدد الكوني المفترض يتباطأ بسبب قوة الجاذبية. اما جاذبية "الجوهر" فهي مُنفرة Repulsive ، وهذا يسهم في تسارع التمدد الكوني". هذه الطاقة أطلق عليها اسم "الطاقة الدكناء" ولعل هذه الطاقة الدكناء، كما يزعمون، ليست مجبولة من جسيمات بالمرة. وقد تكون طاقة فراغية، اي طاقة الفضاء الحالي. ويعتقدون ان هناك إمكانية غريبة حول انبثاق الجوهر من فيزياء الأبعاد الإضافية اكثر من ابعاد الفضاء الثلاثة المعهودة. ويتكئون هنا على نظرية الأوتار، التي تتنبأ بوجود عشرة ابعاد، اربعة منها هي ابعادنا الثلاثة المعروفة مضافاً إليها الزمن. اما الستة المتبقية فينبغي ان تكون خفية. وهناك بديل آخر، هو تطوير لنظرية الأوتار، وذلك بإضافة بعد آخر الى العشرة، لتصبح الأبعاد احد عشر. وهذا كله بعد الاحتكام الى الرياضيات وحدها لإيجاد حل مفترض للتنسيق بين نظرية النسبية العامة حول الجاذبية، ونظرية ميكانيك الكم الذي يتعامل مع اجزاء الذرة. الكون المخطوط آخر النظريات الفيزيائية الحديثة ما يسمى بنظرية "المعلومات في الكون المخطوط"، التي تزعم ان الاستنتاجات النظرية حول "الثقوب السود" يفترض انها أجرام شديدة الكثافة الى درجة ان الضوء لا يُفلت من جاذبيتها تدعو للاعتقاد بأن الكون يمكن ان يكون اشبه بلوح مخطوط هائل! وهذا في مقابل حديث بقلم جاكوب بكنشتاين، نشر في آب اغسطس 2003 في مجلة ساينتفك اميركان. يقول بكنشتاين: لو سألت اياً كان مم يتألف العالم الفيزيقي، لا بد من ان يقال لك: "من المادة والطاقة" مع ذلك تعلمنا من الهندسة وعلم الأحياء والفيزياء ان المعلومات هي من المقومات الأساسية ايضاً. فالروبوت في مصنع السيارات مزود بالمعدن واللدائن لكنه لا يفعل شيئاً مفيداً بلا تعليمات جمة توجهه بالأجزاء التي يلحمها مع بعضها البعض الآخر، وما الى ذلك. والرايبوزوم Ribosom في الخلية في اجسادنا مزود بحامض اميني ليبني الهياكل الجسدية، لكنه لا يستطيع تركيب اي بروتين بدون المعلمات التي تأتيه من ال DNA في نواة الخلية. وعلى غرار ذلك، علّمنا قرن من التطور في عالم الفيزياء ان المعلومات تلعب دوراً حاسماً في الأنظمة والسيرورات الفيزيائية وهذا يذكرنا بعالم الفيزياء الأميركي جون ويلر Wheeler الذي قال ان العالم الفيزيقي مبني من معلومات، مع طاقة ومادة كشيئين ثانويين اتفاقيين! ويقول بكنشتاين: من دراسة خصائص الثقوب السود العجيبة، استنتج علماء الفيزياء الحدود القصوى للمعلومات التي تنطوي عليها منطقة من الفضاء، او كمية المادة والطاقة. ويُستدل من ذلك ان كوننا، الذي تؤكد لنا حواسنا بأنه ذو ابعاد فضائية ثلاثة، قد يكون "مكتوباً" بدلاً من ذلك على سطح ذي بعدين، اشبه باللوح المخطوط. وبالتالي ان إدراكنا اليومي المألوف للعالم ككيان ذي ابعاد ثلاثة اما ان يكون وهماً كبيراً او مجرد واحدة من طريقتين للنظر الى الحقيقة. فهل نستطيع تطبيق مبدأ اللوح المخطوط على الكون بصورة عامة، كما يسأل بكنشتاين؟ ويقول: ان الكون الحقيقي نظام ذو أبعاد أربعة: إن له حجماً وبعداً زمنياً أيضاً. فاذا كانت فيزياء كوننا هولوغرافية، فستكون هناك مجموعة من القوانين الفيزيائية تعمل في محيط من ثلاثة أبعاد من الزمان في مكان ما، معادلة لفيزيائنا المعروفة ذات الأبعاد الأربعة، على انه يعترف بأننا لا نعرف حتى الآن ان نظرية ذات أبعاد ثلاثة كهذه يقصد بعدين فقط مضافاً اليهما الزمن يمكن ان تمارس فعلها على هذا النحو. في عام 1910 كتب ماكس بلانك، واضع أسس ميكانيك الكم، "[النظريون] يعملون الآن بجرأة لم يسمع بها من قبل، واليوم لا يمكن اعتبار اي قانون فيزيائي لا يطاوله الشك، إن اي حقيقة فيزيائية ينبغي ان تكون معرضة للنقاش. لكن يبدو على أي حال ان عصر الفوضى عاد مرة اخرى الى عالم الفيزياء النظرية". ويؤكد جون كيلوت ومانجت كومار في كتابهما "العلم والتراجع عن العقل" الصادر في 1995 : مشكلة الفيزياء النظرية في ايامنا هذه هي ان معظم الابحاث المعاصرة لا يمكن التأكد من صحتها بالتجربة، لذلك قد تكون مضللة. ومن جهة اخرى ان كثيراً مما يدعى الآن فيزياء نظرية هو في الواقع رياضيات وليس فيزياء حقيقية. وهكذا ان نشدان التماسك الرياضي آل الى اتخاذ موقف مثالي وأفلاطوني في العلم. لا أذكر من قال: "أيتها الفيزيقا احذري من الميتافيزيقا"، لعله اسحاق نيوتن. لعل أسس المشكلة كلها يكمن في ان معظم الابحاث النظرية في الفيزياء تنطلق اليوم من مقدمة منطقية هي نموذج الانفجار الكبير وقد تثبت الايام المقبلة انها ليست سوى اخدوعة علمية كبيرة، لا تختلف عن بدلة الامبراطور. فحتى متى تبقى النظريات الفيزيائية الفلكية تلهث وراء سراب الى ان يعاد النظر كلياً في نموذج الانفجار الكبير؟