يرمي الاتفاق الذي توصلت اليه ليبيا والاتحاد الأوروبي إلى إكمال الحلقة المفقودة من مسار الشراكة الأورومتوسطية الذي انطلق مع تونس في عام 1995 وانتهت حلقتاه الأخيرتان مع سورية والجزائر. وكانت العلاقات الأوروبية - الليبية ارتدت طابعاً خاصاً اختلف عن المسارات العربية الأخرى بسبب العقوبات الدولية التي أخضعت لها ليبيا بين عامي 1992 و1999، ما وضع البلد خارج إطار الشراكة الأورومتوسطية. إلا أن الزعماء الأوروبيين بدأوا بالتدافع أمام خيمة العقيد القذافي بعد تسوية ملف"لوكربي"في أواخر العقد الماضي وتسليم ضابط الأمن المُشتبه بضلوعه في القضية عبدالباسط المقرحي إلى القضاء الأسكتلندي، ما أدى إلى معاودة إدماج البلد في المجتمع الدولي. ورأى وزير الخارجية المالطي السابق مايكل فراندو الذي يعرف ليبيا جيداً أن التفاهم مع نظام العقيد القذافي مُفيد جداً للغرب، كون ليبيا"التي تقودها حكومة علمانية تشكل حصناً ضد الأصولية في أفريقيا الشمالية التي تسعى الى احتواء التمدد الإسلامي المُتشدد". وأكد أن ليبيا لها أهمية اقتصادية كبرى لأوروبا والولاياتالمتحدة على السواء بالنظر الى ثروتها الكبيرة في النفط والغاز. ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى الاتفاق الذي سارعت مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي بنيتا فريرو فالدنر إلى توقيعه مع مسؤولين ليبيين في طرابلس في تموز يوليو من العام الماضي، بعد يوم واحد من الإفراج عن الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني الذين احتجزتهم ليبيا طيلة ثماني سنوات بعدما اتهمتهم بحقن أطفال ليبيين بفيروس الأيدز. اتفاق شامل وعادت فالدنر أخيراً إلى ليبيا للتوقيع على اتفاق شامل للتعاون يُغطي الجوانب السياسية والاقتصادية، وهو يختلف عن اتفاقات الشراكة التي توصل اليها الاتحاد مع بلدان عربية متوسطية، لكنه يرمي إلى أهداف مشابهة. وكان مسؤولون ليبيون عقدوا جلسة مباحثات مع ممثلين للمفوضية الأوروبية يوم الأحد 13 أيلول سبتمبر الماضي في العاصمة طرابلس وُصفت بأنها تدشين لبداية العمل الرسمي بين الجانبين ونقطة انطلاق لإقامة إطار سياسي للشراكة والتعاون في المستقبل، بعدما ظلت ليبيا مُستبعدة من مسار برشلونة منذ بدئه عام 1995. وأتت الجلسة قبيل زيارة فالدنر بهدف وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق الذي يُغطي الحوار السياسي والتعاون الاقتصادي والتجاري بين الجانبين. كذلك سيُغطي الاتفاق قضايا الطاقة والتبادل التجاري والسياسات الضريبية والجمارك. واللافت أن التوصل إلى الاتفاق جاء بعد شهر فقط من توصل المفاوضين الأميركيين والليبيين إلى اتفاق على دفع ليبيا تعويضات لأسر ضحايا اعتداءات إرهابية منسوبة الى ليبيا في ثمانينات القرن الماضي، ما يدل على وجود تناسق في المواقف الغربية. والظاهر أن الليبيين حصلوا على تنازلات من الأوروبيين تخص تنزيل سقف الشروط السياسية مقارنة باتفاقات الشراكة التي تم التوصل اليها في الماضي مع البلدان العربية المتوسطية، إذ أن الاتحاد الأوروبي غض الطرف على ما يبدو عن مطلب الإصلاحات السياسية وما يستتبعها من التزام ضمان التعددية وحرية الإعلام واستقلال القضاء. وهذا ما جعل نائب وزير الخارجية الليبي للشؤون الأوروبية عبدالعاطي العبيدي رئيس وزراء سابق في السبعينات يُوضح في تصريحات صحافية أن الاتفاق الذي يتفاوض عليه الجانبان وسيتم توقيعه أثناء زيارة فالدنر"يؤكد على احترام الإجراءات القانونية التي تخصهما". لكن الأرجح أن هناك خلافاً حول هذه النقطة بين فريقين من البلدان أعضاء الاتحاد، وهو الخلاف الذي ظهر في الماضي بين البلدان المطلة على المتوسط فرنسا وإيطاليا واسبانيا من جهة والبلدان الشمالية هولندا والسويد وألمانيا وبريطانيا من جهة أخرى في شأن التعاطي مع ملف حقوق الإنسان في كل من مصر وتونس وسورية. ويجدر التذكير بأن وزير خارجية بلجيكا كاريل دي غوشت صرح الى صحيفة"دي ستاندارد"De Standaard البلجيكية في أعقاب التوصل إلى الاتفاق الليبي ? البلغاري في 23 تموز يوليو الماضي بأن على الاتحاد الأوروبي ألا يُخفف الضغط على النظام الليبي في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. وكان دي غوشت يُعلق على قرار بلغاريا شطب الديون المستحقة على ليبيا وقيمتها 54 مليون دولار، لقاء إطلاقها الممرضات. وتشاطر عواصم أوروبية عدة الموقف الذي أطلقه علناً الوزير البلجيكي مُعتبرا أن التطبيع بين الاتحاد وليبيا"ينبغي أن يكون عبر مسار طويل تلتزم ليبيا خلاله التقيد بمعايير كثيرة خصوصاً في مجال حماية حقوق الإنسان". غير أن التباعد في التعاطي مع هذه المسألة تم تذليله على ما قال ديبلوماسيون أوروبيون. وهذا يعني أن الكلمة الأخيرة في صوغ سياسة الاتحاد إزاء ليبيا كانت لتيار البراغماتية الذي يقوده الرئيس الفرنسي ساركوزي ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلوسكوني. ويأتي الاتفاق الجديد استكمالاً للاتفاق الأول الذي وقعت عليه فالدنر ووزير الخارجية الليبي عبدالرحمان شلقم في طرابلس في 23 تموز يوليو الماضي لتطوير العلاقات بين الجانبين بالعمل على إقامة شراكة أوروبية ليبية في مجالات عدة. وأقر في هذا الإطار تسهيل الدخول الموسع للصادرات الليبية، خصوصاً الزراعية والبحرية، إلى السوق الأوروبية وتقديم منح دراسية للطلاب الليبيين للدراسة في الجامعات الأوروبية وتدريبهم، إضافة إلى تقديم مساعدات تقنية في مجال التنقيب عن الآثار والترميم والصيانة. وشمل الاتفاق المتكون من صفحتين فقط، تقديم مساعدات أوروبية للأطفال الليبيين المصابين بفيروس الأيدز في بنغازي. وربما الأهم من ذلك أن الاتفاق أقر منح تأشيرات شانغن، التي تغطي الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق الذي يحمل هذا الاسم، للمواطنين الليبيين وفق التصنيف"أ"، الذي ينص على منح هذه التأشيرة فى مدة تراوح بين 24 و 48 ساعة، إلى جانب التزام الاتحاد الأوروبي توفير منظومة لحماية الحدود الليبية براً وبحراً وتركيزها على نفقته. بروكسيل المحطة الأولى وفي مقابل الاهتمام الأوروبي بليبيا وثروتها النفطية، يُعير العقيد القذافي الذي قال إنه لا يرغب في صداقة أميركا، اهتماماً خاصاً بتطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، إذ كان مقر المفوضية الأوروبية في بروكسيل أول عنوان غربي وطئته قدماه عام 2004 بعد خروجه من العزلة ورفع العقوبات الدولية عن نظامه. وفتحت جولته على عواصم أوروبية رئيسية في أواخر السنة الماضية صفحة جديدة في العلاقات وأظهرت أن أوروبا تحظى بالأولوية في رؤيته للعلاقات مع الغرب. وتكريساً لهذا الود المتبادل اضطر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الى تدشين أول جولة له في القارة الإفريقية العام الماضي من طرابلس بدافع البراغماتية أيضاً، فهو يدرك الثقل السياسي للمال الليبي في القارة، إضافة الى تطلع الشركات الفرنسية الى السوق الليبية الواعدة. وأطلق ساركوزي أثناء تلك الزيارة جملته الشهيرة"ليبيا هي بوابة أفريقيا". ومعلوم أن زيارة الزعيم الليبي إلى باريس أثارت عاصفة من الاحتجاجات لدى منظمات غير حكومية وفي وسائل الإعلام احتجاجاً على أوضاع الحريات في ليبيا، خصوصاً بعد الاتفاق الذي توصلت اليه فرنسا وليبيا لإنشاء مفاعل نووي سلمي. وعلى رغم مقاطعة الزعيم الليبي القمة الأوروبية المتوسطية الأولى التي استضافتها فرنسا في الثالث عشر من تموز يوليو الماضي، والتي أسست الاتحاد المتوسطي، لم تهدأ حركة الوفود الاقتصادية والديبلوماسية التي تتردد بكثافة على العاصمة الليبية في ما يُشبه سباقاً على كسب الصفقات. وكانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أحد أبرز هؤلاء الزوار، في خطوة حاسمة لتطبيع العلاقات الثنائية، ما شكل ضوءاً أخضر لحلفاء الولاياتالمتحدة. ومن هذه الزاوية يمكن اعتبار الاتفاق الجديد الذي وقعت عليه فالدنر مع وزير الخارجية الليبي شلقم إطاراً دائماً لربط ليبيا بعربة برشلونة، وقد يكون في مثابة تمهيد لضمها إلى الاتحاد المتوسطي. فليبيا هي البلد العربي الوحيد الذي لم يُوقع على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي بسبب العقوبات الدولية التي صنفته"بلداً مارقاً". المخزون الأول أفريقيا وما كان لذلك الوضع أن يستمر لأن العواصم الأوروبية تدرك أهمية التعاون مع ليبيا بالنظر الى موقعها الجغرافي في قلب المتوسط وشمال أفريقيا، إضافة الى امتلاكها احتياطاً ضخماً للنفط والغاز وسوقاً اقتصادية واعدة. فهي تملك طاقة إنتاج تقارب مليوني برميل يومياً، في حين أن مخزونها النفطي هو الأول في أفريقيا إذ يناهز 40 بليون برميل نيجيريا 31 بليون برميل والجزائر 12 بليون برميل. أما الغاز الطبيعي فلا يقل مخزونه المعلوم عن 1300 بليون متر مكعب، بغض النظر عما ستسفر عنه أعمال التنقيب الجديدة. وعلى هذا الأساس يعتبر الليبيون أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إليهم أكثر مما هم في حاجة اليه كونهم لا يُصدّرون منتجات صناعية ولا زراعية الى البلدان الأوروبية. ولكن، ما كان في وسع ليبيا البقاء خارج المنظومة الإقليمية التي أقامها الأوروبيون مع جيرانهم على الضفتين الشرقية والجنوبية للمتوسط، وبينهم صربيا التي كانت تُصنف في خانة الدول"المارقة"أيام سلوبودان ميلوسيفيتش، والتي تسعى حالياً إلى إرساء علاقات مؤسسية مع الاتحاد. وكان البرلمان الصربي صادق في 16 أيلول سبتمبر الماضي على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي في جلسة قاطعها نواب اليمين القومي. واعتبرت الأوساط الأوروبية في بروكسيل الاتفاق خطوة أولى نحو إدماج صربيا في الاتحاد في نهاية المطاف، أسوة بالبلدان الاشتراكية السابقة مثل رومانياوبلغاريا وبولندا. قُصارى القول أن الاتفاق الجديد سيُكرس إدماج ليبيا في سياسة"الجوار الجديد"التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي اعتباراً من عام 2005 والتي شكلت عنوان انعطاف في تعاطيه مع البلدان الواقعة في دائرة محيطه الجغرافي المباشر. وبات منظور"الجوار الجديد"إطار العلاقات الوحيد بين الجانبين للفترة الفاصلة بين 2007 و2013. ومن هذه الزاوية تكون ليبيا كرست نهائياً خلع ثوب"الدولة المارقة"الذي ألبسها إياه الغرب عنوة، واستعادت مقعدها الطبيعي في المجتمع الدولي. لكن، تترتب على اتفاقات الشراكة تعهدات بإصلاح النظام السياسي وتكريس التعددية وتحسين أوضاع حقوق الإنسان، ولم يتطرق الأوروبيون مع ليبيا الغنية بالنفط الى هذه المسائل على ما يبدو سوى من باب رفع العتب. وعلى رغم تأكيد الوزير المالطي السابق مايكل فراندو، المُطلع على الشؤون الليبية أن"الانفتاح الخارجي سيعقبه انعطاف كبير في السياسة الداخلية"، لا يوجد ما يؤكد ذلك لأن القيادة الليبية أدركت أن حماسة الأوروبيين للإصلاح السياسي مسألة نسبية تُقاس بمكيال المصالح التي يجنونها من البلد الشريك. * من أسرة"الحياة"