قبل يومين من مقتله كان ابو مصعب الزرقاوي يمثل التحدي الأمني الأهم في قراءة صانع القرار الأردني، فعلى رغم كل الإجراءات التي تتخذها الحكومة الأردنية وآخرها الإعداد لقانون"منع الإرهاب"الذي يعاقب على التحضير للعمليات المسلحة والتحريض عليها، وعلى رغم عشرات القضايا المحكومة فيها أو المنظورة أمام محكمة أمن الدولة الأردنية، إلاّ أن المعركة بين الحكومة الأردنية والشباب الغاضب المنتمي الى"القاعدة"فكراً أو تنظيماً تتصاعد وتزداد حدتها مع مرور الوقت. بغياب الزرقاوي عن المشهد السياسي والأمني الأردنيوالعراقي يجدر التساؤل: كيف تحوّل أبو مصعب الزرقاوي، خلال سنوات قليلة، من شخص مهاجر مع حفنة قليلة من الصحب - نحو جبال أفغانستان - إلى العدو الأول ومصدر التهديد الرئيس الذي يمثل إزعاجاً حقيقياً للحكم الأردني؟ الجواب عن هذا السؤال يقتضي مراجعة أبرز مراحل تطور هذا التيار والظروف التي ساعدت على صعوده وانتشاره، ثم المحددات المرشحة للعب دور كبير في حسم معركته مع الحكم الأردني. مرحلة البناء والانتشار تمثّل تفجيرات عمّان 9/11/2005 نقلة نوعية في طبيعة المعركة بين"الجهاديين"وبين الحكومة الأردنية. ومع أنّ وقع الاختراق الأمني الذي حققه الزرقاوي يشكل قفزة واضحة، إلاّ أنّ الاختراق السياسي هو الأخطر"فجماعة الزرقاوي التي كانت - إلى سنوات قريبة - ظاهرة محدودة اجتماعياً مطاردة أمنياً، لا تحظى بأي حضور سياسي أو إعلامي، أصبحت اليوم لاعباً رئيساً في العراق، لها آلاف المؤيدين من العراقيين ومن العرب الآخرين سواء في الخليج أم في العالم العربي، حتى في الأردن نفسه. يمكن القول انّ البداية العملية للتيار الجهادي كانت مع عودة كل من ابو محمد المقدسي والزرقاوي من أفغانستان في بداية التسعينات، وقد اتفقا على البدء بنشر أفكار المقدسي وتصوراته حول عقيدة التوحيد ومفهوم"الحاكمية". وملخّص دعوة المقدسي - التي نجد زبدتها في كتابه الرئيس"ملّة إبراهيم وأساليب الطغاة في تمييعها"- أنّ النظم العربية الحالية هي نظم كافرة لأنّها أبعدت الإسلام عن الحكم، وأنّ العمل في ظل هذه الحكم هو إقرار بحكمها الوضعي المناقض للشريعة الإسلامية، وأنّ المهمة الرئيسة اليوم أمام أصحاب هذه الدعوة تتمثل بتصحيح مفاهيم الناس حول الإسلام والدين، و"مفاصلة"الحياة السياسية، وتكفير القضاة والجيوش والدساتير والمؤسسات الرسمية العربية...الخ. وعلى رغم"ثورية"هذه الأفكار، إلاّ أنّ المقدسي كان مصراً - ولا يزال - على سلمية الدعوة في الأردن، وعدم الانجرار إلى معارك غير متكافئة تقضي على هذا التيار في فترة مبكِّرة. قبل ظهور التيار الجهادي، الذي أسسه المقدسي، لم تكن هنالك جماعات جهادية ذات كفاءة فكرية وحركية كبيرة على الساحة الأردنية، باستثناء بعض التنظيمات كجيش محمد 1991 وجماعة"الأفغان الأردنيون"1994. ولم يكن الزرقاوي في بدايات التيار سوى تابع مخلص نشيط في الدعوة الجديدة، وكان المقدسي هو"المفتاح"الفكري والحركي، والشخصية الكاريزمية، التي اكتسبت صدقية لدى الشباب الإسلامي المتعطش الى التغيير الجذري. لقد وجد المقدسي تربة خصبة للعمل، ولم يكن اعتقاله عام 1993 ومن ثم الحكم عليه وعلى مجموعته التي عرفت إعلامياً ب"بيعة الإمام" إلاّ بداية لمرحلة جديدة، فقد كانت فترة السجن 1993-1999 إلى حين صدور العفو الملكي، بمثابة مرحلة الإعداد والتدريس والتنشئة وترتيب أمور التيار داخل السجن، ومرحلة الانتشار وتجنيد الأتباع في الخارج، اذ كانت كتب المقدسي تطبع وتوزع سراً، وفي هذه المرحلة صعد اسم الزرقاوي وانتزع القيادة الحركية من المقدسي، بينما اقتصر عمل الأخير على الفتوى والتدريس. المرحلة الثالثة من نمو التيار جاءت بعد خروج المقدسي والزرقاوي ومجموعتهما من السجن، وقد غادر الزرقاوي مباشرة إلى أفغانستان، إذ كان يتوقع أنّها تمثل البيئة الإسلامية المناسبة للحياة، بينما يذكر عدد من المقربين من الزرقاوي أنّه قرّر السفر ليكون بعيداً من يد الأجهزة الأمنية، ليتمكن من قيادة التيار وإدارته من الخارج بقدر أكبر من الحرية. لم يكن المقدسي موافقاً على خروج الزرقاوي من الأردن، ومعه عدد من مفاتيح التيار الحركية، وبدت منذ تلك المرحلة شقة الخلاف تتسع بين المقدسي والزرقاوي. بدوره المقدسي لم تمهله الأجهزة الأمنية كثيراً بعد الخروج، إذ سرعان ما أعيد اعتقاله على خلفية قضايا مختلفة. المرحلة الأخيرة، تمثّلت بانتقال الزرقاوي بعد الحرب الأفغانية إلى كردستان العراق، ثم إلى بغداد بعد الحرب العراقية. ومرّة أخرى تتدخل الظروف لتخدم الزرقاوي"فبعد انهيار الجيش العراقي وسقوط بغداد، كان هنالك عدد كبير من المتطوعين العرب، الذين لم يجدوا سوى جماعة الزرقاوي حاضناً لهم، وشيئاً فشيئاً تحوّلت الجماعة إلى شبكة كبيرة، وزاد عدد العراقيين فيها ليتجاوز المتطوعين العرب، وليصبح الزرقاوي رمزاً لجماعة التوحيد والجهاد ثم"تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين"، وقد وفّرت له السياسة الأميركية فرصة ذهبية باستعدائها السنّة وتهميشهم في العملية السياسة. على رغم نشاط الزرقاوي وقوته في العراق، والتحاق عدد كبير من أبناء التيار"الجهادي"الأردني به هناك، إلاّ أنّ عين الرجل بقيت على الأردن، فبين الحين والآخر كان يرسل عدداً من أتباعه إلى الأردن للقيام بأعمال عسكرية. تحولات الخطاب والحركة التحول الأهم في مسار الجهاديين الأردنيين كان مع سفر الزرقاوي وانتقال مركز القوة إلى الخارج، وسعي عدد كبير من الشباب الجهادي إلى الخروج، وهو ما وفّر فرصة جديدة للاحتراف، واكتساب خبرة المتطوعين العرب في أفغانستان. ثم بانتقال الزرقاوي إلى بغداد وتحول جماعته إلى شبكة كبيرة. ثمة عوامل متعددة ساعدت على هذه النقلة النوعية في عمل الزرقاوي"انضمام أعداد كبيرة من الشباب العربي إلى شبكته، بخاصة من المتطوعين في العراق من جنسيات عراقية، سورية، سعودية، وجود أعداد كبيرة من الجالية العراقية والسورية في الأردن، ما ساعد على تكوين مجموعات لا تحتفظ الاستخبارات الأردنية ببيانات حولها، وأخيراً المهارات التي اكتسبتها شبكته من الصراع المحتدم مع الولاياتالمتحدة داخل العراق. على صعيد الخطاب، دفعت المواجهة المحتدمة بين شبكة الزرقاوي والأميركيين إلى تجاوز قضية الصراع مع"العدو القريب"الحكومة الأردنية باتجاه عولمة الخطاب والمواجهة"العدو البعيد"الولاياتالمتحدة الأميركية. لم تعد أفكار المقدسي ورؤيته تمثل مرجعاً لشبكة الزرقاوي، فقد ظهر منظّرون سعوديون جدد أكثر راديكالية وأشد في الفتوى، كما يعتقد اتجاه واسع من التيار الجهادي الأردني أنّ الزرقاوي قد تجاوز في فكره وتجربته الحيّة في العراق رعاية المقدسي الفكرية والشرعية. لم يتبنّ التيار الجهادي أهدافاً ومطالب سياسية واقعية سوى تكفير النظام الأردني والدعوة إلى مفاصلته، ولعلّ المرة الوحيدة التي صدر فيها خطاب ذو طبيعة سياسية كانت بعد تفجيرات عمان، من خلال شريط صوتي للزرقاوي عرض فيه توقف العمليات في الأردن مقابل كفّ يد الحكومة الأردنية عن دعم الولاياتالمتحدة في العراق وعن تدريب الشرطة والجيش العراقي. وهي الحالة الوحيدة التي نسمع فيها مفاهيم ولغة سياسية بعيداً من الخطاب العقائدي الصارم الذي صبغ فكر هذا التيار منذ البداية. المقدسي، وقد شعر أنّ الزرقاوي اختطف التيار واتجه به إلى غايةٍ واستراتيجية غير التي خطّط لها، كتب من سجنه في قفقفا مقالةً نقدية حادة بعنوان"الزرقاوي مناصرة ومناصحة"نشرت على موقعه على شبكة الانترنت، وقد أفرج عن المقدسي بعد أن ثبتت براءته، وأجرى مقابلة مع الجزيرة أكّد فيها انتقاداته السابقة، إلاّ أنه أعيد اعتقاله بعد أيام قليلة، فيما يبدو نتيجة ضغوطٍ خارجية. المقاربة الأمنية من جهتها اعتمدت الحكومات الأردنية في مواجهة التيار الجهادي، على"المقاربة الأمنية"، إلاّ أنّ تطوراً حدث في هذه المقاربة في موازاة تطور التيار ونشاطه. فقد كان التعامل في البداية مع مجموعات عنقودية منتشرة، هدفها الرئيس تكفير النظام والقيام بعمليات ضد المصالح الأميركية والإسرائيلية، من السهولة اختراقها وإلقاء القبض على أفرادها وتقديمهم إلى المحاكمة. وفي مقابل عولمة جماعة الزرقاوي كانت هنالك عولمة أمنيّة، بدرجة رئيسة بعد أحداث أيلول 2001، في ظل ما يسمى بالحرب على الإرهاب، إذ أصبحت الاستخبارات الأردنية شريكاً رئيساً لوكالة الاستخبارات الأميركية في التصدي لتنظيم"القاعدة"وملاحقته. فبعد أيلول حدث ما يمكن الاصطلاح عليه ب"سياسة الإدماج"المتقابلة"إدماج الجهود الأمنية في ملاحقة الجماعات المرتبطة، ب"القاعدة"، وعلى الجهة الأخرى إدماج"القاعدة"للعدو القريب والبعيد. في السنتين الأخيرتين، أصبح تهديد الزرقاوي على درجة كبيرة من الخطورة، بعد أن تمكن من بناء شبكة واسعة من المؤيدين والأنصار العرب، ظهر هذا الاختراق في جماعة"كتائب التوحيد"، التي يقودها عزمي الجيوسي، الذي خطط لتفجير دائرة الاستخبارات العامة، بتوجيه من الزرقاوي، وتفجيرات العقبة آب 2005 وتفجيرات عمان 9-11-2005، ومحاولة القيام بعملية انتحارية لتحرير سجناء القاعدة في السجون الأردنية، وحالات تمرد السجون المتعددة. تفجيرات عمّان أدت إلى مراجعة أمنية كبيرة، ووضعت استراتيجية تقوم على محاور عدة أبرزها: حملة سياسية وإعلامية كبيرة في مواجهة فكر التيار الجهادي ونشاطه في مختلف مؤسسات المجتمع، إلاّ أنّ الجانب الثقافي سرعان ما ذوى ولم تستمر الدولة فيه، وعاد التركيز على المقاربة الأمنية المحضة. في الفترة الأخيرة تم تبني مبدأ"الضربة الوقائية"والعمل على بناء قاعدة بيانات ومعلومات داخل العراق عن الجماعات الجهادية وعن شبكة الزرقاوي، كي تتمكن الاستخبارات من التقاط مفاتيح التنظيم واختراقه، وحالة زياد الكربولي الذي تقول الرواية الرسمية الأردنية انه ألقي القبض عليه داخل العراق مثال على الاتجاه الجديد في المقاربة الأمنية. في المقابل يمكن القول: انّ الأمن الأردني شارك - مباشرة أو غير مباشرة - في عملية قتل الزرقاوي، من خلال الشق المرتبط بالمعلومات والبيانات أو المتابعة وفك الشفرات... محددات المرحلة المقبلة في ضوء غياب الزرقاوي عن المشهد، ثمة محددات رئيسة تلعب دوراً كبيراً في رسم مسار الصراع المقبل، في مقدم هذه المحددات: تطور الوضع الأمني في العراق، فإذا كنا أمام انفلات أمني وفوضى وتكريس للحرب الطائفية، فإنّ جماعة الزرقاوي تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين قادمة على مرحلة"ذهبية"في العراق، ويبقى سؤال"وحدة"التنظيم موضع نقاش رئيس، إذا ما كان مجلس شورى المجاهدين سيتمكن من الحفاظ على وحدته أم أنه سينقسم ويتوزع التنظيم إلى مجموعات متعددة. أما في الأردن، فإنّ المحدد الآخر يتمثل في"المقاربة الأمنية"، فإذا استمر الاعتماد على الجانب الأمني المحض، فسيبقى التيار الجهادي نشيطاً، وسيطور أدواته وخبرته مع مرور الوقت، والدليل على ذلك أنّ هنالك خطّاً بيانياً صاعداً في قضايا هذه الجماعات المعروضة أمام محكمة أمن الدولة، ما يؤكد أنّ المقاربة الأمنية عاجزة، مهما بلغت درجة احتراف الاستخبارات، عن مواجهة هذا التيار، الذي يتطلب التصدي له بناء جسور اجتماعية - ثقافية منيعة بين المؤسسات الثقافية والاجتماعية ووسائل الإعلام. ولعل المفارقة الرئيسة تكمن في أنّ الدور الإعلامي والثقافي له استحقاق رئيس وهو الحرية وإعمال السياسة ومتنفس من الديموقراطية والنشاطات العامة وإدماج"الإسلاميين المعتدلين"في اللعبة السياسية، ودور تنويري لوزارة الأوقاف، وهي السياسات التي تقف على الطرف الآخر للمقاربة التي تتبناها الحكومة حالياً وتقوم على التشديد الأمني!