انتهت الهدنة القلقة في العراق بأسرع مما كان متوقعاً، اضطربت الأوضاع في البصرة، وانتقلت لتشمل مدن جنوبالعراق الشيعية، وانفجر أمن بغداد مجدداً في استعراض هائل للقوة والنفوذ بين حكومة تسعى الى التصرف كقوة طبيعية في أوضاع غير طبيعية وميليشيات لا تقل قوة عن الحكومة تحاول إثبات قدرتها على قلب الأوضاع قبل إيجاد توازنات جديدة. مستويات التفسير لما حدث في العراق خلال الأيام الماضية تتنوع، وربما تتضارب أحياناً: - فالحكومة تعلن أنها في معرض حصر السلاح بيدها وأنها تواجه"خارجين عن القانون"يحاولون فرض سطوتهم على الدولة وانها ليست بمعرض حرب على تيار الزعيم مقتدى الصدر وإنما فقط على من يخرج عن القانون. - المسلحون"الثائرون"ومعظمهم من"جيش المهدي"- الجناح العسكري لتيار الصدر يقولون إن الحكومة ومن خلفها أحزاب ساعية الى الاستيلاء على الحكومات المحلية في الجنوب المجلس الأعلى وحزب الدعوة، تحاول تصفية تيار الصدر بقاعدته الشعبية على الأرض تمهيداً لانتخابات مجالس المحافظات. - الولاياتالمتحدة التي تدعم الحملة بقوة تعتقد أن ضرب الحكومة الشيعية للميليشيات الشيعية يؤكد حيادها ويدحض ادعاءات انحيازها كما انه سيقوض النفوذ الإيراني المتجذر في مناطق الجنوب ويقلل من استخدام الميليشيات أسلحة إيرانية في ضرب القوات الأميركية في العراق. - إيران التي وصفت ميليشيا المهدي بپ"القوات الشعبية"تمسك بأكثر من خيط، ويتهمها البعض بأنها ضربت حليفا بحليف وأنها أعطت الضوء الأخضر للعملية خلال زيارة رئيسها محمود أحمدي نجاد الأخيرة لبغداد وإن كان عراقاً مضطرباً لا يمثل هدفاً إيرانياً على حد قول المسؤولين هناك. - ويذهب محللون الى أن العراق يدشن مرحلة جديدة ابتداء من انتخابات مجالس المحافظات في نهاية عام 2008 ومن ثم الانتخابات العامة في نهاية عام 2009، وان الوقت لن يطول قبل إعلان الولاياتالمتحدة خفضاً كبيراً للقوات على خلفية توازن جديد للقوى تسعى كل الأطراف على التواجد فيه. وربما كانت معركة البصرة مفاجئة للعديد من المراقبين، بل إنها باعتراف وزير الدفاع العراقي عبدالقادر العبيدي، كانت مفاجئة حتى للحكومة التي لم تعد عدتها لمعركة كبيرة ولا لمقاومة كبيرة، والمعركة جاءت في مرحلة كانت الأنظار فيها تتجه الى الموصل شمالاً حيث وعدت الحكومة بمعركة حاسمة مع"القاعدة"هناك وحشدت الفرق العسكرية لهذا الغرض. لكن وصول الاحتقانات بين تيار الصدر والحكومة ممثلة بأحزابها الرئيسة لم يكن أمراً مفاجئاً البتة، فالصدر الذي انسحب من الحكومة في بداية عام 2007 ومن ثم من كتلة الائتلاف الشيعية في منتصف العام نفسه قبل أن يعلن تجميد ميليشيا"جيش المهدي"تحت الضغط وبعد مواجهة دامية في كربلاء كان يدرك ان الاصطدام بين طموحاته ومشروعات الأحزاب الشيعية الأخرى قادم لا محالة. كما انه الصدر مهد لمرحلة خيار القتال على امتداد الأشهر الماضية فسلح"جيش المهدي"عبر إيران على رغم التجميد وشن حملة تصفية في صفوف"جيش المهدي"من المنشقين عنه عبر جماعة اختصت بالاقتصاص من الخارجين عن تعليمات الصدر أطلق عليها"الكتيبة الذهبية". ويسرب قادة مقربون من رجل الدين الشيعي أن الخطر الأكبر الذي واجه ميليشياته في الداخل لم يكن عصيان البعض قرار تجميد نشاطات الميليشيا او تورط آخرين بأعمال انتقام طائفية على غرار"جماعة سجاد"وپ"جماعة أبو درع"وسواهم، بل ان الصدر كان أدرك من خلال ملابسات الاضطرابات الطائفية عام 2006 ان ميليشياته التي أسسها عام 2003 بأسلوب أبعد ما يكون عن التنظيم الدقيق والعلاقات الهرمية المثالية كان اخترق بالدرجة الأولى على يد الأحزاب الشيعية المنافسة، حتى بات احتمال تفجره من الداخل قائماً في ضوء مكونات الميليشيات الشيعية المختلفة في بغداد ومدن الجنوب على رغم الخلافات المنهجية العميقة بين أطروحات كل من هذه التيارات وأهدافه. الخلافات كانت حصلت في وقت مبكر حول النفوذ في مدن جنوبالعراق، فالظروف التي مر بها العراق لم تسمح بتشكيل حكومات محلية تحظى بتمثيل دقيق، فيما سمحت مقاطعة تيار الصدر لبعض تلك الانتخابات بسيطرة المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة السيد عبد العزيز الحكيم على معظم الحكومات المحلية في مدن الجنوبالبصرة تقاسمتها عدة قوى وكربلاء سيطر عليها حزب الدعوة ما فرض انطباعاً لدى اتباع الصدر بأنهم قادرون، لو أرادوا، على اكتساح تلك المجالس عبر قاعدتهم الشعبية العريضة. وواقع الحال أن أزمة التمثيل الشيعي كانت مثار خلاف منذ عام 2003، وتفاقمت بعد اشتراك معظم القوى الشيعية في قائمة الائتلاف العراقي الموحد نهاية عام 2005 للانتخابات العامة عبر منح المجلس الأعلى وتيار الصدر حصصاً متقاربة في الكتلة ومن ثم حصصاً مختلفة في الحكومة. والمفارقة في مرحلة ما بعد الانتخابات الأخيرة ان اتباع الصدر رددوا مراراً ان المجلس وحزب الدعوة وغيرهما من تيارات الائتلاف الشيعي صعدت على ظهر وزن الصدريين وشعبيتهم فيما يقول أحد كبار قياديي المجلس الأعلى ان المجلس أخطأ بالتحالف مع تيار الصدر لأنه كان سيتمكن منفرداً من تحقيق 75 في المئة من أصوات جنوبالعراق وان الصدر قفز الى البرلمان على كتفي المجلس! وأفرز الافتقار الى قواعد بيانات دقيقة والقصور في طريقة تحقيق الوزن السياسي بالإضافة الى الافتقار الى الخبرات السياسية والتجارب السابقة مثل هذا التفاوت في قياس الوزن على الأرض. اكثر من هذا فإن وزن تيار الصدر على الأرض قبل الأحداث الطائفية 2006 و2007 ليس مشابهاً لوزنه بعد هذه الأحداث، فالشعبية تراجعت عموماً وجاذبية الشعارات اصطدمت بممارسات دموية اتخذت من أحداث سامراء متنفساً لها فصارت موضع انتقاد الشيعة قبل السنَّة. لكن الطرف الآخر في الصراع المجلس الأعلى وحزب الدعوة يدرك أن اختلال معادلة الجماهير لم يكن لمصلحتهما وإن لم يكن أيضاً لمصلحة الصدر، فالتجربة الحكومية الأخيرة أفرزت تململاً شعبياً حاداً، وتحملت تلك الأحزاب المسؤولية عن ضعف الأداء الحكومي والسقوط في فساد إداري غير مسبوق وعجز عن توفير الخدمات الأساسية. وأشارت المعطيات دائماً الى خيارات الصدام، وعزز ذلك الخلاف الواسع حول قانون مجالس المحافظات الذي سيفسح المجال لتحقيق غرضين أساسيين: الأول: يتمثل في تكريس، للمرة الأولى، وزن موضوعي نسبياً للقوى الإسلامية الشيعية في جنوبالعراق وإمكانات تثبيت هذا الوزن على المدى الطويل. والثاني:يتمثل في تحديد مستقبل مشروع إقليم الوسط والجنوب الذي يسعى المجلس الأعلى الى إخراجه الى النور في أول فرصة ويعارضه تيار الصدر، ليس من باب التمسك بالحكومة المركزية، بل لأن تشكيل إقليم يجب ان يكون بقياسات الاتجاه الفكري لمنهج التيار الصدري نفسه. وحين توجه رئيس الوزراء نوري المالكي الى البصرة على رأس قوة عسكرية تقدر بفرقة من الجيش جمعها من بغداد وكربلاء وبابل لم يكن باب الخيارات مفتوحاً لپ"جيش المهدي"وتيار الصدر الذي يؤكد قادته أن المالكي كان يحمل قوائم بآلاف المعتقلين معظمهم من تياره وأن حملة البصرة التي تزامنت مع اضطرابات في بغداد وقبلها في الديوانية وكربلاء وبابل ستكون بمحصلتها استنزافاً تدريجياً لقيادات التيار وإمكاناته عبر الاعتقالات والاستهداف المباشر، كما انها ستصبح منهجاً يجد معه الصدريون بعد اشهر أنهم جردوا من كل مكامن قوتهم وتأثيرهم في الشارع، خصوصاً أن الانتخابات في مدن الجنوب لا تحتاج فقط الى منهج ديني بل الى ضغوط سياسية ومليشيوية وربما الى تزوير وفرض للنتائج. والبصرة، بثقلها الاقتصادي الهائل في العراق عموماً، ليست مجرد مدينة لا يملك تيار الصدر ولا الحكومة يداً طولى فيها، بل هي مورد التمويل الرئيس لعمليات التهريب ومقر لمافيات فاحشة الثراء تخصصت في تجارة السلاح والمخدرات والنفط وسيطرت على الموانئ ومصافي النفط واحتلت مناطق مرور أنابيب النفط التي ثقبت من ألف مكان لسرقة النفط الخام وتصديره. وقصة البصرة لا تقتصر على"جيش المهدي"، كما إن المعركة في البصرة اليوم لا يمكن بالفعل تقديرها بسطحية بين ميليشيا الصدر والحكومة، بل إن آلافاً من عناصر مليشيات التهريب مرتبطون بعشائر نافذة وعلاقات واسعة عبر الحدود من مصلحتهم عدم تمكن القوى الحكومية من فرض سيطرتها على المدينة. وخطورة المعركة في جوانبها العسكرية والسياسية والاقتصادية تكمن في صعوبة تمكن القوى الحكومية من تحقيق أهدافها المعلنة، سواء بالقضاء على المليشيات أو وقف نزيف التهريب والسيطرة على العصب الاقتصادي، ليس فقط لأن المعركة تحولت الى غير ما أريد لها أي الى صراع بين تيار الصدر والحكومة امتد الى مناطق العراق الأخرى بل وفي الأساس لأن الإمكانات العسكرية التي أتيحت لقوى البصرة عبر الانفتاح على النفوذ الإيراني وأخطاء سياسات القوات البريطانية ليست متاحة للقوات الحكومية. المالكي حرص في بداية المعركة على عدم إشراك القوات الأميركية أو البريطانية فيها تجنباً لتحويلها الى استخدام جدلية الاحتلال والمقاومة، كما إنه حرص على حصرها في إطارها الشيعي لإبعاد الدلالات الطائفية عنها، لكن تواتر الأحداث وتداخلها واتساع ساحتها الى بغداد ومدن أخرى بما يفوق قدرة احتمال القوى الحكومية فرض في النهاية تدخلا أميركياً مباشراً يتوقع ان ترتفع وتيرته خلال الأيام المقبلة. ويحاول سياسيون عراقيون حل القضية عبر متنفس اللاغالب ولا مغلوب الذي يعتقد الكثيرون أنه الوحيد المتاح حالياً وربما يكون مدخله تدخل مباشر من مرجعية السيستاني أسوة بأحداث النجف عام 2004. لكن كلا طرفي الصراع وصلا الى مرحلة لا تتيح اللجوء الى هذه النظرية.. فالمالكي الذي حشد في البصرة أهم القوى العسكرية وضع مستقبله السياسي على المحك كما انه وضع مستقبل الوجود الأميركي في العراق على المحك أيضاً، خصوصاً أن إثبات قدرة القوات العراقية على حل الأزمات الداخلية من دون تدخل أميركي حاسم سيكرس قدرة حكومته على تحمل الأعباء الأمنية على المدى الطويل ويتيح للمرة الأولى هامش حديث عن إعادة القوة بالكامل الى يد العراقيين فيما ان الانسحاب في هذه المرحلة، أياً كان شكله ومبرراته، سيعد نصراً للميليشيات ودافعاً قوياً لتيار الصدر، ليس للمضي في خطط التحضير لانتخابات الجنوب، بل وفي تقديم تنازلات سياسية كبيرة لعقد تحالفات مع قوى معارضة للحكومة الحالية وأحزابها وبالتالي إسقاطها ما وعد به الصدريون خلال الأيام الماضية. وفي الجانب الآخر، فإن مئات القتلى والجرحى والمعتقلين من أنصار الصدر خلال هذه الأيام في المدن التي شهدت الانتفاضات العسكرية"جيش المهدي"ليسوا ثمناً مجانياً يدفعه الصدريون لإعادة الأوضاع الى ما كانت عليه. وكذلك فإن تجاوز الخطوط الحمر والانفتاح على مواجهة مباشرة يجب ان يقترن بتغيير منهجي في موازين القوى لمصلحة تيار الصدر، ليس بتغيير الحكومة فقط، بل وأيضاً في تحديد منظومة التوازنات على امتداد العراق وتجديدها. كما إن قرب إعلان الصدر مرجعاً دينياً رسمياً خلال اشهر بعد إنهاء مرحلة الدراسة في قم على يد آية الله الحائري سيتيح تغييراً جديداً في المشروع الشيعي في العراق. البصرة تورطت كما يبدو في صراع غير محسوم على المدى الطويل تداخلت فيه الإرادات والتحديات ليضع العراق مجدداً على خط الكوارث وليصبح الصراع بين الصدر وأنداده الشيعة أحد معطياته.