لم يكن الخبر على الصفحة الأولى من صحيفة "غرانما" الناطقة باسم الحزب الشيوعي الكوبي صباح أمس نعياً للرئيس فيديل كاسترو، لكنه كان أقرب ما يكون الى ذلك. إذ اعلن أقدم زعيم في العالم بنفسه طي صفحة طويلة من حياته ومن تاريخ بلده. راجع ص10 لنصف قرن واجه كاسترو كل الأعاصير من الداخل والخارج، وخصوصاً من ذلك الخارج على مسافة 150 كيلومتراً من الشاطئ الكوبي. ونجا من محاولات اغتيال عديدة دبرتها ال"سي. آي. اي"، واستطاع البقاء حيث عجز آخرون من حلفاء الشيوعية او خصومها. لا الاتحاد السوفياتي صمد بعد رحيل ليونيد بريجنيف، ولا الصين بعد ماو بقيت على حالها. كي لا نذكر الماريشال تيتو وعبدالناصر وياسر عرفات وما حل ب"ثوراتهم"من بعدهم. اما"الرفاق"السابقون في اوروبا الشرقية الذين كانت الثورة الكوبية حلماً لهم وملاذاً، فصاروا الآن يطرقون أبواب الاتحاد الاوروبي، وريث الأنظمة التي كانوا يحاربونها. يوم امس كان احد الأيام التاريخية بالنسبة الى كوبا، وإلى ما كانت ترمز اليه ثورتها ذات يوم. لم يكن ممكناً تصور خروج فيديل كاسترو من التاريخ بأي طريقة اخرى. رجل مثل كاسترو لا يمكنه إلا أن يعلن خروجه بنفسه. لقد استطاع ان"يهزم"عشرة رؤساء اميركيين من دوايت ايزنهاور الى جورج بوش الابن، لمجرد انه بقي في هافانا على رأس الثورة التي عبّر عن التزامه المطلق بها ذات يوم بشعاره الشهير:"الاشتراكية او الموت". لكنه لم يستطع في النهاية ان يقاوم"هزيمته"أمام المرض رغم اعترافه في كلمته امس ان هذه المعركة الصحية التي يخوضها هي جزء من معركته مع الولاياتالمتحدة التي يصفها ب"الخصم الذي فعل كل شيء ليتخلص مني ولذلك كنت متردداً في التجاوب مع رغبته". قليلون يذكرون الآن ان الولاياتالمتحدة كانت الدولة الاولى التي اعترفت بالثورة الكوبية. لكن ذلك الاعتراف تحوّل الى عداء كامل نتيجة الاسلوب القمعي الذي اعتمده كاسترو في التعامل مع الذين اعتقلهم من انصار الدكتاتور المخلوع باتيستا، ثم بأسره اكثر من ألف جندي اميركي خلال أزمة"خليج الخنازير"، وهو ما دفع واشنطن الى فرض حصار عليه لا يزال قائماً، وكاد ينحدر الى حرب عالمية بين جون كينيدي ونيكيتا خروتشوف بسبب أزمة الصواريخ الكوبية قبل ان يوافق الزعيم السوفياتي على سحبها وانقاذ العالم من كارثة نووية. علامات استفهام كثيرة تحيط بمصير النظام الذي يتركه فيديل كاسترو وراءه في هافانا. صحيح ان شقيقه راوول هو الذي سيصبح رئيساً فعلياً نهار الأحد المقبل، بعدما شغل المنصب بالوكالة منذ تموز يوليو 2006. لكن مصير الاشتراكية بات مطروحاً في بلد هزمه الوضع الاقتصادي والجمود السياسي، وأصبح الطموح فيه الى مستوى افضل من العيش يسابق الأحلام الوردية التي زرعها تشي غيفارا ورفيق دربه فيديل كاسترو مطلع العام 1959. لذلك يعد الاعتراف المهم الذي اعلن عنه كاسترو انه كان متردداً في التخلي عن موقعه اكثر الاعترافات صراحة، لأنه يعبر عن قلقه على مصير كوبا من بعده، ولو كانت في عهدة شقيقه. لعل كاسترو يعرف شيئاً عن هذا المصير غير الذي تعرفه المعارضة الكوبية المتمركزة في فلوريدا، والتي اعتبرت المرحلة الجديدة في بلدها مجرد استكمال للماضي. لعله ايضاً يتابع بقلق الخطوات الخجولة التي قام بها راوول في الفترة الماضية واعترافه بأهمية اجراء"تغييرات بنوية"في الوضع الاقتصادي. قد يغيب ظل فيديل كاسترو عن الحياة اليومية للكوبيين لكنهم لن ينسوه بسهولة. ليس فقط لأن كوبا ستكون بلداً آخر من دونه، ولا لأن تسعين في المئة منهم لم يعرفوا زعيماً سواه. بل لأن"الرفيق فيديل"سيظل يطل من خلال"غرانما"التي اعلن فيها"نعيه"لينشر افكاره التي ستبقى"سلاحاً يعتمدون عليه"كما وعدهم بالأمس.