رواية "الصديق الأخير" للكاتب المغربي - الفرنسي الطاهر بن جلون بالفرنسية، دار سوي، باريس 2004 يسردها رواة ثلاثة هم في الوقت نفسه ثلاث شخصيات رئيسة وخصوصاً علي و"مامد"، وهذا الاسم تلطيف لاسم محمد على الطريقة الفرنسية. وسيكون "مامد" هو "الصديق الأخير" في نظر علي، لا سيما بعد أن يقرأ علي رسالته الأخيرة التي كتبها خلال احتضاره الطويل وأصر على أن يقرأها علي بُعيد رحيله. ثلاث شخصيات إذاً تروي حكاية هذه الصداقة، كل من وجهة نظرها الخاصة. وإن كان صديق المراهقة رامون، اسبانياً فهو لن يلبث أن يعتنق الإسلام ويصير اسمه عبدالرحيم ويتزوج من مغربية. وستكون الرواية التي يسردها في الفصل الذي يحمل اسمه رامون أشبه بشهادة حميمة عن الصداقة المتينة التي جمعت بين علي و"مامد" يصرّ علي وبقية الشخصيات على تسميته بهذا الاسم وكذلك عن الأوقات الأخيرة التي عاشها "مامد" محتضراً في بيت أهله، راقداً في سرير أمّه الميتة والتي استدعاها مراراً عندما علم بمرضه الفتاك سرطان الرئة ووجد نفسه يبكي وكله حنين الى أمه والى البكاء على قبرها. أما الرواية التي يسردها علي عن هذه "الصداقة" شبه الاسطورية فلا تختلف كثيراً عن الرواية التي يسردها "مامد" على رغم بعض الاضافات المتعلقة ب"اللعبة" التي شاء "مامد" أن يلعبها باتقان موهماً علي بأن صداقتهما التي دامت ثلاثين سنة انتهت ب"الخيانة". هذه "الخيانة" لن يدرك علي معناها إلا بعد وفاة "مامد" وتركه الرسالة له وفيها يعتذر عن هذه "اللعبة" السلبية التي أدت الى كسر العلاقة بينهما في المرحلة الأخيرة، أي بعدما علم "مامد" بأنه مريض وأن مرضه لا براء منه. أما القارئ فيعلم بسر هذه اللعبة في رواية "مامد" نفسه وهي بمثابة الفصل الثاني من الرواية. لا تقوم التقنية التي اعتمدها الطاهر بن جلّون على فن الرواية داخل الرواية حتى وإن جعل الصديقين - خصوصاً - يرويان قصة صداقتهما الواحدة. فالسرد هنا لا يتداخل ولا الشخصيات كذلك، وفعل القصّ يتم عبر وجهتي نظر، هما متقاربتان ومتوازيتان ومتتاليتان في الحين عينه. فما قاله علي عن الصداقة و"الصديق الأخير"، لن ينفيه أو يناقضه "مامد" في ما قاله عن هذه الصداقة نفسها وعن علي. ولو لم يكشف سر "اللعبة" التي أدّاها ليبعد صديقه الأثير عن لحظات احتضاره لما أتت هذه الرواية الفصل الثاني بأي جديد. وهنا لا بد من طرح سؤال: ما الغاية التي سعى اليها بن جلون في جعله الصديقين يرويان القصة نفسها؟ ألم يكن أحرى بالروايتين ان تكونا مختلفتين حتى تتمكنا من كسر التكرار الذي اعترى الرواية الثانية، أو أن تبدأ الثانية من حيث انتهت الأولى؟ خصوصاً ان الشخصيات هي نفسها وكذلك التفاصيل و"الوقائع" و"المرويات". يطغى في الروايتين "صوت" الكاتب الذي وحّد بين الشخصيتين وجعلهما كأنهما شخصية واحدة هي شخصيته ككاتب. فالاسلوب المعتمد هو نفسه دمج الحوار في نسيج السرد، النفحة الشعرية، المقاربة السردية... واللغة هي نفسها والتعبير هو نفسه أيضاً. ويمكن بسهولة دمج مقاطع من الروايتين بعضها ببعض من غير ان يحصل اي خلل. ولم تخلُ الروايتان من التطويل حيناً ومن القطع الفوري والانتقال الى موضوع آخر أحياناً. وهذان العنصران المتناقضان يدلان على خلل أيضاً في نسج الجمل. ناهيك بالانشائية التي تضعف فعل السرد وتغرقه في المبالغة وإن كانت جميلة. عندما التقى علي ثريا - التي ستصبح زوجته لاحقاً - يضخّم علي أو الكاتب أثر هذا اللقاء قائلاً: "حينما التقيت ثريا، حلّت بي صعقة الحب، الأرض اهتزت قليلاً، عاصفة هبت في القلب، جرْفٌ من نجوم ونور...". هذا الحب "الرهيب" سرعان ما سيخونه علي بعد زواجه ولكن سراً وستكون عشيقته أندلسية، نهمة جنسياً. إنها قصة هذين الصديقين، تبدأ في صفوف الدراسة الثانوية في طنجة وتنتهي أيضاً في طنجة أو بالأحرى ينهيها موت "مامد" ويحوّلها الى صداقة روحية. وإن كان علي و"مامد" هما الشخصيتان الرئيستان، فإن مدينة طنجة تبدو بطلة الرواية. طنجة "مدينة القرن العشرين" كما يسميها علي، هو الغريب القادم اليها من فاس. طنجة حيث يدور الكلام حول حرب الجزائر والكولونيالية والعنصرية، طنجة النساء الفرنسيات والحانات، طنجة "الجذابة"، مدينة "اللقاء الغامض، القلق والسرّي"، مدينة "الحكاية التي تخفي حكايات أخرى، طنجة ألن غينسبرغ وبول باولز وتينسي وليامز وجان جينه وفرنسيس بيكون، طنجة حشيشة الكيف والمواخير والعاهرات والثقافة والنضال الوطني والفرنكوفونية... لكنها ليست طنجة محمد شكري، هذا الكاتب الذي صرف حياته لها، كاتباً عنها ما لم يستطع حتى بن جلون نفسه أن يكتبه عنها. وليت أحد الصديقين ذكر محمد شكري كتحية له من الكاتب نفسه. ينتهز بن جلون "غربة" علي عن طنجة ليتكلم على الشخصية "الفاسية" على لسان علي و"مامد". كأن يقول الأخير ان أهل فاس لم يكونوا محبوبين في طنجة وكانوا يشبهون اليهود. ويقول ان نصف أهل فاس أصلهم يهودي وإن لهم "ميزات اليهود نفسها". ويجاهر صديقه علي قائلاً: "انظر، كم لك من حظ. أنت يهودي من دون أن تعتمر الكيبا، ولك عقليتهم وذكاؤهم فيما أنت في الحقيقة مسلم مثلي". أما اللافت فقوله ان كل اسم عائلي يبدأ ب"بن" هو يهودي الأصل. ولا يدري القارئ هل يبالغ بن جلون هنا ليجعل نفسه ذا أصل يهودي أم انه مجرّد لعب فانتازي! وإلا فمن المستحيل نسب مثل هذا الاسم الذي يبدأ ب"بن" الى الأصل اليهودي. والانفتاح على اليهود يتجلى في الرواية أيضاً على لسان والد "مامد"، المؤرّخ والمؤمن، فهو يعتبر "ان أجدادنا، اليهود والمسلمين، المبعدين عن اسبانيا على يد إيزابيلا الكاثوليكية، وجدوا ملجأ في فاس". مثل هذا الكلام يدل على الغاية التي يرمي بن جلون اليها وهي رسم صورة تاريخية عن التعايش اليهودي - المسلم في المغرب، مما يجعله واحداً من دعاة السلام والحوار الحضاري. وثمة شخصية يهودية أخرى يتعرّف اليها علي و"مامد" في السجن، عندما زجّ بهما فيه تبعاً لتهم يسارية وهما شبه براء منها، فيمضيان فيه نحو ثمانية عشر شهراً وأربعة عشر يوماً. هذا اليهودي يدعى مارسيل وقد سجن من غير أن يعرف السبب وعندما يحلّ رمضان يحاول أن يصوم قائلاً: "انني مثل الآخرين، ولو لم أكن مسلماً. سأصوم رمضان". لكن آمر السجن يقول له: "مغربي، نعم، ولكن مسلم، لا! أنت يهودي، إذاً تصرّف كيهودي". كان علي و"مامد" انفصلا مدة غير قصيرة بعد نهاية الصف الثانوي. "مامد" سافر الى نانسي في فرنسا ليدرس الطب وعلي سافر الى كندا ليدرس السينما. وعندما عادا في صيف 1966 الى طنجة أوقفتهما الشرطة ثم التقيا في سجن واحد. جو السجن ليس غريباً عن بن جلون وقد بلغ ذروته في كتابه البديع "الغياب المعمي للضوء" 2001 الذي اتهم بنقل وقائعه عن كاتب مغربي عاش تجربة سجن "تزمامرت" الشهير في المغرب. هكذا يبدو الكلام على السجن في هذه الرواية ضعيفاً إزاء الرواية تلك، ان لم يبدُ مستعاداً ولكن باختصار. وهذا قد ينطبق أيضاً على فكرة "الصداقة" التي عالجها بن جلون سابقاً في كتابه "مديح الصداقة" 1994. إلا أن بن جلون اعتاد ان يصدر كل سنة رواية أو كتاباً وأحياناً أكثر. فالكتابة لديه هي واجب يومي - كما عبّر مرة - ولا يستطيع أن يتخلى عنها ولو اضطر في أحيان كثيرة الى تكرار نفسه لغة وأسلوباً وموضوعات. ويلحظ قارئه بسهولة انه استنفد مادته المغربية ولا سيما أجواء طنجة. علي و"مامد" شخصيتان سلبيتان. مثقفان مغربيان، فرنكوفونيان، معارضان سياسياً وأحدهما "مامد" كان يقرأ ماركس ولينين من غير أن ينخرط في صفوف الشيوعيين. لكن نزعتهما الى الديموقراطية والعلمنة والتقدمية والطليعية تكفي لوضعهما في موضع الشك الرسمي وخصوصاً في مرحلة الستينات المضطربة سياسياً حين كان المعارضون يسجنون ويختفي بعضهم نهائياً. يتزوج "مامد" من غيتا وعلي من ثريا بعدما أمضيا فترة من المراهقة المضطربة والحافلة بالرفض والتمرد والجنس والقراءة... زوجة "مامد" تنجب طفلين يسمّي "مامد" أحدهما يانيس تيمناً بالشاعر اليوناني يانيس ريتسوس. أما زوجة علي العاقر فتلجأ سراً الى التبني الذي يرفضه الإسلام فتختار ولداً تسمّيه "نبيل". وما يجمع بين الزوجتين هو غيرتهما من الصداقة العميقة التي تربط بين زوجيهما، اضافة الى الغيرة النسائية التي لم تستطع كلتا المرأتين اخفاءها أو قمعها على خلاف الصديقين - الزوجين. قد تكون المفارقة الروائية التي بنى الطاهر بن جلون عليها روايته هذه، المقسّمة ثلاثة فصول اضافة الى "الرسالة الأخيرة"، هي قطع "مامد" علاقته بصديقه علي، مستخدماً لعبة أو طريقة غريبة لم يفهمها علي إلا أخيراً، بعدما توفي "مامد". لم يستطع علي أن يصدق أن "مامد" اتهمه ب"الخيانة" مقنعاً إياه انه غشه مالياً في قضية شراء البيت. وهو كان عهد اليه ان يبتاع له بيتاً من أقارب زوجته في غيابه وأن يؤثثه كما يحلو له. ولكن عندما علم "مامد" بمرضه الخبيث والقاتل في استوكهولم حيث كان يعمل طبيباً ويقيم مع زوجته وابنيه، وظّف قصة "الغش" هذه ليقطع علاقته بصديقه، وقصده أن يموت من دون علمه أو بعيداً من نظره الذي لا يستطيع أن يحتمله وهو على فراش الاحتضار. وعندما اكتشف "مامد"، وهو الطبيب المتخصص بأمراض الرئة، أن السرطان يفترس رئتيه كان يدخن منذ المراهقة بشراهة يتذكر علي للفور ويقول في نفسه انه يجب عليّ ألا أحدّث علي عن الأمر لأنه سيترك كل شيء ويأتي. وخوف "مامد" يكمن في أن يصبح وجه علي "مرآة" لألمه وأن يقرأ في عينه نمو مرضه. ويعتبر ان إعلامه بالمرض سيدمره ويقول: "صداقته أثيرة لدي ويستحيل أن أجعلها ضحية الحزن". ويضيف: "لن أبصر وجهه الكئيب ينحني عليّ ليقبّلني القبلة الأخيرة، لن أرى عينيه المغرورقتين بالدموع والذكريات تنفصلان عني...". يدخل "مامد" مرحلته الأخيرة المفعمة باليأس والألم والغثيان: "لدي غثيان ولا أرغب في شيء" يقول. وأرادها مرحلة من الانقطاع عن العالم والصداقة والاختلاء بنفسه: "سآخذ عطلة من صداقة طويلة جداً، لأواجه الألم وحيداً. أسبابي غامضة وموقفي غريب". وعلى فراش الاحتضار الطويل يعتبر المرض هو الموت: "هذا هو المرض. الموت ليس شيئاً. الموت، هو المرض، المرض الطويل والأليم". يختار "مامد" أن يموت في طنجة وليس في استوكهولم، وفي سرير أمه الراحلة التي طالما ناداها في ليله الأبيض. وعندما يراه والده العجوز يجده عجوزاً أكثر منه، تدمع عيناه ويصلّي ويقرأ عليه بعض "الآيات" الكريمة. وآخر من يتذكر "مامد" بعدما ودّع ابنيه والزوجة، صديقه علي ويقول: "أتخيل علي، الدموع في عينيه... انه الآن في حاجة إليّ، إنه الوقت الأهمّ في الصداقة، عليّ أن أراه، يجب أن أعترف له بمحبتي الصادقة...". يموت "مامد"، يكون علي في جنازته. أما الرسالة فتشرح له القصة كاملة... قد يصعب الأخذ بأن صديقاً يتخلى عن أقرب صديق له في لحظة المرض والاحتضار. فالصداقة عادة ُتمتحن في مثل هذه المواقف. لكن "مامد" مضى في خطوته السلبية، مجبراً وربما نادماً ولم يتراجع، حرصاً منه على أن تظل هذه الصداقة قائمة من غير شائبة. انه موقف غريب حتماً، كما عبّر "مامد" نفسه. ولكنه قد يكون غير مقنع مثلما صاغه بن جلون. فالصديقان أصلاً انفصلا نحو خمس سنوات عندما هاجر "مامد" الى استوكهولم. وليس من حافز داخلي أو خارجي، واعٍ أو لا واعٍ، لقطع مثل هذه الصداقة في اللحظة الحرجة. هل كان الصديقان يخفيان علاقة حب سرية؟ هل كانا مثليين؟ هل من أسرار مجهولة في علاقتهما؟ لم يبدُ تصرف "مامد" مقنعاً. فهو الذي احتضر أمام ناظر والده وزوجته وصديقه الآخر رامون، لماذا صعب عليه أن يرى علي في تلك اللحظات؟ مثل هذه الأسئلة قد لا يستطيع أن يجيب عنها أحد، على رغم أن الرواية مغرقة في انسانيتها وفي البعد الحميمي والجو الملتبس الذي أرخته هذه الصداقة. وإذا حاول علي أن يحلل الصداقة قائلاً: "في الصداقة، لا محل للغيرة، لأنها مبدئياً، إحساس مرتكز الى المجانية وليس الى الفائدة المادية أو الجنسية"، فإن "مامد" فهم الصداقة أمراً مثالياً يجب الحفاظ عليه ولو بالموت. وهنا لا بد من تذكر ما قاله أبيل بونار عن الصداقة: "الأصدقاء الحقيقيون هم المتوحدون معاً". ويمكن أيضاً تذكر ما افتتح به موريس بلانشو كتابه "الصداقة" آخذاً إياه عن صديقه جورج باتاي: "صديقان حتى حالِ الصداقة العميقة، حين يلتقي إنسان مهجور، انسانٌ هجره كل أصدقائه، في حياة هذا الذي سيرافقه الى ما وراء الحياة، وهو نفسه بلا حياة، وقادر على الصداقة الحرة، المنفصلة من أي روابط". ترى، عن أي صداقة كتب الطاهر بن جلّون؟