19 شهراً من اعتزال فيديل كاسترو الموقت للحكم، ربما تساعد "النظام" على اختبار قدرة البراغماتي والمتشدد راوول في الحكم منفرداً وبأفكار شخصية، وتمكنه من تسيير الأمور من دون العودة الى القائد في كل شاردة وواردة. هل إن كاسترو ترك فعلاً كوبا لشقيقه ورفاقهما؟ هل صار في إمكاننا أن القول إن الكاستروية ستنتهي لتبدأ الراوولية وهي نهج مختلف، أو أن راوول، الذي لا يحبه الكوبيون، سيبقى ممسكاً بالجيش ليتولى أمانة الحزب أحد الذين كان يعنيهم فيديل حين قال في رسالته الأخيرة إن هنالك من هو مدرب وقدير بين أولئك الذين كانوا شباباً أو أطفالاً لدى التحاقهم بالثورة. أي انه أشار الى وجود رفاق، أمناء لنهجه، من أجيال مختلفة، وهذا ما دفعه الى البقاء في مركز شرفي يخوله تقديم النصائح، فقد قال: أنا لا أريد التمسك بمنصب أو إقفال الباب أمام الشباب بل الاستمرار في العطاء وتقديم الخبرات والأفكار نظراً للمرحلة الفريدة التي فُرض عليّ أن أعيشها. وقال إنه لا يودّع شعبه بل انه سيكون حذراً وسيبقى الى جانب رفاقه"جندي أفكار". وهذا يحرم الإدارة الأميركية والمعارضة الكوبية المقيمة في"ميامي"من الاحتفال بغياب"الكوماندانتي"، لأن فيديل هو من يقرر التعاقد. يقول راوول إن وريث فيديل الحقيقي هو الحزب، ولكن منذ 10 سنوات لم يعقد الحزب مؤتمره الشعبي. وفي الرابع والعشرين من الشهر الجاري انتخب مجلس نيابي جديد وتمت تعيينات في مواقع الإدارة. وبتنازل فيديل عن الحكم وتسلم شقيقه السلطة، وعلى رغم نصائح فيديل كاسترو صار في إمكان الحكومة أن تطالب الولاياتالمتحدة برفع العقوبات والحصار والاعتراف باستقلال كوبا. لكن رفع الحصار الخارجي إذا أنجز يلغي أيضاً تبرير الحصار الداخلي، ويسهل"الاستقلال الثالث"للكوبيين بعد معركتهم مع الإسبان وخوضهم معركة الثورة منذ عام 1959. لكنه هذه المرة، استقلال مرفق بإصلاحات تتم على جرعات تحتوي على كميات قليلة من"عقاقير الديموقراطية"لئلا يرفضها جسم المجتمع الكوبي المقيم. مهمة أخرى تنتظر خليفة فيديل هي لمّ شمل"المجتمعات"الكوبية، فكوبا لا تتشكل من مجتمعين فقط المعارضة المقيمة في الولاياتالمتحدة والموالاة في داخل البلاد، بل هنالك معارضة مهمة داخل كوبا ترفض الارتماء في أحضان الأميركيين ولها رأي في"شكل كوبا في المستقبل". قبل تخلي فيديل عن مقاليد السلطة قدم راوول للاتحاد الأوروبي وإسبانيا هدية بإطلاق سراح أربعة سجناء سياسيين من أصل مئات القابعين في سجون البلاد. وإذا كان النظام الكوبي جدياً في الشروع بالإصلاحات وطي صفحة الماضي لبدء مرحلة جديدة مع راوول، فإن الدستور يخول الجمعية الوطنية للسلطة الشعبية العفو عن السجناء السياسيين. الأوراق كلها في حوزة راوول، ولكن لا يمكن أحداً أن يصدق أن كوبا كاسترو ستبقى كما هي من دون فيديل والجميع ينتظر المفاجآت. كان فيديل يعوض الفقر الأيديولوجي لشيوعية كوبا، بغزارة أفكاره وقوة شخصيته ونشاطه وتفوقه وبراعته في إخفاء القسوة التي تكمن في شخصية كل ديكتاتور. فهو في وضعه المرضي الحالي، لو لم يعلن تخليه عن الرئاسة، لكان المعارضون قالوا ان الاستمرارية التي يضمرها وربما سيحققها جاءت من دون إصلاحات. وإذا تمكن من تنفيذ هذه الاستمرارية في المرحلة المقبلة، بعد تلميعها، فإنها ستأخذ طابع الإصلاح مهما كانت جرعة الديموقراطية فيها ضعيفة، وسيتم اعتبارها بدءاً للمرحلة الانتقالية. وقد يتمكن عامل ثالث من دخول هذه اللعبة وهو إمكان انضمام السياسة الأميركية الى المؤثرين في التغيير بتخفيفها المعاناة عن الشعب الكوبي ورفعها الحصار. أما فيديل كاسترو فربما سيقلد عمر تورريخوس في باناما ودينغ تشياو بينغ في الصين اللذين لم يغادرا"زعامة الثورة"على رغم تخليهما عن السلطة. المشهد في كوبا اليوم يشير الى أن البلاد ممسوكة بالترتيب من ثلاثة رجال ينتمون الى ثلاثة أجيال، أحدهم راوول ? 76 سنة على رأس السلطة التي يشرف عليها الكوماندانتي من بعيد، والثاني كارلوس لاخي 56 سنة، والثالث وزير الخارجية الشاب المتشدد فيليبي بيريث روكي 42 سنة. وفي داخل الحزب الشيوعي أربعة تيارات: الأول يرغب في تقليد ما حصل في الصين وفيتنام، أي استمرار الأفكار الكاستروية مع جذب الاستثمارات الأجنبية. والثاني يوافق على تشريع المعارضة مع التفكير بإلغائها بانتخابات كما حصل في فنزويلا. والثالث يقول باستمرار النضال بالأفكار نفسها ضد أعداء الثورة. أما الرابع فهو راديكالي يطالب بعولمة الثورة الاشتراكية. ويشير البعض الى أن أفكار راوول، الذي يرون فيه"غورباتشوف كوبا"تتطابق مع"لاخي"في التيار الأول. أما وزير الخارجية فهو من التيار الثالث. وللكوماندانتي دور في كل واحد من هذه التيارات. وفي الوقت الذي نجد فيه قادة العسكر من جيل راوول وفيديل، فإن الأيديولوجيين قسمان وجيلان، يقود الأول أمين سر القائد، الشاب كارلوس فالنسياغا والثاني رفيق دربه خوان رامون ماتشادو. اشتراكية كوبا وثورة فيديل تحولتا منذ سنوات الى ديكتاتورية كبقية الديكتاتوريات من حيث انتهاك حقوق الإنسان وكبت الحريات وسجن المثقفين وأصحاب الرأي المعارض لمبادئ استمرارية الديكتاتورية وأفكارها. الأمور لن تتغير في كوبا بالسرعة التي يطالب بها الغرب، ويبدو أن هذه المرحلة الطويلة التي يعاني منها الكوبيون تنتهي في ثلاث مراحل: الأولى بدأت منذ 18 شهراً عندما سلّم فيديل السلطة في شكل موقت لشقيقه. والثانية ستبدأ مع راوول الذي خلف أخاه. أما المرحلة الثالثة فستبدأ فعلاً عندما يفارق فيديل الحياة. وربما لن يتم الانتظار طويلاً لأن رسالته الأخيرة تضمنت ما هو أشبه بوصية لحليفه هوغو تشافيز، أكثر منها نصيحة حيث قال:"ربما سيُسمع صوتي: لكوبا علاقات مع دول يمينية ويسارية على حد سواء". وربما ستنشأ في كوبا قيادة جديدة تبحث عن مشروع جديد، فكاسترو كان يجمع في شخصه رئاسة البلاد وأمانة الحزب وقيادة القوات المسلحة. وربما سيتم اختيار ثلاثة أشخاص لهذه المناصب، بينهم شاب متشدد ومخلص للثورة.