يدرس الدكتور محمد أبو رمّان في كتابه «السلفيون والربيع العربي... سؤال الدين والديمقراطية في السياسة العربية (الصادر مؤخراً عن مركز دراسات الوحدة العربية) تأثير الثورات والانتفاضات العربية في الحركات السلفية، أيديولوجياً وسياسياً؛ وتأثير الدور السياسي المتوقع لهذه الحركات في بعض المجتمعات العربية. فالحالة السلفية تفتقد التنظيم العالمي أو الإقليمي – على غرار جماعة الإخوان المسلمين. كما تفتقد الأشكال الحركية الموحدة المحلية في البلاد العربية، بل إنها تتسم باختلافات داخلية واسعة وكبيرة، بينها الخلاف على «شرعية» من هو السلفي أولاً، وثانياً، وهو الأهم، الخلاف في شأن الموقف من العمل السياسي واستراتيجيات التغيير والإصلاح، ما بين مجموعات تؤمن بمبدأ «طاعة ولي الأمر»، أي قبول حكم المتغلب، ومجموعات أخرى تقوم على مبدأ «المفاصلة»، أي تكفير الحكام والخروج عليهم. والسلفية مصطلح فضفاض يختلف تعريفه بين الباحثين. فهي ليست متجانسة في الرؤى والأفكار، بل هي تيارات متنوعة ومتباينة، وهي في كثير من الأحيان متضاربة في اتجاهاتها السياسية. ولا يقف الاختلاف على تعريف السلفية عند حدود الباحثين في العلوم الاجتماعية والسياسية، إذ يحتدم السجال داخل الخطاب السلفي نفسه بين تياراته المتعددة على «من هو الممثل الشرعي لهذا الخطاب؟». فتعريف السلفيين التقليديين للسلفية يختلف تماماً عن تعريف السلفيين الجهاديين لها. فعلي الحلبي، أحد شيوخ السلفيين في الأردن، يحرج تنظيم القاعدة والجهاديين من عباءة السلفية، ويرفض توصيفهم بذلك، ويعرفهم ب «التكفيريين» وحفدة الخوارج. ويعرف السلفية بأنها «دعوة للعلم والعبادة والعقيدة، والسلوك والمعاملات، والتربية والأخلاق...». ثم يحددها بأنها «أجل من أن تكون حزباً أو حركة أو تنظيماً»، مبعداً المنهج السلفي عن العمل الحركي والحزبي. فيستثني السلفية الجهادية والعمل السياسي من مفهومه للسلفية. أما مقبل بن هادي الوادعي، شيخ السلفية التقليدية في اليمن، فيتجاوز الآخرين ويضع تعريفاً إجرائياً مفصلاً للدعوة والسلفية ومنهجها في كتابه «هذه دعوتنا وعقيدتنا»، يحدد فيه موقف السلفيين من الحكام، بعدم الخروج عليهم، ومن الأحزاب الإسلامية الأخرى برفض العمل السياسي. في الطرف الآخر، نجد أبو محمد المقدسي (عصام البرقاوي)، وهو من أبرز منظري السلفية الجهادية، فيقول إن «السلفية الجهادية تيار يجمع بين الدعوة إلى التوحيد بشموليته والجهاد لأجل ذلك في آن واحد، أو قل هو تيار يسعى إلى تحقيق التوحيد بجهاد الطواغيت... فهذه هي هوية التيار السلفي الجهادي الذي تميزه عن سائر الحركات الدعوية والجهادية». وينتقد المقدسي السلفية التقليدية متهماً إياها بأنها تركز على «شرك القبور» وتبتعد عن الواقع السياسي الحالي، أو ما يسميه ب «شرك القصور»، أي الحكام والتشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية، والتعاون مع الغرب بما يناقض عقيدة الولاء والبراء لدى السلفيين. هذا الاختلاف حول مفهوم السلفية وتعريفها نظرياً وواقعياً، دفع الباحثين في السنوات الأخيرة إلى إضافة وصف ثانٍ للتمييز بين الحركات والدعوات السلفية، كأن يقال السلفية العلمية، والسلفية التقليدية، والسلفية الإصلاحية، والسلفية الجهادية... الخ يميز محمد أبو رمّان بين أربعة اتجاهات رئيسية في السلفية المعاصرة: الأول هو اتجاه الخط المحافظ أو العلمي والدعوي، وقد اختار الدعوة والتعليم، رافضاً مبدأ المشاركة السياسية، مركزاً جهوده على ما يعتبره تصحيحاً للجوانب العقائدية والعلمية والرد على العقائد والأفكار التي يعتبرها منحرفة (الشيعة، المعتزلة، والخوارج)، وداخل المجتمع السني على العقائد والفرق الصوفية والأشاعرة والماتريدية، وهي في أغلبها خلافات دينية ذات طابع عقائدي. يمثل هذا الخط بدرجة واضحة في السعودية كل من الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين، وقريب من هذا الخط الشيخ ناصر الدين الألباني في الأردن، وجمعية أنصار السنة المحمدية في مصر. الاتجاه الثاني يقف على يمين الخط الأول سياسياً، وهو أكثر تشدداً ضد الأحزاب الإسلامية نفسها، وتقوم مقاربته على مبدأ «طاعة أولياء الأمور»، ورفض المعارضة السياسية لهم، ويكاد يكون متخصصاً في الرد على الإسلاميين والسلفيين الآخرين الذين اختاروا طريق العمل أو الخطاب السياسي المعارض. يمثل هذا الخط في السعودية أتباع محمد بن أمان الجامي وربيع بن هادي المدخلي، وفي اليمن مقبل بن هادي الوادعي وأتباعه، وأتباع ناصر الدين الألباني في الأردن، ومحمد سعيد رسلان وأسامة القوصي وهشام البيلي وطلعت زهران في مصر. أما الاتجاه الثالث هو السلفية الجهادية، تقوم مقاربته على تكفير الحكومات العربية، ما قبل الربيع العربي، وتبني التغيير الراديكالي والمسلح في أوقات معينة. ويمثل هذا الخطاب الحاضنة الأيديولوجية لتنظيم القاعدة، ويتماهى تماماً مع خطها السياسي والحركي. ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه: في الأردن، أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني؛ وفي المغرب محمد بن الفزازي وحسن الكتابي، وفي اليمن أنور العولقي، وفي سورية أبو بصير الطرطوسي. يقف الاتجاه الرابع في الوسط، وهو تيار سلفي يجمع بين العقائد والأفكار الدينية السلفية من جهة، والعمل الحركي والمنظم أو حتى السياسي من جهة أخرى، ويؤمن بالإصلاح السياسي وسلمية التغيير، ومشروعية المعارضة، ورفض الخيار المسلح في إدارة الصراع الداخلي. ومن أبرز منظري هذا التيار، عبد الرحمن عبد الخالق في الكويت، ومحمد بن سرور زين العابدين (الاتجاه الذي يطلق عليه السرورية)، وتيار الصحوة الإسلامية في السعودية، والشيخ محمد بن مقصود وتياره الفكري في مصر، وغيرهم. يقول أبو رمان إن ثمة قواسم مشتركة بين السلفيين – عموماً – في العقيدة والفقه، سواء كانوا ضد العمل السياسي أو معه، أو ضد الأنظمة أو معها، تتثمل في منح الجانب العقائدي أهمية كبيرة في مواقفهم المختلفة، ومنح قضية التوحيد موقعاً مركزياً في خطابهم، من رفض مظاهر «الشرك «لدى الصوفية، مثل زيارة قبور الأولياء، أو التوسل بالنبي. لكنهم يختلفون اليوم بين من يركز على هذا الشرك التقليدي، والشرك الحديث المتمثل باتخاذ قوانين وشرائع أو أيديولوجيات تصادم الشريعة الإسلامية ولا تقر بوجوب تطبيقها. لم يكن السلفيون في مصر كتلة واحدة متناغمة ومنسجمة في الأيديولوجيا والخطاب أو العمل الاجتماعي قبل ثورة 25 يناير. فهم وإن كانوا جميعاً لم يدخلوا اللعبة السياسية بصورة مباشرة قبل الثورة، فإنهم يختلفون في تبرير ذلك العزوف وتأصيله دينياً. فقد وقف السلفيون الحركيون منذ البداية مع الثورة، وقدموا فتاوى بشرعيتها، بينما وقفت مجموعة أخرى ضدها. أما التيار الأكبر وهو «الدعوة السلفية في الإسكندرية» فغلب على موقفها في البداية التشكيك في الثورة. لقد وجد السلفيوين أنفسهم مع الثورة المصرية أمام مفترق طرق حقيقي، بين البقاء على العزوف عن السياسة، أو الانقلاب على موقفهم السابق من العمل السياسي، أو التوفيق بين التغيرات السياسية الجديدة والأيديولوجيا السابقة على الثورة، وهي رهانات قسمت التيار السلفي. لم تتحول الدعوة السلفية في مصر إلى تيار عريض فيه مئات الألوف من الشباب ومئات الدعاة والشيوخ إلا في بداية السبعينات من القرن العشرين مع ظهور «الدعوة السلفية في الإسكندرية». تطور هذا الاتجاه داخل الجامعات المصرية وتمدد بين الطلاب والأتباع فأطلقوا على أنفسهم في عام 1977 «المدرسة السلفية». والاتجاه الآخر الأكثر تسييساً في الحالة السلفية، وإن لم يمارس العمل السياسي مباشرة، هو ما يطلق عليه مصطلح السلفية الحركية أو «القطبية»، حيث تأثر بأفكار سيد قطب عن الحاكمية الإلهية وتكفير النظم التي لا تلتزم بالشريعة الإسلامية. وبرز هذا الاتجاه بصورة خاصة في حي شبرا من مدينة القاهرة، ومن أبرز شخصياته محمد عبد المقصود. والاتجاه الحركي وإن كان يتفق غالباً مع توجه الدعوة السلفية في الإسكندرية، في الأفكار السياسية عموماً، فهو يختلف عنها جوهرياً في أن التيار الحركي يكفر الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله عياناً، أي بأسمائهم، وليس فقط بالوصف. في المقابل، برز في الأعوام الأخيرة التيار القريب من الخط الجامي والمدخلي في مصر، عبر مجموعة من الدعاة والخطباء السلفيين، وهو التيار الذي يتسم بالتأكيد دوماً على طاعة أولياء الأمور، والرفض الشديد لأي صورة من صور العمل السياسي. شكلت الثورة المصرية صدمة أيديولوجية وسياسية لعموم التيارات السلفية التي التزمت الابتعاد عن العمل السياسي وعدم المشاركة في التظاهرات والاعتصامات، والاقتصار على العمل التربوي والدعوي. وشكلت أحداث الثورة تحدياً كبيراً لهم فكانوا أمام خيارين: إما الإصرار على مواقفها السابقة بعدم الدخول في اللعبة السياسية وبالتالي ستكون خارج التأثير السياسي، وهو موقف التيار المداخلي، أو القبول بالمشاركة السياسية، ما يعني تحولاً فكرياً في خطابهم. المفارقة أن السلفيين توزعوا بين المواقف الثلاثة السابقة، فهناك من أعلن تأييد الثورة، ومن عارضها، ومن فضل الصمت، بل ومن تباينت والتبست مواقفه نفسها خلال الثورة وبعدها. لكنهم منذ الانتخابات النيابية الأخيرة يقعون في قلب السياسة. * باحث في الفكر العربي والإسلامي