توج سواقو القطارات الألمان حركتهم المطلبية الطويلة، وتخللتها اضرابات عن العمل شلت سكة الحديد طوال يومين في تشرين الثاني نوفمبر 2007، بحصولهم على 11 في المئة زيادة أجور، في 13 كانون الثاني يناير العام الجاري. فعلق توماس هوبيلد، أحد قادة نقابة السواقين بهامبورغ، بقوله:"نحن مدركون اننا نكتب التاريخ". ويكاد القول هذا ألا يكون مبالغة. فالتقاليد النقابية الألمانية تقضي بالاعتدال في المطالب، وفي وسائل بلوغها، على حد سواء. ولم يراعِ سواقو القطارات الأمرين. ولكن الرأي العام الألماني، على خلاف نظيره الفرنسي في وقت أضرب فيه عمال النقل العام عن العمل في البلدين، لم ينكر على السواقين، إضرابهم، ولا مطالبتهم بزيادة غير معهودة على أجورهم. فكان موقفهم أقل تشدداً من موقف قادة اليسار المعتدل، السياسي والنقابي. فاليسار هذا خشي تشرذم الحركة المطلبية، وغلبة الحركات الفئوية والمهنية الضيقة على المفاوضات القطاعية والنقابية المشتركة. ولا ينكر اليسار"الراديكالي"مخاطر التشرذم الفئوي، ولكنه يؤيد المضربين وإحياءهم تقليداً عمالياً قوياً يقضي بالمدافعة عن المهنة والحرفة، ويتمسك بمراعاتها. ولعل تعاطف الرأي العام الألماني مع المضربين مرده الى دلالة حركتهم الرمزية. فأراد الرأي العام القول ان تضحياته طوال ال15 عاماً تفوق احتماله بعد اليوم. فاستئناف النمو الاقتصادي في 2007 لم يؤثر ايجاباً في المداخيل والرواتب. واعتياد العمال المؤهلين والأكفياء على أجور عالية أبطلته العولمة. فلم تنخفض الأجور وحسب، بل أدى نقل أجزاء من مرافق صناعية وشركات محلية الى الخارج، الى شيوع الأعمال الموقتة، ونجم عن تكاثر أشكال العمل المرن والجزئي والموقت، تآكل مفهوم المهنة وترديه. وعلى خلاف فكرة شائعة، انقلبت المانيا، قياساً على بلدان أوروبية أخرى، الى بلد منخفض الأجور، وكان الحلف الأحمر والأخضر، برئاسة شرودر البادئ بالإجراءات الأولى. وأتم التكتل الحاكم السياسة هذه. وفي تسعينات القرن الماضي زاد العمل الجزئي ضعفين. وعهد ببعض مهمات العمل الصناعي أو المكتبي في الشركات الكبيرة الى وكلاء خارج الشركات هذه. واضطلع عاملون مسرحون، شجعوا على انشاء شركات صغيرة، بأعمال كانوا يتولونها في شركاتهم السابقة، لقاء أجر أقل، وساعات عمل أكثر، وشروط أدنى من الشروط السابقة وأقسى. ومنذ الحرب الثانية نهض النموذج الاجتماعي الألماني على مفاوضات مهنية طرفاها اتحادات أصحاب العمل وهم قطب الطلب والاتحادات العمالية وهم قطب العرض. وتعمد اليوم شركات كثيرة الى الخروج من العقود الجماعية والقطاعية. والى النقابات القطاعية المنظمة، ظهرت روابط مهنية، مثل رابطة سواقي القطارات، تقود حركات مستقلة قد تثمر انتصاراً مثل انتصار السواقين، وعلى هذا، يشهد المجتمع الألماني تمزق النسيج الذي خلقه إجماعه، غداة الحرب الثانية، على المفاوضة والمساومة، وغلَّب عليه طبقة متوسطة عريضة ينتسب اليها 60 في المئة من الألمان. ولكن النازع الى الاستقطاب، على طرفي المجتمع، يضعف تماسك الطبقة المتوسطة، ويتهددها بالتصدع. ففي العام 2000، زاد متوسط دخل ال10 في المئة الأكثر ثراء 12 في المئة، قياساً على متوسط 1992، و31 في المئة، في 2006. وفي الأثناء، زاد متوسط ال10 في المئة الأدنى دخلاً 6 في المئة في العام 2000، وتردى 13 في المئة، في 2006، وعلى رغم تراجع البطالة تراجعاً جلياً في 2007، وزيادة النمو 2.6 في المئة، يذهب عامة الألمان الى أن انصاف نظامهم الاجتماعي يتقهقر. وأسهم الجمع بين تعويضات البطالة وبين المساعدة الاجتماعية ويعرف باسم"هارتز الرابع"، أحد كبار موظفي"فولكسفاغن" في إفقار شطر من الألمان. فبلغ عدد الأولاد المتحدرين من أسر فقيرة، أي تكسب أقل من نصف الدخل المتوسط، 2.5 مليونين ولد. ويناقش الألمان ما لم يسبق أن ناقشوه في الشطر الغربي من المانيا، أي اقرار حد أدنى للأجر. وتسخر المعارضة الليبرالية من نزعات اشتراكية، من نمط شرق الماني، تعاود بعض شركاء التكتل الحاكم. ولم تحل سخريتهم بين الديموقراطيين ? المسيحيين وبين اقرار حد أدنى للأجر للعاملين في البريد. واستعاد الاشتراكيون - الديموقراطيون الفكرة، وأيدوا مطلباً نقابياً بحد أدنى عام احتسب على أساس 7.5 يورو لساعة عمل، أي 1200 يورو في الشهر. ويعد وزير العمل، أولاف شولز، قانوناً يترجم الفكرة، بينما يعارضها أصحاب العمل، ويقترحون إحالتها الى المفاوضة الاجتماعية القطاعية. ويؤيد 75 في المئة من الألمان، بحسب استطلاع"دير شبيغل"الأسبوعية، القانون. عن دانيال فيرنيه، "لوموند" الفرنسية، 25/1/2008