جهود دعوية وإنسانية لتوعية الجاليات وتخفيف معاناة الشتاء    أمير الرياض ونائبه يعزيان في وفاة الحماد    أمير الرياض يستقبل سفير فرنسا    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائنًا مهددًا بالانقراض    انخفاض معدلات الجريمة بالمملكة.. والثقة في الأمن 99.77 %    رغم ارتفاع الاحتياطي.. الجنيه المصري يتراجع لمستويات غير مسبوقة    إيداع مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر ديسمبر    العمل الحر.. يعزِّز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    نائب أمير تبوك يطلق حملة نثر البذور في مراعي المنطقة    NHC تنفذ عقود بيع ب 82 % في وجهة خيالا بجدة    العمل الحرّ.. يعزز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    الاحتلال يكثّف هجماته على مستشفيات شمال غزة    تهديد بالقنابل لتأجيل الامتحانات في الهند    إطلاق ChatGPT في تطبيق واتساب    هل هز «سناب شات» عرش شعبية «X» ؟    المملكة تدعم أمن واستقرار سورية    "أطباء بلا حدود": الوضع في السودان صعب للغاية    حرب غزة:77 مدرسة دمرت بشكل كامل واستشهاد 619 معلماً    السعودية واليمن.. «الفوز ولا غيره»    إعلان استضافة السعودية «خليجي 27».. غداً    رينارد: سنتجاوز الأيام الصعبة    اتركوا النقد وادعموا المنتخب    أخضر رفع الأثقال يواصل تألقه في البطولة الآسيوية    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    غارسيا: العصبية سبب خسارتنا    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    رئيس بلدية خميس مشيط: نقوم بصيانة ومعالجة أي ملاحظات على «جسر النعمان» بشكل فوري    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير تعليم الطائف ويدشن المتطوع الصغير    وافق على الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة.. مجلس الوزراء: تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    مجلس الوزراء يقر الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة العامة    الراجحي يدشّن «تمكين» الشرقية    تقنية الواقع الافتراضي تجذب زوار جناح الإمارة في معرض وزارة الداخلية    لغتنا الجميلة وتحديات المستقبل    أترك مسافة كافية بينك وبين البشر    مع الشاعر الأديب د. عبدالله باشراحيل في أعماله الكاملة    عبد العزيز بن سعود يكرّم الفائزين بجوائز مهرجان الملك عبد العزيز للصقور    تزامناً مع دخول فصل الشتاء.. «عكاظ» ترصد صناعة الخيام    وزير الداخلية يكرم الفائزين بجوائز مهرجان الصقور 2024م    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    زوجان من البوسنة يُبشَّران بزيارة الحرمين    القهوة والشاي يقللان خطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق    القراءة للجنين    5 علامات تشير إلى «ارتباط قلق» لدى طفلك    طريقة عمل سنو مان كوكيز    الموافقة على نشر البيانات في الصحة    جامعة ريادة الأعمال.. وسوق العمل!    نقاط على طرق السماء    الدوري قاهرهم    «عزوة» الحي !    أخطاء ألمانيا في مواجهة الإرهاب اليميني    المدينة المنورة: القبض على مقيم لترويجه مادة الميثامفيتامين المخدر (الشبو)    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    عبد المطلب    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    سيكلوجية السماح    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صفحة جديدة في علاقات أنقرة بواشنطن . تركيا تتهيأ لدور سياسي - اقتصادي يجابه ضغط ايران على العراق والخليج
نشر في الحياة يوم 08 - 02 - 2008

كان احياء الشيعة في تركيا ذكرى عاشوراء، وما زال، حدثاً يختلف في شعائره ورسائله عن بقية احتفالات الشيعة في العالم الاسلامي، إذ تجمع حوالى مئة ألف شيعي في اسطنبول في احتفالية جماهيرية، عرضت خلالها تمثيلية لاحداث كربلاء، ولكن بدلاً من استخدام الجنازير والأسلاك في اللطم حتى نزف الدم، يقوم الشيعة في تركيا وأغلبهم جعفريون بحملة للتبرع بالدم فداء للحسين بطريقة عصرية تخدم المحتاجين لهذا الدم الذي ينزف طواعية في ذلك اليوم.
الشيعة الأتراك تأثروا بمسيرة التوجه للغرب والسير في ركاب الاتحاد الأوروبي، وطوروا من طقوس احتفالاتهم وعلى رغم بعض المحاولات الايرانية، فقد فشلت طهران في السيطرة عليهم أو عقد علاقات مميزة معهم، على خلاف ما يجمع ايران بجماعات شيعية كثيرة في العالم العربي، والسبب هو قوة الشعور القومي لدى الأتراك الذي يغلب أحياناً على الهوية الدينية أو المذهبية، بالاضافة الى علمانية النظام وديموقراطيته التي تمنع ممارسة السياسة على أساس ديني أو طائفي، لكنها تمنح الجماعات الدينية حرية العبادة وممارسة الطقوس في حدود المعقول من دون اسراف يسمح بالتطرف أو المغالاة في البدع التي قد تشوه صورة الدين الاسلامي. يجب أن نذكر ان هذه الحريات قد لا تنطبق على الاقليات غير المسلمة التي لا تزال تعاني من حرمانها من حرية تعليم دينها في شكل أوسع، لكن، هنا، أيضاً يغلب الشعور القومي على ما سواه، فيقف أمام هذه الحريات التي يرى فيها الأتراك أحياناً نافذة للتدخل الأجنبي في شؤون تركيا الداخلية من خلال اثارة الغرب ملف الأقليات في شكل متكرر.
يتساءل بعض الأوساط السياسية التركية عن سبب عدم الاهتمام الكافي من بعض العرب بالحوار البناء مع الشيعة من بني جلدتهم، واعتبار الأقليات الشيعية في بعض البلدان العربية خطراً يجب التوجس منه، أو ذراعاً سياسية لايران، خصوصاً في العراق حيث الشيعة غالبية، وتركيا كانت من اولى الدول التي رفضت سياسة التحذير من الهلال الشيعي وخطر فتنة سنية - شيعية تبدأ في العراق وتمتد الى المنطقة بأكملها، وأصر الموقف التركي على تعريف الحالة القائمة في اطار سياسي بحت ناتج من توسع النفوذ الايراني نتيجة غزو العراق وسياسات واشنطن الخاطئة ? عن قصد أو غير قصد ? في المنطقة. وتعريف الحالة من منظور طائفي يخدم ايران أولاً، لأنه يتهم جميع الشيعة في المنطقة بالعمالة لها ويلقي بهم في احضانها كجسم منبوذ يجب التخلص منه أو استعداؤه، وبالتالي تزداد أوراق الجانب الايراني قوة، فيما ليس للعالم السني قدرة على تحريك أو تفعيل الأقلية السنية في ايران.
كان الموقف التركي، أو المقترح التركي، لمعادلة ما حدث من اختلال في توازن المنطقة لمصلحة ايران يقوم على ثلاث نقاط، أولاها تصوير الحالة في اطار سياسي وترك الحديث عن الهلال الشيعي أو عن فتنة شيعية ? سنية، وثانياً استقطاب سورية ودفعها الى الانخراط في العملية السلمية وتحسين علاقتها مع الغرب وتطبيع علاقاتها مع لبنان، ليس بهدف فصل سورية عن ايران، ولكن، على الأقل، تحييد دمشق واضعاف المرتكز الايراني القائم على التحالف مع سورية، وثالثاً سحب أوراق القوة من يد ايران بالتدريج ومن دون استفزاز أو اللجوء الى أسلوب التصفية والمواجهة العسكرية، من خلال احتواء الشيعة العرب وتقوية الشعور القومي لديهم والاعتراف بحقوقهم حيث يوجدون كأقليات من أجل زيادة جرعة الاحساس بالانتماء للوطن وعدم البحث عن سند على الجانب الآخر من الخليج.
من أجل ذلك دعمت تركيا ما يسمى بالعملية الديموقراطية في العراق شرط مشاركة السنّة فيها وعدم اقصائهم عنها كما كان واقعاً في بداية الأمر، وكان لتركيا دور مهم في اقناع السنّة العراقيين في المشاركة في الانتخابات الأخيرة، فالطرح التركي يقول إن ايران لا يمكنها أن ترفض عراقاً ديموقراطياً طالما ان الشيعة ? الذين تعتبرهم حلفاءها فيه. هم غالبية السكان، لكن، وفي المقابل، فإن عراقاً ديموقراطياً ومستقراً ? وان كان تحقيق ذلك صعباً ? سيجعل اعتماد الأحزاب والفصائل الشيعية على ايران أقل بعد انتفاء التهديدات المذهبية أوالخلافات الطائفية داخل العراق ? ان إمكن ? مما سيقوي الشعور الوطني والقومي لدى الشيعة العرب العراقيين.
هذا الطرح التركي والذي جاء بصوت خافت، قوبل بصراخ المطالبين بالتصعيد وتغليب سياسة المحاور بين معتدلين ومتطرفين في المنطقة، والتحذير مما سمي الخطر الشيعي في المنطقة، ومحاولة جر المنطقة الى حروب جديدة، وزيادة الضغط على سورية في الداخل ومن خلال لبنان أملاً في اسقاط نظامها وانهاء التحالف السوري ? الايراني بهذه الطريقة، ووصل الأمر الى اتهام تركيا بالعمل على اقامة محور تركي ? ايراني ? سوري أو العمل لحساب ايران، وهو أبعد ما يكون عن الواقع أو الحقيقة. ولوان تركيا قبلت في حينه بعض العروض التي قدمت لها لدعم محور ضد آخر، والعمل ضد ايران وسورية وتسهيل أي ضربة اسرائيلية أو أميركية لطهران، واطباق الحصار السياسي والاقتصادي على دمشق، لكانت حظوظ اندلاع الحرب ضد ايران اكبر خلال السنتين الماضيتين. لكن أنقرة رجحت سياسة الاحتواء والحوار على سياسة التصعيد والمواجهة التي جاءت بعكس ما اراد لها اصحابها. وأكبر وأهم مثال على ذلك هو الموقف التركي من حماس بعد فوزها في الانتخابات الفلسطينية، فدعوة انقرة لوفد حماس بقيادة خالد مشعل كان يهدف الى تبني ودعم هذه التجربة الديموقراطية على امل جر حماس بعيداً عن طهران، لذا كان الحرص التركي على ان تكون زيارة مشعل لتركيا قبل ان يتوجه الى ايران. وبحسب قول مسؤول تركي رفيع في حينه، فلو أن الغرب اعطى في حينه حماس فرصة، لما وقعت الحرب اللبنانية ?الاسرائيلية، التي جاءت نتائجها كارثية على المحور الأميركي - الاسرائيلي المؤمن بأن آلته العسكرية قادرة على كل شيء -، ولأمكن ربما التأثير في موقف حماس وفي علاقاتها مع طهران، بدلاً من دفع حماس وبقوة الى البحث عن شريك وداعم لها خارج حدود الوطن العربي بالاضافة الى دمشق.
والحرب الاسرائيلية على لبنان جاءت نتيجة تأزم الوضع بعد حصار الغرب لحماس وموقفه منها، وثمرة لعقلية لوبي أميركي معروف يؤمن فقط بالتصعيد والمواجهة العسكرية لحسم المواقف، وهي السياسة التي ثبت فشلها، فكانت الحرب على لبنان درساً ثالثاً لأصحاب مدرسة الاخذ بالقوة في واشنطن بعد أفغانستان والعراق.
صفحة جديدة
في العلاقات الاميركية - التركية
طوال الفترة منذ غزوالعراق وحتى نهاية العام الماضي، بدت السياسة التركية وكأنها تسير في خط يتحدى السياسة الأميركية المرسومة للمنطقة ويعارضها. وتعرضت العلاقات بين البلدين لأكثر من اختبار ولأكثر من ازمة، فالطلب الأميركي المتكرر بفرض أنقرة ضغوطاً على دمشق قوبل بالرفض بسبب إيمان تركيا بأن ذلك سيزيد المحور الايراني - السوري قوة وبسبب وجود مصالح تركية اقتصادية قوية مع سورية لا يمكن التضحية بها في سبيل سياسة أميركية يغلب عليها طابع المغامرة. وطلب واشنطن من أنقرة قطع علاقاتها بطهران وفرض حصار اقتصادي عليها قوبل أيضاً بالرفض، ليس تحدياً لواشنطن بل لأن المصلحة التركية تتطلب الإبقاء على علاقات اقتصادية جيدة مع ايران التي تحتاج تركيا لغازها ومشاريع طاقتها من أجل سد الاحتياجات الداخلية وتدعيم الاستراتيجية التركية القائمة على تحويل تركيا الى معبر استراتيجي وبورصة اقليمية للغاز الطبيعي والنفط، ولأن لا مصلحة تركية في استعداء ايران بناء على معلومات استخبارية غير مؤكدة حول برنامجها النووي.
ذلك لا يعني ان العلاقات التركية - الايرانية في افضل حالاتها اليوم، فتركيا كانت علاقتها افضل مع ايران رفسنجاني الذي كان البادئ في التقارب التركي - الايراني، ومع ايران خاتمي حين كانت العلاقات بين البلدين في افضل فتراتها بعد الثورة الاسلامية. وفيما استضافت تركيا رفسنجاني وخاتمي، احجمت عن استضافة أحمدي نجاد على رغم تعبيره عن رغبته في زيارتها، وذلك بسبب سياسات نجاد الاقليمية وتصريحاته الراديكالية التي تثير قلق انقرة، وأن لم تفصح صراحة عن ذلك. ولا تزال الاوساط التركية تراهن على علاقات افضل مع ايران في حال عاد الاصلاحيون الى الحكم، بل أن المنظرين الاتراك يأملون في قيام نظام اقليمي يضم ايران وتركيا ودولاً عربية قائم على تثبيت الاستقرار ونبذ الخلافات وسياسات التهديد والتخويف قد تكون آلية دول جوار العراق بذرة ذلك النظام، لأن ذلك هوالوضع الطبيعي، وهوالبديل لسياسات الاقصاء أو الاستقطاب أو فرض الهيمنة لمصلحة طرف على حساب الآخر من طريق القوة، أو سياسات الاتفاقات السرية التي لا تستبعد أنقرة ان تعقدها ادارة بوش أو من يأتي بعده مع ايران، والتي ستكون في الغالب على حساب مصلحة دول الخليج والمنطقة، فكثير من السياسيين الأتراك يستشعرون غزلاً غير واضح بين اميركا وايران، ثمرته استقرار نسبي في العراق، وخدمات اميركية خلصت ايران من عدويها طالبان في افغانستان وصدام حسين في العراق، وشهادة براءة من مشروع سلاح نووي بحسب تقارير استخبارات عسكرية اميركية لم تكن الادارة الاميركية مضطرة لتسريبها للإعلام، وعلى رغم الحديث عن توتر ومسرحية مضيق هرمز بين السفن الحربية الأميركية والزوارق الإيرانية. ولطالما حذرت انقرة دولاً خليجية من هذا الاحتمال وطالبتها ألا تضع جميع البيض في سلة الضغط العسكري الأميركي او ضربة أميركية لطهران بحجة ملفها النووي.
في المقابل فأن فشل واشنطن في حسم حربها غير المباشرة مع ايران وسورية في المنطقة من خلال التهديدات العسكرية والضغوط السياسية وسياسة الحصار والتهديد، وحاجة ادارة بوش الى تسليم الادارة التي تليها تركة افضل من الموجودة حالياً، على الاقل في العراق، جعل بعض الادان في واشنطن تصغي ولو قليلاً للاطروحات التركية. فكان المقترح التركي في البداية عقد مؤتمر موسع لدول جوار العراق يفسح في المجال لحوار اميركي مباشر مع طهران ودمشق، وقد أقنع وزير الخارجية التركي عبدالله غول في حينه وزيرة الخارجية كونداليزا رايس بذلك خلال زيارته واشنطن في كانون الأول ديسمبر 2006. بعد ذلك بدأ الحوار السياسي بين أنقرة وواشنطن يتطور أكثر، وفق قواعد وضوابط جديدة، قواعد تفسح في المجال لحوار ونقاش هادئين بين طرفين يسمع كلاهما الآخر وليس حواراً من طرف واحد. وعندما اقترب العام الماضي من الانتهاء، شهدت العلاقات الاميركية - التركية انفراجاً كبيراً بعد ازمة عاصفة بسبب حزب العمال الكردستاني في شمال العراق الذي اتهمت بعض الاوساط التركية واشنطن بحمايته ودعمه على رغم اعترافها بكونه حزباً ارهابياً، وايضاً بسبب قضية مذابح الارمن التاريخية التي وعدت رئيسة الكونغرس الاميركي نانسي بيلوسي بتبنيها واصدار قرار ادانة لتركيا يعترف بكون تلك المذابح تصفية عرقية. تهديد انقرة في حينه باغلاق قاعدة انجرلك ووقف الامدادات اللوجستية للجيش الاميركي في العراق عبر تركيا في حال اقرار قانون مذابح الارمن من جهة، وتهديدها ايضاً باجتياح شمال العراق كحل اخير اذا اصرت واشنطن على الوقوف متفرجة على هجمات حزب العمال الكردستاني التي زادت في قوتها وتحديها، واذا ما بقي مسعود برزاني على دعمه لعناصر الحزب لوجستياً، هذا التهديد المزدوج وقنوات الحوار السياسي التي فتحتها انقرة مع الخارجية والبيت الابيض، جعلت العقل السياسي في البيت الابيض ينتصر ? في مشهد نادر ? على ما تبقى من لوبي المحافظين الجدد المطالب بالانتقام من تركيا لعدم دعمها الغزو الاميركي للعراق والانصياع لمطالب قطع العلاقات مع سورية وايران. فانقلبت الازمة الى انفراج كبير، وتوقف مشروع القرار عن الارمن، وحظي الجيش التركي بدعم استخباري وعسكري ضد حزب العمال الكردستاني، وحظيت انقرة بضغط اميركي على الادارة الكردية العراقية لمنع وصول الدعم اللوجستي الى عناصر الحزب هناك. وبدى المشهد غريباً عندما زار كل من رئيس الوزراء والرئيس التركيين الرئيس الاميركي في البيت الابيض تباعاً خلال فترة لم تتجاوز الشهرين فقط، فبعد زيارة اردوغان المهمة في 5 تشرين الثاني نوفمبر، جاءت زيارة غول في 8 كانون الثاني يناير والتي شملت ايضاً زيارة لقيادات الحزب الديموقراطي الذي تراهن تركيا على فوزه في الانتخابات الرئاسية وبالتحديد فوز هيلاري كلينتون التي كان لزوجها بيل كلينتون اطيب العلاقات مع تركيا في فترة حكمه، والزيارة تمهيد لعلاقات قد تتطور اكثر في حال وصول فريق السيدة كلينتون الى البيت الابيض.
الرئيس عبدالله غول وصف زيارته واشنطن بأنها صفحة جديدة في العلاقات مع اميركا، وكان لدعوة البيت الابيض لوزير الطاقة التركي حلمي غولار ليرافق الرئيس دور مهم في فتح هذه الصفحة التي قد يكون من بين اهم نتائجها ? فضلاً عن حوار اميركي - تركي اكثر جدية حول قضايا المنطقة ? زيادة الثقل التركي في العراق سياسياً واقتصادياً، واكثر ما يمكن ان يعبر عنه ذلك هواتفاق الطرفين على تعاون استراتيجي في التنقيب عن النفط والغاز في العراق، وشأن النفط ? كما هو معروف ? مهم لدى واشنطن إذ يكاد يحدد سياساتها واستراتيجياتها في المنطقة، والاتفاق على مد خط للغاز من كركوك الى ميناء جيهان التركي ليوازي خط النفط القائم حالياً، ما يعني دفن فكرة خط كركوك - حيفا القديمة، كما يعني ايضاً ضرورة حل وضع مدينة كركوك بين الاكراد والعرب والتركمان وتركيا، وهو ما سيمهد لعلاقات افضل بين تركيا واكراد العراق في حال حسم الخلاف حول كركوك والتخلص من ملف حزب العمال الكردستاني، ليكون في حينه الاكراد والتركمان والعرب السنة في العراق على علاقات وثيقة جميعهم بتركيا التي تعزز حالياً حوارها مع العرب الشيعة، وتحضر لفتح قنصلية لها في البصرة، من دون ان يكون الهدف بالطبع منافسة ايران على كسب ود الشيعة أو التصدي للنفوذ الايراني في جنوب العراق، وانما لفتح افاق جديدة للعرب الشيعة هناك الذين اشتكى بعضهم اهمال دول الاقليم، وهو دور قد لا يكتب لتركيا فيه النجاح من دون دور عربي مشارك ومساند، لأنه لا يمكن لتركيا أن تتولى مهمة تعزيز روح القومية العربية عند شيعة العراق أو ان تكون حليفاً بديلاً لهم عن ايران.
كما ان أنقرة ستكون حريصة على الا يستفز هذا الدخول التركي الناعم الى الحقل العراقي طهران التي لا تثق منذ القدم بالسياسات التركية، بسبب العلاقة الاستراتيجية بين أنقرة وواشنطن. ولعل زيارة غول الاخيرة لواشنطن كانت كافية من الآن لرسم عدد من علامات الاستفهام في عقول قيادات ايرانية ترى في تركيا منافساً اقليمياً وامتداداً ليد الغرب العسكرية الضاربة على رغم كل ما سبق ذكره.
أمن الخليج واستقرار تركيا
وعلى رغم رفض تركيا الدخول في سياسة المحاور في المنطقة، لكن وجود تركيا مستقرة وقوية وذات سياسة خارجية تدعو للتعقل والحوار وتدعم القضايا العربية العادلة، أمر ضروري لموازنة النفوذ الايراني المتزايد في المنطقة أو على الاقل ضروري لئلا يتضاعف هذا النفوذ، وهو أمر تدركه واشنطن كما تدركه قيادات عربية طورت علاقاتها أخيراً مع انقرة وحكومة حزب العدالة والتنمية. ويندر أن تحظى دولة بزيارتين رسميتين للعاهل السعودي خادم الحرمين الشريفين في اقل من 15 شهراً، وأن تجمع على ارضها زعماء وقيادات من دول المنطقة بهذه الكثافة، من محاولة للمصالحة بين برويز مشرف وحميد كرزاي، الى جمع للرئيسين الاسرائيلي والفلسطيني معاً تحت قبة البرلمان التركي، واستضافة الرئيس السوري بعد فترة وجيزة من العدوان الاسرائيلي على سورية، والعمل بجد للتوصل الى سلام بين دمشق وتل ابيب، ناهيك عن شراكة سياسية مع القاهرة تطوي صفحة التنافس الاقليمي والحساسيات المتبادلة، واتفاقات تعاون سياسي وثقافي مع جامعة الدول العربية وأخيراً حضور مستمر للقيادات التركية للقمم العربية.
بقاء تركيا بقوتها الاقتصادية والعسكرية والبشرية قائمة في المنطقة وعلى علاقة مميزة مع الدول العربية، تشاركها قلقها من زيادة النفوذ الايراني بقيادة احمدي نجاد، على رغم انها تختلف مع بعض هذه الدول في طريقة التعامل مع الوضع، هو مهم جداً لاقناع الجانب الايراني ان الساحة ليست خالية تماماً امام نفوذه المتمدد. واذا ما اقتنعت الادارة الاميركية ? وتخلصت من الضغوط الاسرائيلية - بضرورة ضم دمشق لمسيرة السلام وكسبها بدلاً من استعدائها من دون ان يكون ذلك على حساب لبنان وهو ما أكده الرئيس التركي في زيارته الأخيرة ذات الطابع التنبيهي لدمشق بضرورة عدم المغالاة في المطالب والمواقف من لبنان لئلا ينتهي الامر الى مقاطعة اقليمية جديدة لها وعنف في الشارع اللبناني فأن اوراق القوة الايرانية في المنطقة قد تبدأ في التآكل، وقد تقتنع في حينه بعض القيادات الايرانية المبالغة في طموحاتها الفارسية في المنطقة وخصوصاً في العراق والخليج، بأن سياسة توازن القوى والتعاون على استقرار المنطقة هي افضل من محاولة الاستفادة من غياب العراق الذي كان مكلفاً موازنة الثقل الايراني في المنطقة عسكرياً وسياسياً.
دعم خليجي تركي متبادل لاستقرار المنطقة
وعلى رغم الخلافات السياسية بين تركيا واميركا خلال السنوات الماضية، الا ان واشنطن لم تتخل أبداً عن دعم تركيا اقتصادياً، وحالت دون انهيار اقتصادها بعد ازمة عام 2001 المالية من خلال دعم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بل ايفاد وزير تركي للاقتصاد من اميركا هو كمال درويش تولى اصلاح الخلل في بنية الاقتصاد التركي في حينه، فأميركا تدرك اهمية بقاء تركيا متماسكة من أجل مشاريع النفط والغاز في المنطقة التي ستكون تركيا معبراً مهماً لها، ولبقاء النموذج التركي المسلم الديموقراطي العلماني في مواجهة النموذج الايراني وغيره من انظمة وجماعات راديكالية في المنطقة، فانهيار الاقتصاد التركي أوالسماح للجيش بانقلاب جديد، يعني خروج تركيا من المعادلة الاقليمية نهائياً، أوعلى الاقل انهاء سياسة الانفتاح على الشرق الأوسط والانكماش مجدداً داخل سياسة تولي وجهها نحوالغرب فقط، وهذا ليس في مصلحة الأهداف الاميركية في المنطقة.
وجود تركيا مستقرة ليس في مصلحة واشنطن فقط وانما يصب ولو في شكل غير مباشر في مصلحة دول الخليج للأسباب المذكورة سابقاً. من هنا جاء التوجه لاستثمار دول الخليج جزءاً من اموالها في تركيا لدعم الاقتصاد التركي المتعطش لتلك الاستثمارات، لكن المشكلة القائمة في تلك الاستثمارات هو توجهها نحو مشاريع الكسب السريع والمضمون والتي لا تقدم الكثير للبنية التحتية للاقتصاد التركي ولا توفر المطلوب من فرص عمل جديدة اوتنمية، فمعظم الاهتمام الخليجي منصب على مشاريع الاعمار السكنية والابراج وشراء البنوك والاسواق، وقد اصطدم معظم هذه المشاريع بعوائق بيروقراطية اثارتها المنافسة الداخلية لقوى اقتصادية تركية ترى نفسها أحق بمشاريع الكسب السريع المضمونة. ان اكثر ما يمكن ان يهدد الاستقرار في تركيا أو اقتصادها، هو تعرضها بشكل من الاشكال مجدداً للاستنزاف على يد حزب العمال الكردستاني الذي تتجمع عناصره الآن على الاراضي الايرانية بعد اتفاق سري مع جهات ايرانية، يسمح لعناصر الحزب بالاحتماء في ايران هرباً من القصف التركي لمعاقله في شمال العراق، في مقابل توقف فرع الحزب الإيراني بيجاك عن مهاجمة الأراضي الإيرانية أو التعاون مع واشنطن، وهو اتفاق لا ضرر منه حالياً لتركيا، لكن، في حال تطور هذا الاتفاق الى دعم مباشر للحزب من بعض الأوساط الإيرانية كما كان الأمر طوال التسعينات من القرن الماضي حين دعمت طهران بقوة الحزب ضد تركيا ? فإن اموراً كثيرة قد تتغير في تركيا. ولذا تسعى أنقرة الى حل القضية الكردية بأسرع وقت ممكن لتجنب هذا الخطر المفترض، بالعمل على اقرار دستور جديد يعطي الأكراد حقوقاً ثقافية، لكن الأهم هو تنمية منطقة جنوب شرقي تركيا ذات الأغلبية الكردية ودعمها اقتصادياً وحل مشاكل البطالة والخدمات فيها، من أجل منع تطوع عناصر كردية جديدة وانضمامها للحزب الكردستاني، وهي مسألة قد تخدم فيها الاستثمارات الخليجية في شكل كبير.
فكما ان دول الخليج صرفت عشرات البلايين لدعم العراق وتسليحه في حربه ضد ايران التي اعتبرت خطراً على أمن الخليج في حينه، فأن استثماراً سياسياً خليجياً بعدة بلايين فقط في مشاريع تنمية جنوب شرقي الأناضول، حيث الأرض الخصبة والمياه الوفيرة والأيدي العاملة الكثيرة، وحيث رفعت سورية من اعتراضها السياسي على مشروع الغاب للسدود والتنمية في المنطقة، يمكن ان يدعم الاستقرار في تركيا، مما يفسح في المجال امام أنقرة لتلعب دوراً ايجابياً اكبر في المنطقة بعد تأكدها من استقرار جبهتها الداخلية. وهذه الاستثمارات لن تذهب سدى، وأرباحها مضمونة لكن ليست سريعة، طالما ان العراق يبقى المستهلك الأهم والأكبر لمنتوجات مشاريع جنوب شرقي الاناضول الجار القريب منه، ليخفف العراق بذلك من اعتماده الكبير على المنتوجات الغذائية الإيرانية الرخيصة في حال دخول سوقه منتوجات غذائية منافسة آتية من تركيا.
طالما حاول الخليج تأمين استقراره من خلال القواعد العسكرية الصديقة وصفقات السلاح، لكن ذلك زاد سباق التسلح على طرفي الخليج ولم يحقق الاستقرار المنشود، سواء بسبب طموح بعض القيادات الايرانية غير الخفي أو بسبب سياسة التهويل والتخويف الأميركي في المنطقة، فهل هناك مجال، مع ما تشهد العلاقات التركية - العربية من تطور نوعي، أن يجرب الخليج الطرح التركي لتأمين الاستقرار، من خلال توازن قوى سياسي واقتصادي مفقود حالياً بسبب شيوع منطق التوازن العسكري دون سواه؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.