ليس الفلاسفة والعلماء، من ديمقريطس الى آينشتاين، هم الأقدر على الإمساك بمعنى الزمن، يزاحمهم في ذلك، الشعراء والروائيون وسائر الفنانين، من موسيقيين ورسامين، وسواهم، بامتياز. ذلك أن الزمن الفلسفي أو الفيزيائي هو زمن تأملي ومحسوب، وصار في الإمكان كيلُه ووزنه ورصده بأوعية ومختبرات، في حين أن الزمن الذي يلمسه الشعراء والروائيون بأطراف أصابعهم المرتجفة وهي تجسّ أزرار الأبدية وكأنها تجسّ مواقع الجمر، هو زمن وجودهم الخاص الداخلي الملتاث بالألم والخوف والغبطة، والمشوّش بالخيال، فالزمن الإبداعي، حقاً، لا يمرّ من دون خيال. يقول أحد أشخاص سعيد الكفراوي، في قصة"سنّ السكاكين"من مجموعته الأخيرة"يا قلب مين يشتريك"قصص عن كتاب اليوم، القاهرة، كانون الأول/ ديسمبر 2007:"أنا لم أعنِ شيئاً طوال عمري، أنا فقط أتأمل تغيّر الأحوال، وكل ما أعرفه أنني لم أكفّ عن عادة ممارسة الأحلام. الأحلام لا تكفي، ثم إن الأحلام يمارسها الأموات أيضاً"وهي قصة تصور صعود رجل وصديقه الى مقام العرّافة الكائن في أعلى التلّ، حيث تختلط مقابر الأقباط والمسلمين، ويظهر المقام في عراء التل مثل ضريح الأولياء. يُلزمنا الكفراوي بالتوقف عند هذه القصة، كمربط فرس الزمان عنده. وهي قصة خُلّبية، تحدث كل يوم، ولا تحدث إلا في مخيلة صاحبها. ذلك أن الطريق الى قبول الأولياء وأصحاب الكرامات، هي سالكة في أكثر من مكان، بل الطريق الى القبور كافة، جزء من الطريق الى العمل، أو النزهة أو الحياة. ذات يوم، من سنوات خلت، أشرفنا من مكان عالٍ في منطقة الهرم، على جملة المقابر التي يعيش على رخامها أو داخل حجراتها، سكان آهلون لا يجدون حَرَجاً من مجاورة الموتى، ومقاسمتهم المرقَد. وحين يضع الساكن الحيّ رأسه على مخدة تتصل مباشرة بالساكن الميت تحتها، في مسكن واحد، أحسبه يصغي لما لا نصغي إليه، نحن الذين لا نعاقر هذا الاشتباك الجسدي المحسّس بين الأحياء والموتى. ليس ثمة من يستطيع أن يقول:"ثم إن الأحلام يمارسها الأموات أيضاً"سوى من كان كسعيد الكفراوي بالذات. والقبض على هذا الزمن الجاري كالنسغ بين الأحياء والموتى هو هنا واقعي مجسّد وسحري تقشعرّ له الأبدان في وقت واحد. إن أحمد زويل قبض على الفمتو، من خلال المختبرات، أما الكفراوي فقبض على فمتو الروح المتسللة من جسد لآخر، ومن مكان لمكان، ومن زمان لزمان، بتلك القدرة على الإبداع، التي تُحسّ ولا توصف، والتي سماها غارسيا لوركا"الدوينده"أو الروح المبدع. قصة"سنّ السكاكين"ليست قصة فلسفية. فأشخاصها ليسوا مجردين، ومعانيها ليست مجردة، والأماكن كذلك، والحوار، والسرد، والحركة. حيثيات هذه القصة المختصرة، غير مكتظة بالأشخاص فقط شخصان من دون تسمية والحوار من خلال السرد يأتي في سياق بلا إعلان أو صدمة. يجري بلا تسميات:"- هل أنت متأكد أن هذا طريقنا للبيت؟ - نعم أنا متأكد. - ما الذي يجعلك بهذا اليقين؟ أننا في طريقنا الى البيت - كما ترى إنها صفرة الشوارع...". والقصة غير مكتظة بالأماكن. إنها طريق صاعدة الى مقام العرّافة. وهي طريق حولها أماكن مهلهلة"يتكئ قدمها فوق جدران من البلى"، ثمة بالطبع قبور ثاوية، وما يثير كل ذلك من أشباح. الكفراوي لا يكتفي بالوصف، أي بالسرد البصري لمسرح القصة، ولكنه يضيف عناصر تجعل من المكان، مسرحاً لكل ما يستفز الخيال ويخضّ الروح... حتى لكأن الصاعدين الى تلة العرّافة، يصعدان في الأبدية. والحوار أحياناً تشوبه هذه اللوثة. يتسربل مناخ القصة بغموض مصدره فكرة الغيب، العرّافة، والرجوع الى العهود الغابرة. إشارات تندسّ خلال السرد، كفيلة بفتح هذا الأفق على الغيب."كانا يصعدان تلة من رماد، فيما يتخثر الزمن حولهما ويحبس في إناء من صهد الشمس، وحين فتح عينيه، رأى سرباً من طيور يرفّ بعيداً ناحية المقطّم، وكأنه معلّق في العلو فوق المقابر الثاوية". الطيور فوق المقطم، وصهد الشمس فوق المقابر الثاوية، ومقام العرافة المقصودة في أعلى التل، هي بعض حرس المخيلة في القصة. لكن، لتكتمل الحراسة، أضاف الكفراوي لها عنصرين أحدهما مساعد، والآخر نهائي وحاسم، أي واصل بالقصة الى نقطتها الذروية التي هي أبدع من الارتعاش الايروتيكي. أضاف ما عبّر عنه بالجواد الأشهب، هذا الجواد الذي كان يسمع صهيله في الفجر، يأتي من فوق الجبل، يراه الآن مسجوناً بعريشيه الممدودين، يحاول الخلاص ويحمحم وقد فصّد جسده العرق، يحاول في استماتة، الخلاص من سجن العربة فيما يسوطه رجل ترابي الملامح... الخ. ليس بالمجّان إقحام هذا المشهد في القصة، وكأنه إقحام قصة في القصة، بل هو يكمل سينوغرافيا القصة، الذي صار هنا مؤلفاً من شخصين، وطريق صاعدة محفوفة بالمقابر، ومقام عرافة في أعلى التلة، وطيور، وحصان يصهد أمام العربة. ماذا يمكن أن يضاف على المشهد؟ الى أين؟ كيف سيكون خلاص القصة؟ نسأل أنفسنا، وننتظر. ذلك أن الوعد الحكائي يأتي على يد الراوي، الذي هو في الوقت عينه، الشخصان الصاعدان، والمقابر، والطيور، والحصان في الصهد، والعرّافة، وما هو قبل وما هو بعد كل ذلك. لحظة النشوة الذروية القصصية، هي مسألة السكاكين. إذ في جميع ما مرّ وتم سياقه، لم يؤتَ على العنوان"سنّ السكاكين". سنّ السكاكين هو الخوف وانفجار غضب العرافة، أو انفجار غضب هتك الأسرار، كما لو هي لعنة الفراعنة."استدارت ناحيتنا وصرخت فينا صرخة ابن آوى: ها أنتم تجيئون أخيراً؟ وانتزعت من دارها عجلة على قائمتين لسنّ السكاكين، وخلفها تستقر شفرات وقد شحذت وبدت مثل الأمواس الحادة. لحظة اقترابنا منها لم تبتسم. وتقدمت حتى دواسة العجلة الدوارة، وبدأت تمارس شحذ الشفرات، وتحدق في الفضاء المترامي من فوق التل، والشرر يتطاير في دفعات خاطفة كلما احتكت الشفرة بالحجر. نار على الأرض، وشفرات تحجب الرؤية، وأنت بين شرر النار ورغبتك في الخلاص، تنتهي الى صرخة في داخلك: لا بد من الدم". العمق الملهم، لهذه القصة، يسم معظم قصص سعيد الكفراوي. العمق الملهم ليس بسيطاً بل هو مركّب، مراوغ، خلّبي. وهو يثير ما يثيره كشف الغطاء عن الموت نفسه، أو النزول الى بئر قديمة للماضي، أو السفر في مجاهيل وأدغال وتهيؤات لنسمِّها في حركة الزمن:"الآتي". إن ملامسة أزرار الغيب، في صنيع الكفراوي، تتم من خلال أصابع مرتجفة، مستوحشة، وهذه الملامسة لا تكتفي بالجلوس على الحد الفاصل بين الموتى والأحياء، كما في قصة"سنّ السكاكين"وقصة"السيدة الفاضلة والدة الأديب الراحل"، بل هي تغوص في تقاطع المصائر، وترفّ كطائر فوق الأمكنة حيث يتصل الماضي بالحاضر، ويرفّ نحو الآتي... وللكفراوي قدرة على إدخال المتخيّل بالحقيقي، والمحسّس بالحلم، كما في قصة"زليخا"، فالقصّ بالنسبة إليه هو السفر، تماماً كما هي قصة تلك المحطة التي يسميها"كوتسيكا". فالرجل الرتيب السفر، طول حياته، انطلاقاً من محطة اسمها"كوتسيكا"لا يعرف معناها، والذاهب العائد في القطار، تأتيه كوتسيكا فجأة على صورة حورية. لا تمر قصص الكفراوي من دون طقوسية. هذه الطقوسية مركّبة، تستدعي الى ساحتها عناصر من الواقع المحلي، وأخرى من التاريخ، أماكن كثيرة وتفاصيل من أماكن، حديثة كالشوارع والحارات والمقاهي، وقديمة كالقلاع والقصور الأثرية، وتفاصيل من أسماء وأشخاص، واقعيين كالطبيب والصديق وإبراهيم وجمال وزهرة العربي وما إلى ذلك، وتاريخيين كالسلطانة"شجرة الدر"، ومتخيلين أو سحريين كالعرّافة أو الولي أو ما الى هؤلاء. تجمح القوة الحكائية لدى سعيد الكفراوي، حين يفترض، أكثر ما تجمح لديه حين يمارس ويتلقى ويعيش. فقصصه التي هي على شفير الحلم، أشد سطوة من تلك التي على شفير الواقع قصة يا قلب من يشتريك. إنه على الأرجح، الشاهد الناطق على ذاك التحوير العجيب الذي أجرته علوية صبح على حديث"الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"، بقولها:"الناس نيام فإذا حكوا انتبهوا". وبين يدي القاص جميع حِيَل القصّ والكلام الذي يطلع من منبعه في الحياة، لكنه يصب في مصب غامض من الغيب.