أحيا الروائي والشاعر الفلسطيني ابراهيم نصر الله أمسيات شعرية وشارك في نقاش ولقاءات مفتوحة، مع مثقفين وأكاديميين سعوديين وعرب، ضمن البرنامج الثقافي الذي أعده له نادي الرياض الأدبي، بالتعاون مع جهات ثقافية أخرى في كل من الرياضوجدة. قرأ في أمسياته قصائد جديدة، كما عن تجربته، التي تمتد إلى أكثر من ثلاثين سنة، بدأها بإصدار ديوانه الأول"الخيول على مشارف المدينة"، كما تتطرق إلى مشروعه الروائي بخاصة"الملهاة الفلسطينية". التقيناه على هامش هذه الزيارة. تزور السعودية بعد أكثر من ثلاثين سنة منذ أن غادرتها عقب انتهاء مدة عيشك فيها1976 1978 كمعلم في إحدى القرى في الجنوب، ما الهواجس الذي تنتابك وأنت تعود ليس إلى المكان نفسه، ولكن إلى بلد لا تزال روايتك"براري الحمّى"التي عكست من خلالها تجربة العيش فيه، تثير النقاش، اختلافاً أو اتفاقاً، بين مثقفيه وأدبائه؟ - لهذه الزيارة بعدٌ نفسي عميق، وينتابني ذلك الإحساس الذي ينتاب المرء عادة حينما يكون على وشك لقاء شخص عزيز لم يره منذ ثلاثين سنة. فتجربتي كمدرس في واحدة من قرى القنفذة تركت أثراً كبيراً في حياتي، إنسانياً وأدبياً، ولو لم أذهب إلى هناك لما كتبت"براري الحمّى"التي هي روايتي الأولى، بمعنى لولا تلك الحياة هناك، لما دخلتِ الروايةُ، ربما، عالمي، ولما دخلت عالمها، ولذا أرى أن تلك التجربة الروائية كانت النبع الذي تدفقت بعده بقية الروايات. لقد كتبت خمسة فصول عن تلك الحياة في كتابي"السيرة الطائرة"وأظن أنها تضيء كثيراً من الجوانب الخاصة، التي تتحدّث عن تجربة إبراهيم كإنسان في تلك القرية، بعيداً من التخييل الروائي. صدرت روايتك"براري الحمى"ضمن عدد من الروايات، مثل"مسك الغزال"للبنانية حنان الشيخ، و"نجران تحت الصفر"للفلسطيني يحيى يخلف، و"البلدة الأخرى"للمصري إبراهيم عبدالمجيد، ورأى فيها عدد كبير من القراء، صورة مكبرة للجانب السلبي في هذه التجربة، كيف ترى مسألة تلقي روايتك والروايات الأخرى، سواء من القراء في السعودية أو سواها؟ - ليس الأمر متعلقاً بالسلبية والإيجابية، ففي الكتابة يجب أن تكون هناك أولاً الكتابة الجيدة، الكتابة الإنسانية التي ترى البشر بمختلف أبعادهم وصفاتهم، حدث هذا معي حين كتبت روايتي الأخيرة"زمن الخيول البيضاء"والتي تتناول ستين سنة من تاريخ فلسطين، كما حدث معي في"براري الحمى"أو"حارس المدينة الضائعة"أو"شرفة الهذيان". لقد ظن البعض أن زمن الخيول ستكون معلَّقة مديح بالفلسطينيين، وفوجئوا أنها ليست كذلك، فهناك البطل وهناك الخائن وهناك الطاغية وهناك الإنسان البسيط وهناك الطبيعة القاسية والطبيعة الجميلة. ومن المحزن أن يظن البعض أن مديحنا لبلادنا هو الشيء الوحيد الذي يثبت حبنا لها. في ظني أن هذا النمط من المديح هو أفقر أنواع الحب على الإطلاق. بالطبع ردود الفعل متباينة على براري الحمّى مثل أي رواية أخرى، وحتى من ليس معها فهو يحترمها كجهد إبداعي، ولكن أحب أن أشير إلى أن هذه الرواية تتحدث عن فترة عمرها الآن اثنان وثلاثون سنة. وقد لا يكون كثير ممن هم مع الرواية أو ممن هم ليسوا معها قد عاشوا تلك الفترة. واستكمالاً للسؤال، لا أرى أن كتابات الروائيين والروائيات الأخرى، التي تتحدث عن تجاربهم في بلادهم، تختلف عما كتبوه عن الخليج. وأظن أن أفضل شيء يمكن أن نفعله هو أن نتأمل ما كتبه هؤلاء عن بلدانهم، لنعرف إن كانوا سلبيين أم لا في نظرتهم للخليج. وبثقة أستطيع القول إن النتيجة ستعيد حسابات أولئك الذين يعتقدون أن هناك نظرة سلبية. دأبت وسائل الإعلام وبعض الكتاب على وضع القضية الفلسطينية وبالتالي الإنسان الفلسطيني في صورة محددة، لا يمكن تخطيها أو النقاش حولها، لكن رواياتك تحديداً، ربما لطبيعة الرواية، تجهد في دحض هذه الصورة، إلى أي حد نجحت من خلال رواياتك في تقديم صورة بديلة، تعطي الحق للفلسطيني أن يعيش ويحلم ويحب ويعبر عن ابتهاجه لأمر ما، مثل أي إنسان آخر، وكيف يمكن رصد التأثير الذي توجده لدى المتلقي، بخاصة القريب منك، وما الذي يمكنك قوله أيضاً ولم يقل من قبل عن القضية الفلسطينية، في كتابات روائية لفلسطينيين وعرب؟ - سؤال كبير، ومن الصعب الإجابة عليه ببساطة، فروايات الملهاة الفلسطينية وحدها، تغطي قرناً وربع قرن من الزمان الفلسطيني، وفيها مئات الشخصيات، وكل رواية تذهب لتأمل مرحلة ما. أظن أن الفلسطيني كان في حاجة الى الرواية بصورة ملحّة، صحيح أن لدينا شعراً عظيماً بكل المقاييس، لكن ما كنا في حاجة إليه هو فن الرواية الذي يستطيع أن يتحدث، ليس عن أحاسيسنا وتأملاتنا فقط، بل ليقول من نحن وماذا حدث لنا وما هي حكايتنا، ولا أرى شعرنا أكثر من فصل من فصول حكايتنا الأشمل. كان يؤرقني مثلاً أن مرحلة ما قبل النكبة ظلت غائبة إلى زمن طويل عن رواياتنا، بل إن الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي قالت لي:"إنني كنت أخجل حين يسألونني في الغرب أين هي الرواية التي تتحدّث عما حدث للفلسطينيين، وهذا الأمر كان يؤلمني". من دون أن أنسى بالطبع أن هناك روايات ممتازة تحدثت عن فترات كثيرة سابقة للنكبة، ولذلك كنت في حاجة الى"زمن الخيول البيضاء"كقارئ وهذا ما دفعني للتحضير والعمل عليها عشرين سنة. وبمجرد أن قرأتها الدكتورة الجيوسي بدأت، من خلال مشروع بروتا لترجمة الأدب العربي، التخطيط لترجمتها إلى عشر لغات في آن واحد. وعلى رغم حجم الرواية الكبير إلا أنني أتلقى من خلال وكيلي الأدبي الكثير من العروض الأجنبية لترجمتها. لكن الأهم من كل ذلك هو وصولها الى القارئ الفلسطيني والعربي في شكل رائع. يمكن أن أتحدث أيضاً عن"أعراس آمنة"وپ"تحت شمس الضحى"اللتين تناولتا الواقع الفلسطيني اليوم في غزة والضفة الغربية، فقد كان يؤرقني أننا ككتاب نؤجّل الكتابة عن قضايانا الراهنة، في حجة أننا نريد لها أن تنضج وما إلى ذلك، لقد اكتشفت أن من لا يفهم حاضره لا يمكن أن يفهم الماضي، وليس له الحق بالتالي أن يقنعني بأنه قادر على استشراف المستقبل، وكان يحيرني أن كتّاباً أجانب يأتون أسابيع أو شهوراً ويكتبون كتباً رائعة عن فلسطين. أما علاقتي مع المتلقي فأعتبرها مثالية، فأنت تعرف أنني كاتب كنت خارج الأنظمة وخارج التنظيمات وخارج المؤسسات الكبيرة، وأن تتحقق هذه العلاقة بينك وبين القارئ في هذا الشكل الحميم هو أجمل ما يمكن أن يحدث لك. يستعد المخرج حاتم علي، الذي قدم من قبل التغريبة الفلسطينية، لتحويل روايتك"زمن الخيول البيضاء"إلى مسلسل في السنة المقبلة، هذا يعني قراءة أخرى للرواية، ومساحة واسعة من التلقي، بخاصة أن حاتم علي تميز بمشهدية بصرية طالما أثرت الأعمال التي يقدمها، هل ستحاول أن تتدخل مثلاً في السيناريو أو لك شروط، مثل الكثير من الأدباء الذي يحرصون على كتابة السيناريو أو مراقبة عملية التصوير وما إلى ذلك من أمور؟ - أولاً أنا سعيد بحماسة مخرج كبير مثل الأستاذ حاتم علي والذي سيكون المنتج الفني لهذه الرواية، وأعتقد أننا سنقدم شيئاً مختلفاً كما أن شركة طارق ومحمد زعيتر التي ستنتج العمل تخطط لتقديم كل ما يحتاجه هذا العمل على مستوى الإنتاج، وكما علمت فهناك اهتمام، منذ الآن، بشراء العمل من عدد كبير من الفضائيات العربية. أما عن السيناريو فلم أرغب في دخول هذه التجربة، لأنني أرى أن من المهم وجود كاتب آخر يعمل عليها، وأرى ضرورة تحرير الرواية من كاتبها، ولذلك اكتفيت بأن أراجع النص وأتبادل الآراء مع كاتب السيناريو حلقة حلقة، وبالطبع هناك رؤية الأستاذ حاتم لما يكتب أولاً بأول وقد كنا التقينا كفريق وناقشنا كثيراً من الأمور. الآن يعمل الشاعر وكاتب السيناريو غازي الذيبة على كتابة السيناريو، وأتمنى أن نحقق معاً الأفضل. تثار حالياً في الأردن، قضية الشاعر إسلام سمحان، الذي يحقق معه في قضية رفعتها ضده دائرة المطبوعات والنشر، بسبب ديوان صدر له قبل مدة ليست قصيرة... هذه الدائرة نفسها ارتكبت فعلاً مشابها معك، عندما منعت أحد كتبك قبل نحو سنتين، كيف ترى قضية مصادرة الكتب ومنعها ودفع الكتاب والأدباء إلى المحاكم؟ - كانت المرة الأولى التي يحوّل فيها كتاب للمحكمة هي التي حدثت قبل عامين مع كتابي، والآن هناك قضية سمحان وقضية كتاب الناشر فتحي البس، وقد كنت أعتقد أن دائرة المطبوعات قد وعت دروس التجربة الأولى، لكن ما يحدث الآن للأسف يثبت أنها لم تع شيئاً، فالاستمرار في هذا النهج لن يوصلها لشيء، وهو غير منطقي أبداً، ففي وقت تدخل كل الصحف والمجلات وأفلام"الدي في دي"الأردن بلا رقابة، وتوزع في الأسواق، تواصل دائرة المطبوعات مطاردتها للكلمات وقراءة ما بين السطور وتفسيره على هواها، وهذا أمر محزن فعلاً، ولذا لا بد من الوقوف ضد هذه الممارسات بكل الطرق.