تعود السياسة التي ترعى علاقة الفاتيكان، والكثلكة عموماً، بالإسلام الى المجمع المسكوني الثاني 1961 - 1965. فهذا أقر"الحوار"بين المسيحيين والمسلمين، ودعا أهل الإيمان الكاثوليكي الى محاورة المؤمنين بنبوة النبي ابراهيم وعباد الإله الواحد وخالق المخلوقات جميعاً. وفي 1969، خاطب البابا بولس السادس، مسلمي أوغندا، فقال لهم انه يحترم ايمانهم، ويأمل بمؤاخاة تجمع من يشتركون في ميراث واحد من بعض وجوهه. وذهب البابا يوحنا بولس الثاني بأنقرة، في 1979، الى ان الإيمان بالله الواحد الذي يعتنقه المتحدرون في الروح من ابراهيم هو ركن متين ينبغي ان ترسى عليه كرامة البشر وأخوتهم وحريتهم. وفي 1981، خاطب البابا نفسه مسلمي الفيليبين فقال ان الله هو الرحيم، وهو من سماه القرآن"الرحمن"وسماه العهدان الرحوم. ولعل حوار يوحنا بولس الثاني وشبان الدار البيضاء، في آب اغسطس 1985، هو ذروة النهج الحواري الكنسي هذا منذ توصية المجمع الفاتيكاني قبل نحو عشرين عاماً يومها. ويعود رأس الكثلكة في محاورته هذه الى الاشتراك في الإيمان الإبراهيمي، والتسليم للخالق ومشيئته في خلقه. واختتم البابا بصلاة الى الواحد الأحد، المريد والمطاع والمعبود والقاضي بكلمته في الناس. وقال ان ما يجمع المسيحيين والمسلمين هو إيمانهم بمكانة الصلاة والصوم والصدقة والصفح والتكفير عن الذنوب. والحق ان البابا توسل بكلمات أو ألفاظ واحدة الى العبارة عن معان مباينة. ولا يغفل يوحنا بولس الثاني عن الفروق. وأولها الفرق بين المسيحيين والمسلمين في النظرة الى الناصري، يسوع أو المسيح. وهو لا يهوّن من شأن الفرق هذا، ويأمل جلاءه في يوم آت ربما من الخالق. والمسلمون يقرون بالفرق هذا، وينزلون المسيحيين منزلة الكتابيين. وينسب البابا الى المسلمين اعتقاد المساواة بين البشر، لا فرق بين الذكر والأنثى، أو بين العبد والحر، وبين المسلم والذمي. ويجهر تقديره نهج الدين الإسلامي وثراء تراثه الروحي، ولا يميز الإسلام من المسلمين. ولا شك في ان يوحنا بولس الثاني، شأن سلفه بولس السادس، وخلفه بينيديكتوس السادس عشر، يدعو من يخاطبهم الى تبادل اعتراف جماعتي المؤمنين الواحدة بالأخرى. فلا تحول القسمة بين دار الإسلام ودار الحرب، ولا نسخ التنزيل الذي ختم النبوات وهي الديانات التي سبقته، دون تبادل الاعتراف. ويشارك الفاتيكان الدول العلمانية الغربية طلبها هذا. وهو طلب مشروع في إطار الحق الطبيعي. وشرط قبوله هو قبول حق طبيعي الذي قد لا تتقاسمه الديانات كلها. وغداة 42 عاماً على المجمع الفاتيكاني التالي، نقص عدد الكاثوليك في بلد مثل فرنسا نصف ما كان عليه قبل الأعوام هذه، أو ثلثي عددهم. وفي الأثناء وفد المهاجرون المسلمون كثيرين، وفي الشرق الأوسط، تندثر الكنائس المسيحية، كاثوليكية أو غير كاثوليكية، تدريجاً، إما جراء الهجرة أو جراء التحول. ومن بقي من الجماعات لا يأمن الخوف شأن العراقيين ولا المفاجأة. وعمد البابا الجديد الى مطالبة أوروبا بالإقرار بجذورها المسيحية، وحذر من دمج تركيا في الاتحاد الأوروبي. وفي أيلول سبتمبر 2006 ألقى برايتسبون ريجينسبورغ درساً علمياً عميقاً هو دفاع عن حقوق العقل في الدين الكاثوليكي، ويخص التراث اليوناني بدفاعه هذا، ويندد بالعودة عن المنازع الهللينية، ويحملها على أس من أسس الإيمان المسيحي، على رغم وثنيتها. وأثارت المحاضرة استنكاراً عريضاً في البلاد الإسلامية. واضطر البابا، دفعاً لسقوط ضحايا، الى الصمت. وآثر ألا يرد على انتقادات بعضها صدر عن البروتستانت، وصدر بعض آخر عن المعهد الدومينيكاني وهم سلك كاثوليكي بالقاهرة. وزار بينيديكتوس السادس عشر تركيا، حيث قتل راهبان"رداً"على المحاضرة البابوية، في أواخر تشرين الثاني نوفمبر 2006. وكانت الزيارة ذريعة الى شرح البابا رأيه في علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي، وإلى رد الساسة الأتراك على رأي الزائر. ودعا الزائر مضيفيه الى التقرب من أوروبا، ورعاية العلمانية واحترام الحرية الدينية. ففسر رجب طيب أردوغان، رئيس الحكومة، موقف الزائر قبولاً بدخول تركيا الاتحاد الأوروبي. ولم يرد البابا على تفسير أردوغان، ولا صححه. والأغلب على الظن ان المسيحيين الأرثوذكس دعوا الضيف المسيحي الى النهج هذا. فهم يعرفون تركيا، ويخافون ما يخبئه لهم الآتي. ويأملون الحماية من دخول تركيا أوروبا. وهم واهمون. ويشاطرهم رأيهم الجورجيون والأرمن والبلغاريون والرومانيون والأقباط. وجال البابا في آياصوفيا سائحاً. ودخل المسجد الأزرق حبراً كاثوليكياً وأسقفاً. وشيد المسجد هذا بجوار آياصوفيا علماً على الفتح التركي. ودخول بابا كاثوليكي المسجد هذا هو إقرار بالمعنى الذي يعلنه تشييده ورفعه. وكان يوحنا بولس الثاني دخل المسجد الأموي بدمشق، وصلى ووجهه الى ذخيرة من القديس يوحنا المعمدان. وخشع البابا الحالي، أي صلى، ووجهه الى محراب المسجد الأزرق، أي الى القبلة. وما يترتب على هذا غير معلوم. ولم يكتم الرأي العام في البلدان الديموقراطية سروره. فالخلاف انحسر ولم يخلف ندوباً وجروحاً ظاهرة. وأجمعت الديبلوماسيات البريطانية والأميركية والأوروبية عموماً، والفاتيكانية، على الرضا بنتائج الزيارة. فالديموقراطيات ترى ان الأديان كلها سواسية، وأن اتفاقها يعود بالخير على الجميع. وشاركت الصحافة الكاثوليكية الرأي العام سروره. ف"الحوار"مشروع المسالك. وحرص الكاردينال ايتشيغاراي، غداة زيارة البابا المسجد الأزرق على المقارنة بين الزيارة هذه وبين زيارة يوحنا بولس الثاني جدار حائط الهيكل بالقدس. وقد يترتب على المقارنة هذه بعض الأثر في علاقة الفاتيكان باليهود. والعالم كله يلهج بپ"ديانات التوحيد"، وپ"الديانات الإبراهيمية"، وپ"ديانات الكتاب". فپ"المصالحة"دأب الناس كلهم، على رغم تفاوتها، وميل كفتيها. وربما ينبغي فحص توصية المجمع الفاتيكاني الثاني في ضوء الوقائع الدينية الشرق أوسطية. عن آلان بيزينسون مدير دراسات في مدرسة الدراسات الاجتماعية العليا،"كومونتير"الفرنسية، شتاء 2007 - 2008