فور وصول رئيس وزراء لبنان رشيد كرامي إلى كراتشي شتاء 1963 احتفى به الرئيس الباكستاني أيوب خان، وأقام على شرفه حفلة كبرى حضرها أعضاء الوفد المرافق وكبار المسؤولين في الحكومة والدولة. وترأس وزير الخارجية ذو الفقار علي بوتو مائدة ضمت حول جانبيها أعداداً من موظفي وزارة الإعلام ورؤساء تحرير الصحف. واغتنمتُ هذه المناسبة لأوجه إلى وكيل وزارة الإعلام - الذي كان يجلس قبالتي - سؤالاً يتعلق بجذور الخلاف الهندي - الباكستاني، وما إذا كان هناك أمل في بناء الثقة المفقودة بين الجارتين منذ انفصال 1947؟! وهزّ الوكيل رأسه بالنفي، وأجاب على سؤالي بلهجة ملؤها السخرية قائلاً: من الصعب علينا ترميم علاقات الصداقة مع شعب نأكل رموزه المقدسة! قال هذا، ثم أتبع كلامه بالإشارة إلى صحنه المليء باللحوم كأنه يلمح بطريقة مبطنة إلى لحم البقرة المقدسة عند الهندوس. وقبل أن يستطرد في شرح وجهة نظره، تدخل الوزير بوتو ليسكته بكلمة واحدة نزلت على المائدة كالصاعقة: اخرس! توقعت من وكيل وزارة الإعلام أن يدافع عن موقفه، أو أن ينسحب من الحفلة اعتراضاً ولكنه آثر الصمت وسط ذهول الحاضرين واستغرابهم. وبما أن الرئيسين أيوب خان ورشيد كرامي كانا يجلسان إلى مائدة نائية في حديقة القصر، فقد فاتهما التنبه إلى هذه الحادثة الطارئة. بعد إعلان انفضاض الحفل، تقدمت من الوزير بوتو لأستوضحه عن الخطأ الذي اقترفه وكيل وزارة الإعلام. ودافع على الفور عن تدخله الحاسم بتفسير مسهب، قائلاً:"من الناحية المبدئية، لا يجوز لأي موظف في الدولة أن يتحدث بهزء وسخرية عن أي دولة أخرى، خصوصاً أمام ديبلوماسيين وأغراب. والسبب أن كلامه يُترجم على الفور وكأنه وجهة نظر الدولة الباكستانية. أما من الناحيتين السياسية والدينية، فإن بلادنا ماضية في ترسيخ ثقافة التسامح والتصالح أملاً في لجم أعمال العنف المتواصلة منذ انفصال 1947". وعلى رغم الحذر الشديد الذي اتخذه ذو الفقار علي بوتو خلال تعاطيه القضايا السياسية الشائكة، فإن ذلك لم يحصنه ويحصن اربعة من عائلته، ضد موجات الانتقام والإرهاب. علماً بأنه كان يعرف أهمية اقتناء السلاح الردعي النووي، في منازلة الهند التي دخلت ثلاث مرات في مواجهات مسلحة ضد بلاده. من بين الحروب الثلاث التي وقعت بين الهندوباكستان، شكلت كشمير، ذات الغالبية المسلمة، الدافع العميق للصدام المسلح. ومنذ التقسيم المتسرع الذي نفذه البريطانيون لشبه القارة الهندية سنة 1947، لم تعرف كشمير الواقعة على جبال الهملايا، الهدوء والاستقرار. والمعروف أن الهند تسيطر على ثلثي كشمير في حين تسيطر باكستان على الثلث الآخر. وتطلق نيودلهي على الجزء التابع لها"ولاية جامو وكشمير"حيث يقطن عشرة ملايين مسلم. وتقدر الأعداد التي قتلت في هذه الولاية منذ سنة 1989 بأكثر من 35 ألف شخص انخرطوا في الحركة الانفصالية المطالبة بالاستقلال التام عن الهندوباكستان. مقابل هذه الحركة ولدت حركة أخرى في كشمير الباكستانية استقطبت أعداداً كبيرة ممن تطوعوا للقتال ضد الهند. وقد طالبت نيودلهي إسلام آباد بضرورة اغلاق معسكرات التدريب لأنها توفر العناصر المطلوبة لتدمير كل ما انتجه"قطار الصداقة". وكانت الدولتان قد دشنتا في صيف 1976 عملية اطلاق قطار الصداقة اكسبرس سامجهوتا، كمظهر من مظاهر ارساء دعائم السلام والحوار بينهما، وتشغل الدولتان الجارتان الخط مداورة كل ستة أشهر بين مدينة"أمريستار"الهندية و"لاهور"الباكستانية. وقد اوقف تشغيل هذا الخط بعد هجوم على البرلمان الهندي 13 كانون الأول/ ديسمبر 2001 نسبته نيودلهي الى ناشطين اسلاميين مدعومين من باكستان. وظل هذا القطار يتعرض لعمليات عنف متبادل الى حين تدخل الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف، الذي أمر الجيش بتطويق مخيمات التدريب ومنع الأعمال الإرهابية. وكان ذلك إثر انفجار في"قطار الصداقة"نتج عنه موت 66 شخصاً. الاسبوع الماضي تعرضت مدينة بومباي مومباي حالياً لهجمات خلفت نحواً من مئتي قتيل سقطوا في فندقي"تاج محل"و"ترادينت". وذكر أن بين الضحايا 28 أجنبياً من اسرائيل والمانيا واليابان والولاياتالمتحدة وكندا وبريطانيا واستراليا وفرنسا وايطاليا وسنغافورة. وكان من الطبيعي أن تثير هذه الحادثة استياء الرأي العام في الهند، خصوصاً بعد مقتل 400 شخص كانوا ضحايا تفجيرات وقعت في سبع مدن خلال هذه السنة. ويبدو أن استقالة وزير الداخلية لم تخفف من وطأة الانتقادات السياسية والإعلامية التي طالبت باستقالة الحكومة بسبب عجزها عن مقاومة عشرة مسلحين. التحقيق الذي أجرته أجهزة الأمن الهندية مع الناجي الوحيد"عزام أمير قصّاب"لم يكشف عن الأهداف البعيدة الكامنة وراء الهجوم. وخلاصة ما ذكره للمحققين أنه ينتمي الى جماعة"عسكر طيبة"الباكستانية التي تقاتل من أجل استقلال منطقة كشمير. واعترف أن القيادة التابع لها توجد في باكستان، وأن رفاقاً سابقين له هاجموا البرلمان الهندي سنة 2001، الأمر الذي كاد يدخل الدولتين النوويتين في حرب. وبحسب صحيفة"تايمز"فإن الهند تملك ستين رأساً نووية مقابل 25 لباكستان. كذلك يقدر جيش الهند بمليون ومئتي ألف جندي، اضافة الى 525 ألف احتياطي. أما أفراد الجيش الباكستاني فيصل عددهم إلى 612 ألف جندي، زائداً قوات احتياط يقدر عددها ب513 ألفاً. منذ انفجار هذه الحادثة في بومباي، والصحف الهندية تتساءل عن الأهداف الحقيقية التي تكمن وراءها: هل كان في نية المنفذين إثارة الاهتمام بقضية كشمير التي همشتها الحرب في العراق وافغانستان؟ أم أن المقصود ضرب عاصمة الاقتصاد الهندي مثلما فعل أسامة بن لادن بالمجمع التجاري في نيويورك؟ وهل جاءت عملية اقتحام المركز اليهودي كتذكير بقضية محورية يلتقي حولها المسلمون والعرب، أم أن تنفيذها حدث بشكل عرضي لم يكن موضوعاً في الخطة الأصلية؟ أجمع المراقبون على اعتبار هذه الواقعة التي استمرت يومين، بأنها تزخر بالأجوبة المطروحة من مختلف الزوايا. أي أنها كانت بمثابة الحادي عشر من سبتمبر هندي، الأمر الذي فرض على"بوابة الهند"إقفال كل الطرق المؤدية الى تعدديتها وديموقراطيتها. ومن خلال هذه العملية، نجح عشرة أشخاص في ضرب الاقتصاد والسياحة والطابع الدولي لمدينة عرفت بطابع الانفتاح وتساهلها نحو المسلمين والمسيحيين معاً. وعندما طالب رئيس الوزراء مانموهان سينغ بضرورة الحفاظ على مكونات هذا الشعب، انما كان يطالب بالحفاظ أيضاً على التعددية والتعايش اللذين يعتبرهما أعظم نقاط القوة. يقول بعض المعلقين إن استهداف المركز اليهودي كان عملاً مخططاً له، بدليل أن الوزيرة كوندوليزا رايس، احاطته باهتمام خاص. كذلك فعلت زميلتها الاسرائيلية تسيبي ليفني التي طلبت من الحكومة الهندية الاسراع في حماية الرعايا اليهود بعد مقتل الحاخام غافرييل هولتزبرغ وأربعة من أصدقائه. ويتردد في نيويورك أن ليفني هددت بإرسال قوات كوماندوس، لو لم تسيطر القوات الهندية على الوضع. وأعلنت أن الهدف من اقتحام المركز إرغام نيودلهي على تخفيض تعاونها مع تل أبيب، لأن تعاون اسرائيل والهند وسع دائرة المواجهة ضد باكستان. ويعود تاريخ تمتين العلاقات الهندية - الاسرائيلية الى صيف 1999 عندما زار رئيس"مركز الدراسات الاستراتيجية"جاسيت سينغ القدس المحتل. وكان ذلك بعد عقد صفقة اشترت الهند بموجبها أجهزة الكترونية اسرائيلية بقيمة 250 مليون دولار. وفي مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية تحدث سينغ عن ضرورة تليين الإسلام الراديكالي وتصفية الإرهاب الدولي وترسيخ المسيرة الديموقراطية. واتهم سينغ، الذي ينتمي إلى طائفة السيخ، باكستان بتهديد إسرائيل لأنها تملك صواريخ ذات مدى 3500 كيلومتر، كما اتهم 120 مليون مسلم داخل الهند 12 في المئة بأنهم طابور خامس يتآمرون على سلامة الدولة. من بين الأمور التي شجعت مقاتلي كشمير على تسديد هذه الضربة الموجعة إلى بومباي، تنبيه المجتمع الدولي إلى خطورة السدود التي تشيدها الهند في كشمير مثل سد"كيشان كنغا"على نهر"نيلام". ومع أن هذا العمل يتعارض مع الاتفاق المائي الموقع بين البلدين سنة 1960، إلا أن الهند تجاوزت حتى البنك الدولي الضامن لهذه الاتفاقية. وقد حاولت إسلام آباد خلال السنوات العشر الماضية منع الهند من بناء أربعة سدود ضخمة بحجة الاضرار بالاقتصاد والزراعة، إلا أن اعتراضها لم يلق الصدى المطلوب، علماً بأن مصادر الأنهار الباكستانية الخمسة تنبع من كشمير الخاضعة للسيادة الهندية. بقي السؤال السياسي المتعلق بزيارة كوندوليزا رايس لنيودلهي، وما إذا كانت ستنجح في تخفيف حدة التوتر بين الدولتين! وكانت زيارة رايس المستعجلة قد جاءت على خلفية تهديد باكستان بسحب مئة ألف جندي منتشرين على الحدود مع أفغانستان في حال حشدت الهند قوات إضافية على حدود باكستان. ومع أن الولاياتالمتحدة هي التي تمول عمليات مقاومة طالبان على حدود أفغانستان، إلا أن ملء الفراغ في تلك المنطقة الملتهبة يصعب أن يتم بقوات أميركية. أي بالقوات المرابضة في العراق، خصوصاً أن الرئيس المنتخب باراك أوباما شدد على ضرورة تركيز الحرب في أفغانستان، لذلك يتردد في واشنطن أن الوزيرة رايس تحركت بايحاء من أوباما، لأن سحب القوات الباكستانية من مواقعها الحالية ونقلها إلى الحدود مع الهند، سينسفان كل خطة الرئيس الأميركي الجديد. وفي حديثها مع وزير خارجية الهند براناب موخرجي، شددت رايس على أهمية تبادل المعلومات بين الدولتين، قبل تنفيذ طلب الهند تسليم حافظ سيد، زعيم حركة"عسكر طيبة"مع عشرين شخصاً من جماعته. والملاحظ أن رايس تميل إلى تثبيت هذا الحل ارضاء للهند، ولو أدى ذلك إلى زعزعة نفوذ رئيس حكومة باكستان آصف زرداري. ومثل هذا الحل سيغضب الجيش والاستخبارات الباكستانية الداعمة للمنظمات الاصولية، الأمر الذي يعبد الطريق لحدوث انقلاب يطيح حكومة زرداري ويأتي بجنرال جديد يتولى شؤون الحكم! * كاتب وصحافي لبناني نشر في العدد: 16682 ت.م: 06-12-2008 ص: 15 ط: الرياض