في لبنان طوائف، وأمراء كل طائفة ينفون عن نفسهم تهمة الطائفية ويلصقونها بالآخرين. شهدنا مؤخراً مسؤولاً رفيعاً في حزب ذي عقيدة اسلامية يطالب بالعلمنة، ومسؤولاًً في تيار سياسي تقليدي يتهّم تياراً سياسياً تقليدياً آخر بأنّه..."طائفي"، وثالثاً يتهّم صحيفة بأنّها"طائفية"ليردّ عليه مسؤول سياسي من أهل الصحيفة بأن محطة التلفزة التي تخصّ الأول هي الطائفية بعينها، إلخ. وواقع الحال أنّ الجميع في لبنان يمارس الطائفية، وإن بدرجات متفاوتة. إلتقيت الفليسوف الكندي ويل كيمليكا مؤخراً بمناسبة صدور كتابه الجديد عن مشاكل الأقليات في العالم. وأخبرني عن جولته في سورية ولبنان باكراً عام 2008 حيث لَفَتَ نَظَره الفرق الكبير بين البلدين. ففي حين لمس أنّ الشعبين متشابهان من حيث اللغة والعنصر والعادات والتقاليد، فالفرق في النظام السياسي والسلوك العام كان فاضحاً. قال كمليكا:"كانت سورية مفاجأة لي لأنّه ما زال في العالم بلد يحكمه نظام شمولي مشابه للأنظمة الاشتراكية البائدة في أوروبا الشرقية. زرت دمشق بدعوة من السفارة الكندية لاحياء عدد من الندوات والمشاركة في نقاشات. ولكن إينما اتّّجهنا وفي أي مكان دخلنا كان رجال المخابرات خلفنا. فإذا كنّا في قاعة ونريد أن نتناقش في أي أمر مع مثقفين سوريين نرى رجال المخابرات يحتّلون كراسي في القاعة وكأنهم من المدعوين ولا أحد يعترض. وكانت المحصلة أنّ أحداً من السوريين لم يُقدِم على المشاركة في الندوات بحريّة. واستنتجت أنّ النقاش الحر والتعبير الفكري مستحيلان في سورية. لكن مفاجأة أكبر كانت تنتظرني في لبنان. لقد ذهبنا إلى لبنان بعد ذلك ولم أصدّق ما شاهدت. ليس أنّ النقاش والحوار واللقاء العام موجودة بكثرة ومن دون حدود فحسب، بل كنّا عندما ننتقل من نشاط ثقافي إلى آخر وكأننّا نغادر بلداً لندخل آخر. وشهدنا نفس الجو في كل منطقة، فيما أجهزة الاعلام تتصارع بعشرات المحطات التلفزيونية والاذاعية والصحف والمجلات، والكلّ ضد الكلّ من دون أي رادع يضبط الكلام وصولاً إلى التحريض الذي يوصل إلى مشاكل". ما شهده في لبتان هو الفوضى، أما في سورية فقلق يؤدي إلى الإكثار من"النظام". وسألته إذا كان يلوم لبنان لأنّه فشل كدولة في المحافظة على استقرار وديمومة النظام الديمقراطي ذات الميل الغربي، حيث كانت الفرصة متاحة من 1920 حتى 1975، خاصة الفشل في تطوير البلاد نحو دولة الرعاية العلمانية. علّق كمليكا بأنّ لبنان مؤلف من عدّة أقليات ولم يكن من المعقول أن يصبح علمانيّاً كفرنسا مثلاً. ما ساعد فرنسا أن تصبح علمانية أنّ أكثر من 95 بالمئة من شعبها في بداية القرن العشرين كان على المذهب الكاثوليكي وليس من عدّة أقليات مذهبية. والمشكلة في لبنان أنّ المفكّرين والمثقفين وبعض السياسيين الداعين للعلمنة تلقّنوا ثقافة أوروبية واقتبسوا النموذج الفرنسي في العلمنة والنموذج الأميركي في الدولة، لواقع محلّي لبناني شديد التعقيد. ولكن الأسلوب البراغماتي لم يكن يتطّلب هذه المثالية إذ ليست العلمانية لباساً واحداً لكل المجتمعات. وثمّة نموذج في المقلب الآخر هو الدولة الثيولوجية في بلد يحكمه رجال الدين كإيران. ولكن بين هذين النموذجين ثمّة عشرات التركيبات الممكنة تتلاءم مع واقع البلدان المتعدّدة السكّان. وليس ضروريّاً أن يكون النموذج الفرنسي هو الحل لهذه البلدان المتعددة لتكون علمانيّة وتصل إلى السلم الأهلي والازدهار. وهناك أمثلة على دول طبّقت العلمانية بموجب النموذج الفرنسي ولكنّ وضعها كان غير طبيعي. علمانية الدولة في تركيا مفروضة بقوّة يدعمها نظام شبه ديكتاتوري. والجيش يتدخّل مراراً في السياسة حسب العقيدة"الكمالية"التي تتناقض أحياناً مع تاريخ تركيا. كيف يمكن لتركيا كدولة أن تتخلّى عن الخلافة الاسلامية عام 1924 وأن تصبح دولة علمانية أوروبية في اليوم التالي، ثم تعتمد الحرف اللاتيني وتطلّق تراثاً اسلامياً امتدّ قروناً. لا أنفي أنّ المجتمعات تتغيّر ولكن يجب أن يقبل المجتمع طواعية وعبر تحوّل ثقافي وتربوي مديد التغيير لكي تصبح الدول علمانية فعلاً". وشرحت لكمليكا أنّ لبنان وَجَدَ صيَغةً سياسية اجتماعية تراضت عليها جميع أقليّاته الدينية والاثنية عام 1943. فلماذا كان يفشل دائماً ويصل إلى الحرب الأهلية؟ أجاب كمليكا:"أي حلّ داخلي في بلد تتعدّد فيه الأقليات عبر المشاركة في السلطة، الخ، لم يكن كافياً. وخاصة في دول تقع جغرافياً في جوار صعب. وموقع لبنان الجغرافي صعب وخطر بجوار اسرائيل وسورية. هذا كان واقع الحال في أوروبا منذ قامت الدولة-الأمّة، فكانت كل دولة قويّة تغزو جارتها الأضعف بداعي الدفاع عن الأقليّة التي تعيش في أراضي الجارة. وكان غزو ألمانيا النازية لمعظم جيرانها في الحرب العالمية الثانية بداعي الدفاع عن الأقليات الألمانية في تلك الدول. عندما انهارت الدولة في لبنان عام 1976، ملأ جيرانه الفراغ، وهكذا، فالدول المتجاورة تستعمل الأقليات للتدخّل في شؤون بعضها لكن المسألة أكثر تعقيداً من مجرد جوار صعب، بل الأمور تصبح أهم داخل الدول المتعدّدة نفسها. بعد تفسّخ يوغسلافيا، برزت في كل كيان مشلكة أقلية ينتمي أفرادها إلى أكثرية في كيان آخر. وفي لبنان لم يكن اسهل من مبدأ التخوين بسبب التعدّد الكبير في المذاهب ما سهّل تدخّل دول خارجية بداعي الحماية. لكنْ حتى لو أُضيف البعد الخارجي والجوار الجغرافي الصعب، فإنّ الأسباب الداخلية لا يمكن اغفالهُا. إذ واجب مَن هو في موقع السلطة أن يراعي الداخل تماماً كما يراعي الخارج لكي يستحق الشرعية. فماذا ستفعل الأقليّة داخل بلد ما إذا لم تحصل على حقوقها ولم يسمح لها مَن في السلطة بالمشاركة في الحكم أو في تحسين أوضاعها؟ إنّها ستسعى إلى ضمانات خارجية أو إلى دعم خارجي. وهذا يحصل في كل مكان فيه أقليّات. ستتخلّى الأقليات عن الرعاية والحماية الخارجية مقابل ضمانات من شركائها في الوطن. وربما هذا لم يحصل تماماً. فقد يختلف اللبنانيون على المناصب العامة والوزارات وهذا عادي. أمّا أن يصبح الأمر متعلّقاً بأمن وطمأنينة أي مجموعة وتفشل أقليّة ما في الحصول على ضمانات وامتيازات من الآخرين، فإنّها ستشعر بتهديد وجودها وربما تسعى إلى بناء دولة ضمن الدولة. كان يمكن للبنان مثلاً أن يمنح ديموقراطية للجميع بتضحية من الكل مقابل أن تتعمّم البحبوحة". هذا حصل في لبنان: إذ عندما شعرت كل طائفة أنّها مهدّدة حصّنت نفسها في كانتون. وكان"حزب الله"الأكثر شعوراً بمنطق تهديد الآخرين للجماعة الشيعية التي انبثق منها فبنى دولته وأمنه الذاتي. كما بنت"القوّات اللبنانية"المجتمع المسيحي في الكانتون في زمن الحرب، وتحصّن الدروز في الشوف وعاليه وهم أصغر الأقليات الخمس الكبرى في لبنان. * أكاديمي لبناني - كندا.