المواجهة الكلامية القصيرة وغير المباشرة، والتي خاضها قبل أيام كل من المرشح الرئاسي العتيد للحزب الجمهوري جون ماكين، والمرشح الرئاسي الراجح للحزب الديموقراطي باراك أوباما، حول التدخل الأميركي في العراق، تشكل إرهاصاً بطبيعة الجدل الذي سوف تشهده الولاياتالمتحدة في الأشهر المقبلة وصولاً إلى يوم الانتخابات في مطلع تشرين الثاني نوفمبر المقبل وتؤكد مجدداً أن الموضوع العراقي يبقى مادة صالحة للتوظيف التعبوي في أكثر من اتجاه. شكّل موضوع الحرب الأميركية في العراق ولا يزال محوراً رئيسياً من محاور الهجوم الديموقراطي المستمر على الرئيس جورج دبليو بوش خاصة وعلى الجمهوريين عامة. إلا أن طبيعة استثمار هذا الموضوع قد تبدلت بشكل ملحوظ في الأشهر القليلة الماضية. فالسرد الديموقراطي كان إلى حين قريب يعتمد على"الفشل الذريع"للمسعى الأميركي في العراق، وعلى"الأكاذيب والأضاليل"التي روّجتها حكومة الرئيس بوش لاستدراج السلطة التشريعية ومن خلالها كامل البلاد إلى حرب فاسدة، وكل ذلك لغاية ما كثيراً ما تبقى مبهمة في هذا الخطاب، ويُكشف عنها بين الحين والآخر لتدرج في أطر مختلفة، من الثأر من رأس النظام السابق في بغداد لتآمره وحسب على الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، إلى إتاحة المجال أمام الحلفاء والأصدقاء للاستفادة من الأموال العامة تحت غطاء حرب لا مبرر وطنياً لها. فقبل زهاء العام، أمام تفاقم أرقام القتلى من الجنود الأميركيين، وتعاظم احتمالات العودة إلى نظام التجنيد الإلزامي، شهدت الولاياتالمتحدة تنامي الحركة المعادية للحرب والمطالبة بانسحاب شبه فوري من الساحة العراقية. وشكلت هذه الحركة حالة حازمة فرضت على كافة الساعين إلى منصب عام الالتزام بأهدافها تحت طائلة التشهير والاستنزاف. وبرز في هذا الشأن موقفان لشخ صيتين أحدهما من الحزب الديموقراطي والآخر من الحزب الجمهوري. فباراك أوبوما، وهو عضو مجلس الشيوخ عن ولاية إيلينوي، تميّز بأن موقفه من الحرب منذ لحظة الإعداد لها كان رافضاً لاندلاعها ومحذراً من عواقبها الوخيمة. فعلى الرغم من البعد الخطابي لهذا الموقف، والمتجلي في مسايرته الفعلية للحكومة عند تصويته على الأبعاد التنفيذية لقرار الحرب، فإن أوباما قد تمكن من تحقيق صدقية هي الأعلى في رفض الحرب. وفي الجانب الآخر، فإن جون ماكين، وهو عضو مجلس الشيوخ عن ولاية أريزونا، تصدى للدعوة إلى الانسحاب من العراق بمجاهرته التأييد لخطة الرئيس بوش القاضية زيادة عديد القوات الأميركية في إطار حملة مكثفة، على الرغم مما تسبب به موقفه هذا من تبديد لزصيده الشعبي في المرحلة الأولى من المنافسة الانتخابية. إلا أن الظروف اليوم قد تبدلت. فالخطة الأمنية الأميركية في العراق قد حققت نجاحاً غير متوقع وفق معايير موضوعية أبرزها الانخفاض الملحوظ في عدد القتلى من الجنود الأميركيين والمدنيين العراقيين على حد سواء. ومع هذا التبدل، أصبح بإمكان جون ماكين أن يتجاوز التبعات السلبية لموقفه المؤيد لها، بل صار بإمكانه توظيف هذا الموقف في إطار التأكيد على تمسكه بالمبادئ بعيداً عن الاعتبارات الانتخابية. أما الخيارات المتاحة أمام الجانب الديموقراطي عامة، وباراك أوباما خاصة، فهي إما التشكيك بدوام التحسن وقصوره وغياب البعد السياسي اللازم عنه، أو اعتبار أنه إن حصل فهو نتيجة الإصرار الديموقراطي على رقابة صارمة أرغمت حكومة الرئيس بوش على اتخاذ بعض الخطوات المثمرة. وهذا الخيار الأخير هو خط دفاع ثانٍ يجري التلميح إليه احتياطاً، وذلك من باب التحسب لمواجهة"خطر"استمرار التقدم الأميركي في العراق بما يتعارض مع السرد الديموقراطي. أما الخيار الأول فهو المعتمد بشكل عام لدى الحزب الديموقراطي، ولدى كل من المتنافسين الرئيسيين للفوز بالترشيح للانتخابات الرئاسية خاصة، باراك أوباما وهيلاري كلينتون. ويحتوي السرد الديموقراطي على ما يحصنّّه إزاء الاتهام بالتخاذل والانهزامية لاعتناقه فكرة الانسحاب من العراق، وهو الدعوة إلى الرفع من حدة التصعيد في المواجهة مع تنظيم القاعدة. بل غالباً ما يربط الديموقراطيون بين التقصير في مساعي القضاء على هذا التنظيم والمتجلي في عدم إلقاء القبض على قيادته العليا، وبين المجهود الحربي"العبثي"في العراق وما يشكله من استنزاف لا مبرر له للطاقات والقدرات العسكرية والعملياتية الأميركية. وباراك أوباما نفسه، وهو صاحب الموقف المبدئي المعادي للحرب، والذي يحظى بتأييد المنظمات المعادية للحرب، هو أشد من بالغ في التركيز على ضرورة التصدي القاطع لتنظيم القاعدة، وإن تطلب الأمر القيام بعمليات عسكرية أحادية داخل باكستان تتجاوز سيادة هذه البلاد وتتخطى التنسيق مع قواتها المسلحة. وإذا كان هدف أوباما من هذه المواقف التصعيدية التأكيد على حزمه وإزالة أية شبهة ضعف عنه، فإنه كذلك قد فتح المجال أمام جون ماكين للتشكيك بسلامة رأيه والإشارة إلى افتقاده الخبرة، لا سيما في موضوع فائق الحساسية في أبعاده الداخلية كالموضوع الباكستاني، حيث تتعرض المؤسسة العسكرية للنقد من أوساط مختلفة نتيجة لتحالفها مع الولاياتالمتحدة، وإذ بأحد المتبارين الرئيسيين للرئاسة الأميركية يدعو بالتضييق عليها عبر التلويح بتجاوز سيادتها والتخلي عن التنسيق معها. والواقع أن أوباما الذي يتقن أسلوباً خطابياً بليغاً يبقى مفتقداً لإمكانية التعبير المرضي عن تفاصيل تصوره في بعض أوجه طروحاته بشأن التدخل العسكري الأميركي. فأوباما الذي يدعو إلى انسحاب ممنهج من العراق، لم يتوانَ عن التأكيد أنه في حال الفوز بالرئاسة سوف يحتفظ بحق الضرب داخل العراق"في حال أصبح لتنظيم القاعدة فيه مركزاً للنشاط". وبطبيعة الحال، فإن هذا التصريح المقتضب المرتجل في إطار مجادلة مع خصمه للفوز بترشيح الحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون، قد شكل فرصة جديدة لجون ماكين لإظهار طراوة عود أوباما في الشأن الأمني الخارجي، وذلك عبر الإشارة البديهية إلى أنه لتنظيم القاعدة لتوّه مركزاً للنشاط في العراق، فكلام أوباما يكشف بالتالي إما عن جهل لأوليات الأمور أو عن تناقض صارخ بين شقي موقفه، أي الانسحاب من العراق والضرب فيه في آن واحد. وقد تفاعل أوباما مع هذا النقد من ماكين في صيغة جدلية تهدف إلى تعزيز الاصطفاف في موضوع التدخل الأميركي في العراق، وذلك من خلال التشديد على أن مركز القاعدة هذا في العراق لم يكن له وجود قبل الحرب"الخاطئة"التي شنّها"كل من بوش وماكين نفسه"على النظام السابق في بغداد. فردّ أوباما لا يعالج التجاذب بين التوجهين في خطابه، ولكنه يسعى وحسب إلى التعبئة في صفوف المعارضين للحرب في العراق. والواقع أن المسألة بغاية الدقة في هذا الصدد لكل من ماكين وأوباما، شرط أن يتمكن هذا الأخير بالفعل من الفوز بترشيح حزبه. فتركيز الحزب الديموقراطي على المسائل الداخلية كالاقتصاد والضمان الصحي وقضية الإفلاس المتعاظم في الديون العقارية قد نجحت لتوّها في حشد شرائح واسعة من القواعد الانتخابية التقليدية للحزب، ولكن الاعتدال النسبي لدى ماكين يمكنه من استقطاب بعض هذه القواعد. أي أن الشأن الداخلي وحده لن يكفي لحسم المواجهة الانتخابية، والفاصل الفعلي بين ماكين وأوباما أو ماكين وكلينتون قد يكون فعلاً الموضوع العراقي، وذلك لرهان ماكين على نجاح أميركي في العراق، ولتوقع أوباما وكذلك كلينتون فشلاً للولايات المتحدة يستدعي المباشرة بالانسحاب. ثمة ناخب آخر إذاً في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، وهو الخطة الأمنية السارية التطبيق اليوم في العراق، ويبدو بأن هذا الناخب هو المؤهل بالفعل أن يختار الرئيس المقبل.