أفرج أخيراً عن عصام البرقاوي، الملقب بأبي محمد المقدسي، وهو من أبرز المنظرين للتيار السلفي الجهادي في العالم، ومن مؤسسيه في الأردن. ولعب المقدسي لعب دوراً كبيراً في تدشين المنهج"السلفي الجهادي"الذي يقوم على تبني تكفير النظم والحكومات والدساتير العربية، ورفض العمل السياسي القانوني كتابه"ملة إبراهيم وأساليب الطغاة في تمييعها"، واتخاذ مواقف حادة أيضاً من مناهج التربية والتعليم والتدريس كتابه"إعداد القادة الفوارس في هجر المدارس"، ورفض الديموقراطية والتعددية الحزبية والسياسية كتابه"الديمقراطية دين". بعد عودته من باكستان - أفغانستان في بداية التسعينات من القرن الماضي، أسس المقدسي نواة دعوته الجديدة على الساحة الأردنية، متأثراً بأفكار سيد قطب والمودودي،"مدرسة الحاكمية"، وانتشرت أفكاره بصورة سريعة بين فئات من الشباب بفعل الظروف السياسية والاقتصادية. ولم تكن مرحلة السجن بالنسبة إليه 1994-1999 سوى انطلاقة جديدة، سواء داخل السجون التنظيم والترتيب الداخلي للحركة الجديدة، والتأثير في أفراد المهاجع الأخرى أم خارجها انتشار الأنصار والفتاوى والكتب التي تُطبع بصورة سرِّية. كان خروج المقدسي من السجن عام 1999 نقطة تحول في مسار"السلفية الجهادية"في الأردن، إذ قرر قرينه وصديقه أبو مصعب الزرقاوي الخروج إلى أفغانستان، حيث تحكم"طالبان"، وأخذ معه عدداً من مفاتيح الحركة، وهي الخطوة التي عارضها المقدسي في حينه، وقد شعر بأنّ الزرقاوي اختطف الحركة أو المشروع الذي نظّر له واعتُقل من أجله سنوات طويلة. ولم يكن الزرقاوي يمتلك الخلفية المعرفية والفكرية مثل المقدسي، إلاّ أنهّ كان أقرب في طبيعته النفسية القاسية والحادّة إلى أبناء الحركة من المقدسي الأميل إلى الدرس والخطاب والمطالعة. ولعل هذا الفارق الشاسع بين الشخصين كان المسمار الأول في شقِّ العلاقة بينهما، إذ عزل أفراد الحركة داخل السجن المقدسي عن الإمارة وعينوا الزرقاوي بدلاً منه، واعتبروا المقدسي معلّماً ومرشداً فكرياً، لكن خارج القيادة الحركية. وبينما كان نجم الزرقاوي يلمع في عالم المجموعات"السلفية المتشددة"، بخاصة بعد احتلال العراق وانضمام صديق المقدسي أبو أنس الشامي إليه في العراق، فإنّ المقدسي كان يتردد بين السجن والرقابة الأمنية خارجه، والصراع مع أفراد الحركة التي بناها، والذين أصبحوا أقرب إلى"خط الزرقاوي الجديد"من المقدسي. بدأ المقدسي بمراجعاته في مرحلة متأخرة من سجنه عندما أعدّ كتاب"الرسالة الثلاثينية في التحذير من الغلو في الكفر". الذي ينتقد فيه أخطاءً فكريةً وسلوكيةً يقع فيها أبناء حركته. لكنه بلغ مرحلة متقدمة وحسّاسة في النقد عندما بدأ الحديث عن أخطاء الزرقاوي وجماعته وعن الاختلافات المنهاجية بينه وبين الزرقاوي. يلخِّص المقدسي ملاحظاته النقدية الحادة، تجاه منهج الزرقاوي، في رسالته المشهورة"الزرقاوي.. مناصرة ومناصحة"، وهي الرسالة التي أثارت جدلاً واسعاً داخل صفوف حركته، ودفعت أفراداً منها إلى تهديده داخل سجن"قفقفا"قبل أن يطلق سراحه بعد شهور بقرار من محكمة الدولة لعدم مسؤوليته في قضية أحد التنظيمات المسلّحة. وتتمثل أبرز ملامح مراجعات المقدسي في انتقاده لتوسع مجموعة الزرقاوي سابقاً في العمليات الانتحارية وفي استهداف المدنيين، وفي نزعة العداء الحادة تجاه الشيعة، وكذلك في الخطاب الإعلامي للزرقاوي الذي تعمّد فيه في البداية الخروج بأشرطة مصوّرة يقطع فيها رؤوس الناس. وينتقد المقدسي كذلك انخراط الزرقاوي في التخطيط للعمليات المسلّحة في الأردن، ويؤكّد أنّ منهجه، وإن كان لا يسوِّغ العمل السياسي والقبول بشرعية الحكومات العربية، إلاّ أنّه يرفض اعتماد مبدأ العمل المسلّح في الأردن، لانعدام شروطه، ولأنّه بمثابة محرقة لأبناء حركته. وقطع المقدسي نصف الطريق في المراجعات، وامتلك شجاعة النقد نحو خط الزرقاوي الفكري والحركي، والمشهد المأزوم لأبناء الحركة التي أسسها بنفسه، لكنها انقلبت عليه، تدريجياً، حتى أضحى - واقعياً - معزولاً عنها، مشكَّكاً فيه، على رغم أنّ أبناء هذه الحركة لا يزالون يستقون من كتبه وأدبياته! التقيتُ المقدسي عام 2002، قبل أيام من إعادة اعتقاله، وأجريت معه حواراً مطوّلاً، وتواصلت معه قليلاً عبر الانترنت، وأعتقد بأنه يمتلك في داخله قناعات ورؤية أكثر تطوراً وأفضل مما ينشره، ربما تحت ضغط أفراد الحركة وتأثيرهم حيث ينظر فريق منهم، إلى كل ملاحظة نقدية، حتى لو كانت من معلمِّهم الأول، باعتبارها تراجعاً وتخليّاً عن النهج ورضوخاً للضغوط. ولعل هذه البيئة الداخلية السائدة هي أبرز العثرات أمام مراجعات حقيقية جذرية جادة يُجريها المقدسي. المقدسي اليوم خارج القضبان، بِيده أن يقطعَ النصف الآخر من الطريق، ويُنقذ عدداً كبيراً من الشباب الذين تأثروا بأفكاره سابقاً، ويأخذ بيدهم نحو طريقٍ أقرب إلى الاعتدال والبعد عن العنف والمنطق العدمي الكارثي الذي دشنه الخط"السلفي الجهادي"الوعاء الفكري والحركي لشبكة القاعدة خلال السنوات الماضية. والفرصة سانحة حالياً بعد مقتل الزرقاوي وتراجع"القاعدة"في العراق إلى مرحلة شديدة الحرج والضعف، بخاصة أنّ أبناء هذا النهج يفتقدون قيادة أو منهجاً. هل يقود المقدسي مراجعات حقيقية يُكمل فيها ما بدأ به سيد إمام شريف أمير جماعة الجهاد سابقاً وقبله قادة الجماعة الإسلامية في مصر، فتكتمل حلقة من المراجعات العالمية للسلفية الجهادية أم أنّ المقدسي سيقف عند حدود ما يقرره له الاتجاه المتشدد من أبناء حركته ويبقى يدور في حلقة مفرغة تاركاً أتباعه في فوضى نفسية وفكرية؟! لا تزال أمام المقدسي مهمة حقيقية يمكن أن يؤديها، إذ بأمكانه ان يُنقذ عدداً كبيراً من أتباع"السلفية الجهادية"، وهو يحمل اليوم شعور الأب بمرارة وجود ابنه في أحد السجون الأميركية، ما يشطر فؤاده في كل لحظة.