كان مفاجئاً جداً فوز الكاتب والسينمائي الأفغاني عتيق رحيمي بجائزة"غونكور"الفرنسية التي تعد أرقى الجوائز الأدبية في فرنسا. فروايته"سينغيه سابور"أو"حجر الصبر"التي لا تكاد تتجاوز المئة وخمسين صفحة استطاعت أن تزاحم روايات ضخمة حازت إعجاب النقاد الفرنسيين ومنها رواية كاترين مييه"يوم أليم". إلا أن قيمة أي رواية لا تكمن في حجمها بل في مادتها ولغتها وجوها. وما يلفت أيضاً أن عتيق رحيمي ذا السادسة والأربعين عاماً ليس روائياً مكرساً، حتى وان عرفت روايته الأولى"أرض ورماد"2000 رواجاً كبيراً وترجمت الى أكثر من عشرين لغة. وعمره الروائي لا يتخطى الثمانية أعوام والثلاث روايات وكلها قصيرة وأقرب الى الحكايات ذات الطابع الأفغاني ? الإيراني، فهو يكتب بالإيرانية على غرار معظم الكتّاب الأفغان. وكان رحيمي غادر أفغانستان عام 1984 الى باكستان إبان الاجتياح السوفياتي وكان له اثنان وعشرون عاماً، ثم اختار المنفى الفرنسي، هو الذي درس الفرنسية باكراً في إحدى مدارس كابول الخاصة. وفي فرنسا حصل على اللجوء السياسي ودرس في السوربون وامتهن الإخراج السينمائي ثم حاز الجنسية الفرنسية لاحقاً ولكن من دون أن يتخلى عن جنسيته الأفغانية. بل هو ما برح يسافر باستمرار الى أفغانستان لا سيما بعد انسحاب مجاهدي طالبان"جيش الظلمات"كما يسميهم، لئلا يكون"من لا مكان"مثلما يعبّر. رواية"حجر الصبر"هي الأولى يكتبها عتيق رحيمي بالفرنسية بعدما كتب أعماله السابقة بالفارسية ونُقلت الى الفرنسية. قد يكون هذا التحدّي الذي خاضه الكاتب الأفغاني أحد الحوافز على منحه الجائزة الراقية، مثله مثل الكاتب الأميركي جون ليتل الذي حاز الجائزة نفسها عام 2006 عن روايته"المتسامحات"التي كتبها بالفرنسية مباشرة. وقد يبدو واضحاً أيضاً أن جائزة غونكور تسعى، على غرار جائزة بوكر البريطانية، الى مكافأة الكتّاب الآتين من حضارات بعيدة، وقد اعتنقوا اللغة الفرنسية. عتيق رحيمي خير مثل يمكن أن يُضرب في هذا القبيل. ولئن دارت رواية رحيمي الأولى"أرض ورماد"في حقبة الاحتلال الروسيّ وصعود حركة طالبان من خلال ثلاث شخصيات تمثل ثلاثة أجيال تحيا المأساة التاريخية: الجد، الابن مراد والحفيد ياسين، فأن رواية"حجر الصبر"تدور في الحقبة التي هيمنت فيها حركة طالبان على أفغانستان ومن خلال شخصيتين: الرجل الأصولي الراقد في شبه غيبوبة وزوجته. لكن الحقبتين لا تبدوان مختلفتين في مآسيهما التي حلّت بالمواطنين وكأن هيمنة طالبان هي نفسها هيمنة الجيش الروسي، بل كأن ظلم أهل الأرض هو نفسه ظلم المحتل الجائر وربما أشدّ قسوة وصلافة. "سينغي سابور"كما تقول الأسطورة الأفغانية هو"حجر الصبر"أو الحجر السحري الذي يضعه المرء أمامه ليصبّ عليه مآسيه وآلامه، وليعترف اليه بما لا يجرؤ على الاعتراف به الى أحد. والحجر يصغي وپ"يتشرّب"مثل اسفنجة كل الكلمات والأسرار الى أن ينفجر في يوم ما. وفي هذا اليوم"الجميل"يتخلص المرء من مآسيه وآلامه. لكن"الحجر"في الرواية سيكون الزوج، المجاهد الأفغاني، الذي يرقد على سرير الغيبوبة بعدما أصيب برصاصة في الرأس إثر عراك مع رفاق له، وبالقرب منه زوجته التي لا تني تتكلم اليه، متحسّرة ومقهورة، تصرخ بصمت وتصلّي ولا تدري ان كان يسمعها. هذا ما يحصل داخل بيتهما بل داخل غرفتهما التي يستهل رحيمي روايته بها وكأنها منطلق الحكاية كلها. أما في الخارج فتصخب المعارك التي يبلغ فيها العنف ذروته ويتوزع المقاتلون الشوارع والأحياء، ينهبون ويقتلون، في حال من الفوضى"المسلّحة"الشاملة. يستخدم عتيق رحيمي"عينه"السينمائية كما فعل في روايته الأولى"أرض ورماد"بل يمعن أكثر هنا في اللعبة السينمائية، عبر التقطيع المشهدي واللقطات المتوالية واللغة المختصرة القائمة على الوصف والتصوير. يستهل رحيمي روايته بلقطة سينمائية صامتة وكأن الراوي يقف وراء كاميرا ويرى المكان من خلالها:"الغرفة صغيرة. مستطيلة. غرفة خانقة على رغم جدرانها المضيئة، ذات اللون الكلسي، وستارتيها بزخارفهما التي تمثل عصافير مهاجرة، مسمّرة في انطلاقها وسط سماء صفراء وزرقاء". ثم تجوب"الكاميرا"الغرفة الفارغة من أي زينة، ما عدا"الخنجر"المعلق على الجدار وفوقه صورة لرجل ذي شاربين، في الثلاثين من عمره. عيناه السوداون تبرقان، ولا تندّ عن شفتيه أي ابتسامة. هذا الرجل الذي في الصورة سيكون هو نفسه الرجل الممدّد أسفل الجدار فوق فراش أحمر على الأرض، لكنه الآن تقدم في السنّ، ونحل كثيراً ومن ذقنه تتدلى لحية. وجهه شاحب، تغزوه التجاعيد، لا يبتسم البتة، فمه شبه مفتوح، عيناه غائرتان في محجريهما، عيناه مسمّرتان في السقف... هكذا يصف عتيق رحيمي بطله"السلبي"والصامت، الذي يلمح القارئ عبر عينيه بعض التفاصيل التي تحفل بها الغرفة والحركة التي تقوم بها المرأة التي طالما عانت في مجتمع ذكوري، تقليدي، منغلق على نفسه، لا يتوانى الأب فيه عن"بيع بناته"والزوج عن هجر عائلته للانخراط في صفوف المجاهدين المتشدّدين، تاركاً زوجته وجهاً لوجه أمام صورته. الزوجة إذاً هي التي تتكلم أما الرجل فيصغي من دون أن يسمع ما يصغي اليه. ولعلّ شبه غيبوبته وجموده يسمحان لها أن تتكلم بحرّية مشوبة بالحذر طبعاً، فهي تحيا عبر هذا الكلام"انفجاراً"داخلياً طالعاً من عمق الصمت الذي كثيراً ما خيّم عليها. انها المتكلمة الآن وزوجها هو الصامت."تصلّي ثم تتخلى عن الصلاة لتروي حياتها المفعمة بالقهر، لتكشف أسرارها وآلامها، لكنها في عمقها تدرك أن"الحجر"لن"يتشرب"مأساتها ما دام هو نفسه زوجها. وقد تكمن هنا المأساة الحقيقية التي سعت الرواية الى تجسيدها، جاعلة من تداعيات الزوجة نوعاً من"المونولوغ"أو المناجاة التراجيدية وكأنها شخصية من الشخصيات الدرامية الإغريقية. لكن هذا المونولوغ لا يقع لحظة في السراد الأفقي بل يتنامى وتتقاطعه الذكريات والوقائع، الماضي والحاضر، الخيبات والآمال المجهضة... هذا المونولوغ أيضاً يصبح في أحيان أقرب الى"الاعتراف"الذي تبوح به المرأة عبر حرمانها ? حتى الجنسي ? الذي كان زوجها يفرضه عليها. لكن الزوجة التي لم تستطع أن تكره زوجها سابقاً تعجز عن كرهه الآن، راقداً على فراش الاحتضار، ضعيفاً ومنهاراً. انه"رَجْعُ"ماضيها يصخب في ضميرها، رَجْعُ الإذعان والصمت والصبر، رجع سلطة الذكر التي يصعب عليها أن تتخطاها. تهتم الزوجة برجلها المحتضر، تعتني به، تداويه، تصلّي له، وتعلن له حبها:"كان لدي شعور غريب، لا يوصف، كنت أشعر في الحين عينه بأنني حزينة ومعزّاة، سعيدة وتاعسة..."لكن هذا التغني بالحب، وان كان حباً شبه مستحيل، لن يلبث أن يصبح تغنياً بالحرية. تخاطب الزوجة رجلها وكأنها تخاطب"حجر الصبر"قائلة:"أجل، أنت، أنت"حجر الصبر"، حجري... سأقول لك كل شيء، يا حجري، كل شيء. حتى أتحرر من آلامي وبؤسي...". ولكن ما تراه يكون ثمن هذا التحرر؟ هذا ما تجيب عنه رواية عتيق رحيمي البديعة، بل هذا ما لا تجيب عنه. فالزوجة الجميلة، ذات الشعر الطويل الفاحم، تظل منحنية على هذا"الحجر"، على زوجها، في يدها مسبحة سوداء، تصلّي وتنتظر. أما في الخارج فلا يهدأ دوي القذائف... حكاية أليمة في عالم مغلق يحاصره عالم مشرع على المآسي. رواية لا أحداث فيها ولا"أبطال"، بل صور وسرد يلتقط الصور وينثرها مثلما تفعل الكاميرا، مشاهد وذكريات وأطياف وضوضاء غالباً ما تأتي من الخارج لتكسر حال العزلة التي يحياها الزوج بغيبويته والزوجة بحواسها وروحها. وكعادته يعتمد عتيق رحيمي لغة"نارية"عمادها الايقاع السريع والجمل القصيرة والتلميح والاختصار. انها لغة تصويرية، انطباعية وتعبيرية، تفيد تمام الإفادة من"عين"كاتبها، الذي لا يفصل قلمه عن كاميراه التي أبدعت أفلاماً جميلة وصوراً جميلة. وما تجدر الإشارة اليه أن عتيق رحيمي استوحى روايته هذه من مأساة الشاعرة الأفغانية ناديا أنجومان التي قتلها زوجها عام 2005 مستاء من كونها شاعرة. لم يترجم من أعمال عتيق رحيمي سوى روايته"أرض ورماد"وقد أنجزها الشاعر اللبناني اسكندر حبش ولكن عن الفرنسية وليس عن الفارسية، وأصدرتها دار الآداب عام 2003. أما روايته الفائزة التي كتبها بالفرنسية فترجمتها الى العربية ستكون أسهل وأكثر شرعية. وما أحوج المكتبة العربية الى ترجمتها. نشرت في عدد 16658 ت.م: 2008-11-12 ص: 30 ط: الرياض