كثيرة هي الأسباب التي تجعل من رواية الكاتب المغربي الفرنكوفوني الطاهر بنجلون التي صدرت حديثاً لدى دار"غاليمار"في عنوان"عن أمي"، رواية مهمة وفريدة. فإلى جانب تطويره فيها المهارات الكتابية والسردية التي عوّدنا عليها في رواياته السابقة، ينطلق الكاتب، وللمرة الأولى، من موضوعٍ جد شخصي، قصة والدته، لمعالجة موضوعات مختلفة، مثل مميّزات الأمومة في شرقنا مقارنةً بالأمومة في الغرب، مشاكل الشيخوخة وفي مقدمها مرض"ألزهايمر"، طبيعة العادات والتقاليد التي تتحكّم بعلاقة الإنسان الشرقي بوالديه... وذلك من دون أن تفقد الرواية صفتها الأولى كتحيّة لوالدة بنجلون، ومن خلالها لمعظم الأمّهات في شرقنا. وفي معرض تقديمه النص المؤثّر الذي يقع في 270 صفحة، يقول بنجلون:"الذاكرة الخائنة لأمي أعادتها، خلال الأشهر الأخيرة من حياتها، إلى طفولتها. وبعودتها فجأةً طفلة، ثم فتاة صغيرة زُوِّجت بسرعة، بدأت بمحادثتي وبالبوح إليّ، مستحضرةً الأموات والأحياء. غالباً ما يلف الحب البنوي filial خجلٌ وصمتٌ. وبرواية ماضيها، تحرّرت أمي من حياةٍ نادراً ما عرفت فيها السعادة. وخلال أيامٍ كاملة، استمعتُ إليها وتابعتُ كلامها المُشوَّش وتألّمتُ، وفي الوقت ذاته، اكتشفتها. وانطلاقاً من الذكريات المهشّمة التي أسرّت لي بها، كتبتُ هذه الرواية. ذكرياتٌ سمحت لي بإعادة تشكيل حياتها في مدينة فاس خلال فترة الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وبتخيّل لحظاتها السعيدة وخيباتها."عن أمي"هي رواية حقيقية لأنها قصة حياةٍ كنتُ أجهل معظم تفاصيلها". منذ السطور الأولى، يضع بنجلون الإطار العام لروايته:"منذ مرضها وأمي مسمَّرة في سريرها بذاكرةٍ متذبذبة. تستدعي أفراد عائلتها الذين توفّوا قبل زمنٍ طويل وتحدّثهم، فتُفاجأ لعدم زيارة أمّها لها، وتمدح أخاها الصغير الذي يجلب لها الهدايا عند كل زيارة". وعن أمّه في تلك الفترة، نعرف بسرعة أنها لم تعد قادرة على التمييز بين أولادها، ولكن أيضاً بين الحقب والأماكن. كل شيء يختلط عليها. الزمن لم يعد يتّفق داخلها مع الواقع. فمنذ أن غيّرت غرفتها وهي مقتنعة بأنها انتقلت إلى منزلٍ آخر في مدينةٍ أخرى. متزوّجة في الخامسة عشرة من عمرها، أرملة في السادسة عشرة، أعيد تزويجها مرّتين من دون أن يكون لها رأيٌ في ذلك. وطوال حياتها، اشتغلت وتعبت في الطبخ والغسيل والتنظيف داخل منزلها الذي لم يكن يتوافر فيه آنذاك لا البرّاد ولا الغسّالة ولا الهاتف ولا حتى الماء من الحنفية. أمّية، لكن غير جاهلة، يصف بنجلون برقّة مؤثّرة قناعاتها الدينية المتسامحة وقيمها وتقاليدها الجميلة. وفعلاً، لا تبدو أمّه داخل الرواية كامرأة متصوّفة في إيمانها، وإن كانت تحتفل بالأشياء البسيطة وبالقيَم الجوهرية ضمن نزعةٍ نبيلة إلى التضحية بالذات من أجل راحة وسعادة زوجها وأولادها الأربعة. وبخلاف أبيه الفوضوي والمشاغِب لكرهه الخبث الاجتماعي والديني، تمتّعت أمّه بحسٍّ ديبلوماسي عال وأمضت وقتاً طويلاً في حل المشاكل التي كان يسببها لسان زوجها. لذلك كانت محبوبة ومحترَمة لدى الجميع. الهاجس الوحيد الذي لاحقها بعد وفاة زوجها أن تفقد منزلها وتُضطر إلى التنقّل من مدينةٍ إلى أخرى كعبءٍ على أولادها وزوجاتهم. وهمّها الأكبر أن يكون منزلها نظيفاً ومرتّباً يوم جنازتها وأن يتمتّع الحاضرون بمأدبةٍ تليق بها وبمهارات يديها في الطبخ. لذلك نراها مراراً تحضّر بدقةٍ كبيرة تفاصيل مأتمها مع أولادها. أما أمنيتها الأغلى على قلبها فهي أن تكون محاطة بجميع أولادها حين تلفظ أنفاسها الأخيرة وألا يتألم هؤلاء كثيراً لدى وفاتها. ولعل أكثر ما يشدّنا في هذه الرواية الحقيقية هو تفهّم بنجلون لأمّه وسهره عليها طوال الفترة الأخيرة من مرضها. ومن المؤكّد أن كونه الابن الأخير والأغلى على قلبها يفسّر علاقته الخاصة بها ورغبته في مواكبتها حتى مثواها الأخير. لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فداخل عملية السرد، تظهر تدريجاً الظروف المؤلمة التي يعيش فيها المصاب بمرض"ألزهايمر"والمقرّبون منه، وبالتالي صعوبة تلك المرحلة التي عاشها بنجلون مرّتين: أثناء مرض أمّه، وأثناء كتابته عنها. وفي هذا السياق، تشكّل الرواية شهادةً دقيقة ومُعاشة حول ذلك المرض ودعوةً الى الغوص مباشرةً داخل عوارضه، أي تصدُّع الذاكرة واختلاط الأزمنة والأمكنة بعضها ببعض وفقدان السيطرة تدريجاً على الجسد وحاجاته. ولهذه الغاية، جعل الكاتب من أمّه الراوية الثانية داخل نصّه، إلى جانبه، راوية مريضة تتجلى عوارض مرضها في كلامها الكثير والمكرَّر عمداً على طول النص. وعلى صعيدٍ آخر، تمنح الرواية بنجلون الفرصة أيضاً للتعبير عن ندمه على لوم أمّه مراراً، وهي حيّة، على عاطفتها الجيّاشة تجاهه، وعن ألمه لبُخله عليها، حين كانت الفرصة سانحة، بكلماتٍ رقيقة وحنون تعكس عرفانه بجميلها. وفي مناسبات عدة، ومن دون أن يخرج من موضوعه الرئيس، نجده يقارب موضوعات أخرى مثيرة، في سياق قصة أمّه، كثقافة الحمّام الشعبي في المغرب الذي تعثر الأمّهات فيه على الزوجات المناسبات لأبنائهن وتتم داخله طقوس غسل العروس وتهيئتها قبل ليلة زفافها، والخلوات النسائية التي يتخللها غناءٌ ورقصٌ وتسامرٌ حول أمور الحب... وكما في رواياته السابقة، لا يمتنع بنجلون في هذه الرواية من انتقاد عددٍ من المسائل التي تؤلمه في بلده، كالظروف التي يتم فيها إلى اليوم تزويج بناتٍ قاصرات تخضعن باسم التقليد كلياً لإرادة أولياء أمرهن، فلا ترَين أحياناً أزواجهن إلا في ليلة العرس حيث ينتقل خضوعهن إلى هؤلاء الآخرين، وقسوة الشرطة أثناء"السنوات السود"وتنكيلها حتى بالمعارضة التي لم تكن تؤمن بالعنف كحل، أي المعارضة الفكرية، ووضع المستشفيات التعيس الذي يدفع بالكاتب إلى"تفضيل مستشفى بتجهيزاتٍ وإدارة جيدة على برلمانٍ مخصّص للمماحكة". ولا يسلم من انتقاده الغرب الغارق، في نظره، في أنانيته الناعمة البال، حيث يتم سلخ المسنّين عن ديارهم لإنزالهم في مستشفياتٍ ومراكز مخصّصة لهم، بخلاف الشرق الذي"نتعلم فيه احترام الوالدَين في شكلٍ شبه ديني والخضوع لمشيئتهما"حتى وفاتهما. وبدلاً من انتقاد هذا الخضوع غير المقبول في الغرب، يرى بنجلون فيه تقليداً مطمئناً، كما لا يعتبر الطابع المزعج والخانق أحياناً لعاطفة الوالدين عذراً كافياً للتقليل من احترامنا لهما:"إنها ميزة الحب البنوي، أي ذلك الرابط الذي لا يقبل أي محاسبة. نعيشه كنعمةٍ من الحياة ونفعل أي شيء لنكون جديرين به". العربي الأشهر في فرنسا في 31 كانون الثاني يناير الماضي قلّد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في قصر الإليزيه الطاهر بنجلون وسام جوقة الشرف تقديراً لإنجازاته الأدبية. وبنجلون هو، في المقاييس كافة، الأشهر بين العرب الذين يكتبون بالفرنسية، وربما الى جانب الجزائرية آسيا جبار واللبناني أمين معلوف. وأدب بنجلون، الروائي - وكذلك نثره غير الروائي الذي غالباً ما يتخذ سمات دراسات سيكولوجية جماعية - ينتشر في فرنسا وغيرها من البلدان الناطقة بالفرنسية، منذ نحو ربع قرن، يندر ألا يدخل كتاب له قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. ووصل الاهتمام بأدب بنجلون الى ذروته أواسط ثمانينات القرن العشرين حين أصدر الروايتين المتكاملتين"ابن الرمل"وپ"الليلة المقدسة"حائزاً على ثانيتهما جائزة غونكور وهي أرفع جائزة أدبية في فرنسا. ولد بنجلون سنة 1944 في فاس، وإن كانت أصوله تعود الى ضواحي طنجة، وهو درس في تطوان ثم في الدار البيضاء ليعيش بعد ذلك ويعمل ويكتب في باريس، بعد نيله دكتوراه في علم النفس، ما جعله يدرس حالات المهاجرين المغاربة، ومكنه ذلك من وضع كتب حول هذه الحالات، وحول العنصرية التي يتعرض لها المهاجرون. ويبدو هذا الاهتمام واضحاً في كتبه الروائية أيضاً، حيث انه بعد كتاب"نضالي"عنوانه"أعلى درجات العزلة"1976 راح يصدر رواية بعد أخرى. ومن أبرز أعماله"يوم صمت في طنجة"وپ"الرجل الفاسد"وپ"غياب النور الباهر"وپ"نزل الفقراء". ونال بنجلون عام 2004 جائزة"امباك"أرفع جائزة أدبية في إرلندا عن روايته"غياب النور الباهر".