زار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الأربعاء الماضي ليبيا، بعد أسبوعين من جولة على كل من الجزائر وتونس كانت الأولى له خارج أوروبا، وشكلت الزيارة مؤشراً قوياً إلى تزايد وتيرة المنافسة الأميركية ? الأوروبية على المغرب العربي، ولم ترتد طابعاً بروتوكولياً لترضية الليبيين بعد زيارة البلدين المجاورين، وإنما كان مدلولها السياسي وحصادها المالي واضحين إذ تُوجت بصفقات مهمة في مجالي الأسلحة والطاقة النووية. كذلك تزامنت الزيارة مع تسوية ملف الممرضات البلغاريات الخمس اللائي كن سجينات في ليبيا منذ ثماني سنوات، برفقة طبيب فلسطيني يحمل الجنسية البلغارية، وكان الثمن التوقيع على اتفاق هو الأول في نوعه بين ليبيا والاتحاد الأوروبي، وقعت عليه مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي بنيتا فريرو فالدنر ومساعد وزير الخارجية الليبي عبدالعاطي العبيدي، وهو يسهل إدخال المنتوجات الزراعية والصناعية الليبية الى الأسواق الأوروبية. لكن فرص تنفيذ الاتفاق ضئيلة لأن الاقتصاد الليبي يعتمد أساساً على تصدير النفط والغاز. واللافت أن زيارة ساركوزي وقبلها اتصالات مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي بنيتا فريرو فالدنر، أتت في أعقاب تحركات أميركية، أبرزها زيارة وفد من النواب الأميركيين لتونس والمغرب في إطار الجمعية البرلمانية لمنظمة الحلف الأطلسي، وجولة مستشارة الأمن الداخلي في البيت الابيض فرانسيس تاونسيند على كل من ليبيا والجزائر مطلع الشهر الجاري. وأظهرت محادثات ساركوزي في الجزائر وتونس كما في ليبيا سعي باريس الى استعادة المواقع الضائعة وتعزيز فرص المنافسة مع الولاياتالمتحدة خصوصاً في قطاع النفط والغاز والطاقة النووية والأسلحة، وبعدما تعرض ساركوزي لانتقادات قوية من الإعلام الليبي الذي عاب عليه"حشر أنفه في قضية الممرضات البلغاريات"،إذ صحيفة"الشمس"على كلمة ساركوزي بعد فوزه والتي تعهد خلالها تبني قضية الممرضات بالقول:"إن دماء الأطفال الليبيين ليست سلعة انتخابية"، لكن العلاقات تحسنت وتهاتف ساركوزي مع القذافي أربع مرات قبل سفره إلى ليبيا، والثابت أن الرئيس الفرنسي يشعر، بعيداً من التصريحات الموجهة للاستهلاك الانتخابي، بپ"خطر"تمدد الشركات الأميركية في بلد غني بالنفط ومُقبل على عملية"انفتاح"واسعة على الشركات الغربية. أكثر من ذلك، فساركوزي مؤتمن على"إرث"من الصفقات التي حصدتها فرنسا في عهد سلفه جان شيراك، ويشعر أن عليه استكمال تنفيذها وزيادتها. ويُعتقد أن الاتفاق العسكري الذي لم يُعلن عن فحواه، يخص الصفقة المتعلقة بتحديث 30 طائرة حربية من طراز"ميراج أف 1"كانت اشترتها ليبيا من فرنسا قبل فرض حظر دولي على تصدير الأسلحة إليها. وفي هذا الإطار أجرت شركتا"أستراك"وپ"داسو للطيران"مفاوضات فنية مع الجانب الليبي لتحديد كلفة التحديث التي تتراوح بين 10 و20 مليون يورو لكل طائرة. كذلك أبرمت مجموعة"إيدس"EADS للتصنيع الحربي صفقة مع ليبيا لتجهيزها بنظام رادار لمراقبة الحدود والمواقع النفطية، وأبدى الليبيون ميلاً الى نظام الدفاع الجوي"أستر"Aster. ولم تقتصر خطة التحديث الليبية على القوات الجوية إنما شملت أيضاً صفقة مماثلة مع فرنسا لتطوير الدفاعات البحرية، إذ وقع الليبيون بالأحرف الأولى في تموز يوليو الماضي على صفقة مع شركتي"تيليس"Thales وپ"المنشآت الميكانيكية"في مقاطعة نورماندي شمال لبناء ست خافرات سواحل مجهزة بالصواريخ الفرنسية - الإيطالية"أوتومات"بقيمة 400 مليون يورو، فيما توصلت مجموعة"إيدس"إلى اتفاق مع مؤسسة"ليبيا أفريكا بورتوفوليو"لإقامة مركز للتدريب والصيانة في مجال الطيران الحربي. ومعلوم أن الصفقات مع فرنسا شملت كذلك اتفاقاً مبدئياً بين مجموعة"إيدس"EADS والخطوط الليبية الأفريقية في شراء 14 طائرة من طرازي آرباص أ319 وآرباص أ320 ، وست طائرات أخرى من طراز آرباص أ330 ، وتقدر قيمة الصفقة ب1.7 بليون دولار. وتعتبر الصفقة الأكبر التي حصدتها المجموعة الفرنسية منذ ثلاثين سنة. وما زالت فرنسا تسعى الى حصة رئيسة من المشاريع العسكرية الكبيرة التي تخطط لها ليبيا للمرحلة المقبلة، والتي تُقدر موازنتها الإجمالية بنحو 20 بليون دولار. وأعطت الحكومة الفرنسية السابقة موافقتها على بيع طائرات جديدة من طرازي"رافال"وپ"تيغر". وعلى رغم تلاقي المصالح الأميركية ? الأوروبية في ملف الممرضات البلغاريات، فليس خافياً السباق لضمان حصة مهمة لكل طرف في السوق الليبية. وبعدما حقق الأميركيون تقدماً لافتًا في مجال النفط أعلنت المفوضية الأوروبية بعد تسوية ملف الممرضات عن رفع علاقاتها مع ليبيا إلى مستوى الشراكة أسوة بالبلدان المغاربية المشاركة في مسار برشلونة. وكانت المساعي لتسوية ملف الممرضات مرآة عكست السباق الخفر بين أوروبا وغريمتها أميركا على خطب ود الليبيين، مع الوفاء بالتعهدات التي قطعتاها لبلغاريا. وبرزت في المفاوضات الماراتونية التي قادت إلى تسوية الملف وعودة الممرضات الخمس إلى بلدهن، ثلاث سيدات هن قرينة الرئيس الفرنسي سيسيليا ساركوزي التي زارت ليبيا والتقت القذافي مرتين الأسبوع الماضي قبل زيارة زوجها، ومستشارة الأمن الداخلي الأميركية فرانسيس تاونسيند ومفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي بنيتا فريرو فالدنر. زارت تاونسيند طرابلس الغرب في 9 تموز الجاري واجتمعت مع القذافي في خيمته في ثكنة العزيزية، وحرصت على تسليمه رسالة من رئيسها جورج بوش وبحثت معه في مسائل ثنائية وملفات حساسة في مقدمها ملف"لوكربي"ومسألة الإفراج عن الممرضات البلغاريات. وأعلنت تاونسيند من العاصمة الليبية عن قرار واشنطن تسمية سفير في طرابلس الغرب للمرة الأولى منذ 35 سنة، وهو جين كريتز الذي يشغل الآن منصب نائب رئيس البعثة في السفارة الأميركية في تل أبيب، وقالت إن بلادها ستبني سفارة كبيرة في طرابلس، وهو مؤشر إلى أن العلاقات مقبلة على مرحلة جديدة. والطريف أن سيدة أخرى سبقت تاونسيند إلى ليبيا لبحث المواضيع نفسها تقريباً هي بنيتا فريرو فالدنر التي زارتها في 15 و16 حزيران يونيو مع وزير الخارجية الألماني جوزيف شتاينماير بصفته رئيس المجلس الوزاري الأوروبي، ثم عادت إليها خلال الشهر الجاري في إطار مسعى الى رفع العقبة الرئيسة أمام التطبيع الليبي ? الغربي، وهو ملف الممرضات. وعادت فالدنر إلى ليبيا خلال الشهر الجاري مرتين لمرافقة سيسيليا ساركوزي التي يبدو أن دورها كان حاسماً في إقناع المسؤولين الليبيين بضرورة التعهد بدفع تعويضات الى أسر الأطفال الليبيين ال460 المصابين بالفيروس المسبب لمرض نقص المناعة المكتسب الإيدز في مستشفى بنغازي، خصوصاً أسر الأطفال ال56 الذين توفوا بهذا المرض. والأرجح أن باريس هي التي توسطت لدى قطر لتأمين قسم من التعويضات التي تُقدر ب460 مليون دولار بواقع 1 مليون دولار لكل أسرة. وتكفلت فالدنر بالتفاوض مع وزير الخارجية الليبي عبدالرحمن شلقم ونائبه عبدالعاطي العبيدي على مشروع الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، الذي اشترط الليبيون التوصل إليه قبل الموافقة على صفقة الممرضات. والظاهر أن جهود السيدات الثلاث تكاملت لإنضاج الاتفاق مع الجانب الليبي، لكنها جعلت الطريق سالكة أيضاً لمزيد من المنافسة في المستقبل. ومع العودة المرتقبة لساركوزي إلى المنطقة في كانون الأول ديسمبر المقبل والتوافد المرتقب للشركات الأميركية ورجال الأعمال على البلدان المغاربية، يُرجح أن تُبصر المنافسة انعطافاً جديداً في المرحلة المقبلة. وسيكون الصراع على الصحراء الغربية عنواناً لتعديلات لافتة في مواقف الفرقاء الغربيين لاح بعضها في الأفق، إذ بدا أن واشنطن التي كانت الأقرب تقليدياً الى الموقف الجزائري باتت أميل الى المغرب في هذا الملف مع زيارة ساركوزي الى العاصمة الجزائرية. وفي الوقت نفسه ظهرت تسريبات من باريس مفادها أن فرنسا قد تُلجم اندفاعها التقليدي لدعم المغرب في الملف الصحراوي. وفي كل الأحوال يساهم انقسام الدول المغاربية وصراعاتها الصغيرة في إضعاف موقعها أمام الدول الغربية، ويُفوت عليها فرصاً ثمينة للتنمية ويجعلها رقماً صغيراً في الصراع الدولي على مناطق النفوذ. * صحافي من أسرة"الحياة"