تعبير الفصام في الفكر العربي المعاصر دار الفكر? دمشق - غريغوار مرشو ليس جديدا، الجديد فيه هو زجّ الباحث السوري جميع أنواع الفكر النهضوي العربي"من ماركسية وقومية وعروبية وإسلامية وإصلاحية، في قفص الاتهام والحكم عليها بالفصام. أهم أعراض هذا الفصام، وهو غير فصام سيد قطب النكد، هو النقل الفكري الميكانيكي من الآخر الغربي أو السوفياتي، وليس التفاعل معه واستقلابه مصطلح بيولوجي يعني عمليات الهدم والبناء في الجسم. ويقول إن النخب استأثرت بدعوى تعليم الشرق مناهج الغرب، واعترفت، اعتناقا أو انبهارا، بدور الغرب الريادي، وبضرورة استلحاق العرب بأوروبا المركز. يزعم الباحث أن الحداثة الآتية من الخارج استطاعت أن"تتوطن"في بعض المجتمعات المضيفة التي تشكلت فيها دول قومية مثل سورية ومصر ولبنان، وهو قول لا نوافق عليه إلا إذا كان يقصد بعض مظاهر الحداثة الخادعة في الفن والزي والطعام. ولا يتوقف الباحث عن نعت الدولة القومية بأشنع الصفات، أقلها أنها تتباهى بالاستتباع، وتستخدم العنف وحده طريقا للتغيير. قفزت هذه النخب إلى موقع المرشد دونما اعتبار للمواطنين الذي همشوا وعوملوا"كذريعة للنص". وتابعت عمل المستشرقين بالتنميط والشطب وإنتاج تعميمات وقوانين من جزئيات وتفاصيل وهوامش. ووقعت أسيرة"لعبة المرايا"وهي لعبة يقصد بها الباحث السير على الغرار الغربي، وترويض الشرق أو تنحيفه أو تسمينه ليناسب المقولات الغربية المحقونة في الفكر الشرقي، وفق إجراءات فوقية ارادوية، بخست الواقع العربي والثقافة الشعبية التي وصفتها"بالمستحاثة"، ، باسم كونية الثقافة اليونانية، وأولوية العقل على الإيمان. وحوّلت"مقولة قلد الغرب لتصبح أفضل"المعارف العربية إلى هوامش لاهوتية. كما بشّرت بالإقليمية في المجال الأدبي، وزرعت التفرقة العرقية، وشوّهت النصوص القرآنية، وفصلت الأدب عن المجتمعات بدعوى اللحاق بالتقليعات الحداثية، ووصمت اللغة العربية بالركود لصالح اللغات الغربية المبدعة، انطلاقا من منظورات تلفيقية واجتزائية أو انتقائية، وهو إجراء يتضمن استلابا واحتقارا للذات. أقالت النخبة، العقل العربي بجعله أسيرا للمماهاة مع المرآة الغربية، وقصرت وظيفته على استقبال وإعادة إنتاج مفاهيم جاهزة، وشغلته على تضليل الواقع وليس على تحليله تبعا لتاريخيته، فأقصت كل ما بدا لهم من خلال مراياهم المقعرة، دونياً. أهم مجلى لتخبطهم هو ظاهرة الاستعمار التي ابدوا تجاهها مواقف متباينة"من التبرير محمد عبده إلى ضرورة الاحتلال للارتقاء الحضاري لطفي السيد، سلامة موسى. مهما يكن فقد حطم هذا الفصام نمط الفكر التقليدي لكن من دون أن ينتج فكرا يلحم الماضي بالحاضر وينمو به ومعه، زاد الفكر ضلالا تغييبه العدالة والحرية، الأمر الذي اضطر الحركات الخلاصية الدينية المعارضة للحداثة العربية الانقلابية العلمانية الملحدة، العمل تحت الأرض. اتهمت الحداثة العربية الشعوب بتعطيل التجربة الحداثية، ووصمتها بعبادة الكلمة، واتهمت أديانها خاصة الإسلام وضمنا المسيحية بالبدائية والتخلف والرجعية واللاعقلانية بدءا من تجربة أتاتورك التي قلدها محمد علي باشا صاحب مقولة"كل ما هو حضاري من الخارج وكل ما هو متخلف من الداخل"، وبنى دولة ملوثة بكل أدواء الاستعمار غزو سورية والسودان، الديكتاتورية، ضرب الزراعة لصالح صناعة طارئة... ولم تكن الاشتراكية البعثية الداعية إلى حرق المراحل والاشتراكية الناصرية التي عولت على الجيش بأفضل، فحرقت نفسها وحرقت شعبها. يعزو الباحث أهم أسباب الفشل الحداثي، إلى نكران النخبة للتعدد والاختلاف ، فتفاقم الشرخ بين النخبة التي اتهمت المجتمع بالوعي المزيف، اللاعقلانية، الظلامية، الانحطاط... والمجتمع الذي ردّ بوصمهم بأذيال الاستعمار. يقول الكاتب إن العقل العربي الحداثوي الأمي" الأداتي"أنجز مكتبة من اللغو الخطابي حول العقلانية والعلمية مؤخِرا المراجعة الضرورية لفائض الأفكار الجاهزة، ومدشنا الروح القبلية والعرقية والطائفية بين السكان، دافعا بغلوه إلى استيلاد جماعات تكفيرية تثأر من الواقع لإنقاذه من جاهليته، هذه الجماعات انخرطت بدورها في لعبة المرايا من دون أن تدري، مقسمة المجتمع إلى فسطاطين، كما قسمها الأميركيون إلى محور خير ومحور شر. يضع الكاتب خطابات أهم النهضويين العرب تحت العدسة"الأفغاني عاشق الشرق المفتون بالغرب الذي وقع في لعبة الإسقاط المتبادل مع الغرب ومحمد عبده مدشن العلمانية الإسلامية ومؤول الإسلام بطريقة علمية غربية، المأسور لاتهامات الغرب إلى درجة تأويل القرآن بما يناسب فكرهم وتلميذه رشيد رضا الذي تحول إماما للجماعات الأصولية الحالية، والكواكبي الذي اسقط إسلام الخلفاء الأوائل على العلمانية الغربية، ومصطفى السباعي الذي قال باشتراكية الإسلام، وإسعاف النشاشيبي الذي كرر مقولة ادغار كينيه الاستشراقية من الشرق الأنبياء ومن الغرب العلماء بمفردات جديدة قلب عربي وعقل أوروبي. ومن الإصلاحيين العلمانيين: بطرس سليم البستاني وناصيف اليازجي وجرجي زيدان وطه حسين الذين زعزعوا ثقة العرب بتراثهم وبخسوه، وفرانسيس المراش ورزق الله حسون الذين فتنوا بالثورة الفرنسية واتهموا الشرق بالانحطاط، وفرح انطون الذي اتهم الدين بأصل اللامساواة. ومن النهضويين العرقيين المنادين بالمصرية توفيق الحكيم ولطفي السيد ولويس عوض، وطه حسين ورينيه حبشي وانطون سعادة المنادين بالمتوسطية المستغربة. يسخر الكاتب كثيرا من أطروحة الصراف اللبناني الماروني ميشال شيحا الفينيقية، ويصف أطروحة"سيكولوجية الفينيقيين"بالهذيانية، ويهجو نظريات منير شمعون حول"النموذج السلالي اللبناني"ومثلها دعوات جوزيف مونس وفرج الله حايك وكمال الحاج وشارل قرم وسعيد عقل وشارل مالك المتفاخرة بسويسرا الشرق و"الوردة بين العليق الشرقي"الإسلامي المعادي. ومن النهضويين القوميين العرب: ادمون رباط صاحب نظرية الأصل واللغة القومية التي انتهت بساطع الحصري إلى اللغة وحدها، وقسطنطين زريق الذي اعتبر التغريب طريقا وحيدا للخلاص! والقومي مطاع صفدي المبشر بالمستبد العادل. أما نموذج الخطاب الماركسي فنجده عند زكي نجيب محمود التلفيقي ومهدي عامل الاشتراكي المنادي بالقطيعة مع البورجوازية العربية وعبد الله العروي أمير الانتجلنسيا العربية الذي بشر بالماركسية الموضوعية للوصول الى اللوغوس و الخلاص من الانحطاط. * كاتب سوري مقيم في السويد