"في البال أغنية يا أختُ عن بلدي..."، تلك كانت أحب الأغاني إلى قلب محمود درويش، أسّر مارسيل خليفة لجمهوره... قد تكون إذاً تلك هي التحية الأجمل لدرويش، وقد غناها الجمهور بكل ذلك الحب الذي يجعل الأغنية أشبه بصلاة جماعية. الجمهور الذي اجتمع في قصر الإمارات ليل أول من أمس، ملأ تقريباً مسرحه الكبير، على رغم ارتفاع أسعار البطاقات كون عائد الحفلة يعود لأعمال خيرية. في الاحتمالات الأولى كان على درويش أن يكون هنا ويشارك في إحدى فقرات الحفلة التي كان من المفترض أن تكون راقصة غنائية، كانت تلك واحدة من الاحتمالات التي وضعها خليفة ودرويش معاً، لتكون الحفلة محاولة لتجسيد الشعر موسيقى ورقصاً وغناء... لكن احتمال الموت كان أقوى، ذهب درويش فباتت الحفلة تحية له. غنى فيها خليفة ما كتبه من موسيقى لقصائد درويش وما كتبه وحياً منها، كما غنى له من قصيدة"يطير الحمام، يحط الحمام"التي انتظرها درويش طويلا ًمن صديقه ولم يسمعها. القصيدة التي قدم له مقطعاً منها عند رحيله، فوق جثمانه في عمّان، قائلاً:"لا أعرف من أين أتتني القوة لأغني فوق جثمانه". المقطع نفسه من قصيدة الحب الطويلة، غناه خليفة في الحفلة - التحية، ودرب الجمهور على المطلع، فجعله يردد معه"يطير الحمام يحط الحمام"كمن يحفر الأغنية في الذاكرة تعويضاً. لقد أراد للحب أن يكون عنواناً للحفلة التحية"قد يكون الحب أجمل الأشياء وعلى ما أعتقد فقد نسينا معنى هذه الكلمة..."قال خليفة. وأضاف:"كتب فيه درويش أجمل قصائده... نقول لدرويش أن الحياة جميلة بك". ثم غنى له"ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا اليها سبيلاً"، القصيدة التي تحولت شعاراً عند رحيل درويش وألصقت على جدران بيروت،"نرقص بين شهيدين ونرفع مئذنة للبنفسج بينهما...". كما غنت أميمة الخليل"أحبك أكثر"، و"كنا صغيرين"، ثم مقطع من غنائية"أحمد العربي". ولحقتها يولا كرياكوس لتؤدي"وصايا حرية"آخر قصيدة حُب كتبها درويش. ووصولاً إلى النهاية، عندما قال خليفة"منذ البداية أحسست أن طعم خبز أمه كطعم خبز أمي، وقهوة أمه كقهوة أمي، وجواز سفره يحمل صورتي أنا... وكأن شعر درويش أنزل عليّ ولي"... هنا انطلقت حنجرة خليفة لتروي قصّة"جواز السفر"، فاشتعلت القاعة وتفلتت الكوفيات من حول الأعناق لتلوح في فضاء المسرح. واللافت أن تفاعل الجمهور لم يأتِ مع هذه الأغنية التي تحولت نشيداً لا يفترض المس به عند الناس، بل جاء مع استقطاعها بتنويعات على البيانو أخذت الأغنية إلى أجواء أخرى. إذ سكتت كل الآلات وقدم رامي خليفة الإبن عزفاً طويلاً على البيانو بتلك الإيقاعات القوية التي تشبه الأغنية بقساوة ما تقوله، وتشبه كثيراً ما قدمه من وحي حرب تموز يوليو 2006 سابقاً. فوقف الجمهور وصفّق له طويلاً، قبل أن تعود الفرقة الى"النشيد الأصلي"وخليفة إلى"جواز السفر"بصوته الوديع، لينتزع الحزن الكامل من تلك الأغنية ويحولها من خلال تجديدها إلى فرصة للحياة، وربما أيضاً للغضب الذي يحتمل حياة أكثر مما يحتمل الحزن. هذا ما فعله أيضاً مع أغنية"يا بحرية"، فأدخل تنويعات منفردة قدمها كل من اسماعيل لومانوفسكي على الكلارينيت، ومارك الياس على الكونترباص، والكسندر بيتروف على الطبل، وبشار خليفة على الإيقاع. وفي أي حال إنها الأغنية الرحبة التي تحتمل الكثير من الإيقاعات والتنويعات، ولكنه هنا أيضاً عاد في النهاية ليختتم مع ما تحبه الذاكرة من"يا بحرية". لقد وجه خليفة تحيّته لدرويش بالاحتفال بالحب والحياة، فذلك كما يقول يشبه درويش أكثر. وكما يبدو فإن جمهور الصديقين يحتفظ بذاكرة قوية وهو جمهور يتوق للحياة أيضاً. فالذاكرة والحياة هنا ثنائي ضروري. يقدم خليفة تحيته هذه إلى محمود درويش في ثلاث حفلات، حفلتين قدمهما ليلي الخميس والجمعة في قصر الإمارات في أبوظبي يعود ريعهما لجمعية"طفل ووعد"التي تعمل مع أطفال المخيمات الفلسطينية، بالتعاون مع"مجموعة أبو ظبي للموسيقى الكلاسيكية". أما الحفلة الأخرى فتُقام اليوم في مسرح الجامعة الأميركية في دبي ويعود ريعها ل"جمعية إغاثة أطفال فلسطين". وكانت حفلة أبو ظبي شهدت افتتاحاً رعاه وتحدث خلاله وزير التعليم العالي والبحث العلمي الشيخ نهيان بن مبارك، كما تحدثت رئيسة جمعية"طفل ووعد"تانيا صفير. هذه الحفلات أثبتت بالفعل، أن موسيقى مارسيل خليفة ما زالت تنبض بروح العصر والشباب والتجدّد والتألّق. هي لم تمت كما لم تبق كما وصفها البعض ب"موسيقى مرحلة الحرب الأهلية"، والدليل ما سمعه الجمهور المتنوّع بين الشباب والمخضرمين وكبار السنّ، من توزيعات وألوان موسيقية مميّزة صفّقوا لها ورقصوا وهتفوا ولوّحوا بكوفياتهم، وأحياناً... بكوا. نشر في العدد: 16654 ت.م: 08-11-2008 ص: 39 ط: الرياض