إنها تمطر فوق الأبنية الخاوية المدمرة، مطراً مظلماً رمادياً قاتماً من زخّات لونية هوجاء متشابكة تعصف بالنوافذ المشرعة على الذكريات والشرفات المنهارة والطبقات المنزلقة على أعتابها. إنها العمائر التي ظلت واقفة وفي وقوفها شيء من الشموخ والاستمرار، بينما مشى الأحياء الناجون إلى مصائرهم وقد حملوا ما تبقى من أمتعتهم وفرّوا الى المجهول. لا نرى الناس في لوحات الفنان التشكيلي الشاب أيمن بعلبكي في معرضه الجديد في غاليري أجيال بيروت، بل تصفعنا هيئات الأبنية المهجورة وواجهاتها المدمرة التي كانت مخلفات العدوان الإسرائيلي في حرب تموز يوليو. الأبنية المتداعية والبائسة والجريحة التي تغيرت هيئاتها وملامحها ووظائفها، فأمست غارقة في الصمت الذي ينخر فراغاتها والخواء الذي تتردد أصداؤه في منازلها، لكأنها مناظر لوجوه بشرية مشوهة إلى الأبد، كي تظل شاهدة على زمن الرعب والظلم والاستبداد. 17 لوحة أكريليك على قماش وأعمال تجهيزية تحمل رؤى كابوسية مضطربة مرصودة بالعذابات والفواجع ومرارة التعرض للقصف والتهجير. والمعرض الذي يتخذ عنواناً له"تغيّرات رؤيوية"، إنما يعكس رؤى من نهاية العالم وخرابه، في كثير من الألم والتمرد والتحريض، وعلى قدر كبير من الحساسية اللونية والتقنية التي تنعكس على الوسائل المحدثة في تصعيد اللغة الجمالية للمضمون التعبيري. وهذا التصعيد هو مدعاة استخدام اللطخات اللونية السميكة والتعجين، فثمة شعث لوني وفوضى وزوابع من البقع والنقاط واللطخات المتلاطمة الاتجاهات، سرعان ما تقوم بتشييد التكوين العمودي للأبنية، في استدراج ينقل مدى التوتر والعصبية، في طريقة نثر اللون، في فضاء اللوحة ومحمولاتها. بين اللوحة - التجهيز والتجهيز المستقل في الفراغ الثلاثي البعد، يحيل المعرض الى تأمّل العناصر المستقاة من المواد الفقيرة التي تعكس وسائل العيش المستجدة في ظل الحرب، ضمن منطق استبدال الشكل أو الشيء المرسوم بالشيء نفسه. هكذا تتبدى تكاوين تجهيزية من الفراش الإسفنجي ذي القماش المزهّر والمطوي إلى لفائف مع قوارير المياه وحقائب السفر والطناجر والصحون... وسواها من الأمتعة البسيطة المحزومة بالحبال، ما يسهل نقلها على ظهر سيارة من مكان إلى آخر، كونها هي كل ما تبقّى من متاع الحياة في البيت الذي احترق وتهدم، ثم لا تلبث ان تتحول هذه الأمتعة المتقشفة البدائية الى أشياء مقدسة بل أشياء ثمينة حين تتغطى باللون الذهبي. ذلك أن هذه الأشياء أمست بديلاً للبيت، أي للمأوى حين لا يعود من حائط يتكئ عليه الإنسان كي يسند رأسه، عندها تكون نهاية العالم. يلعب الرسام على التعارض بين الفن الفقير والمظهر الذي يمنحه استخدام أوراق الذهب وما تضفيه من قداسة موهومة أو محلومة لشعب محكوم بالمقاومة حتى الموت. تحت سماء غائمة دوماً ينقشع النور الشحيح الأصفر، النور المريض من واجهة مبنى يحمل على ظاهره عبارة Sisyphos مكتوبة بأنابيب النيون الأزرق. وكأن منظر الدمار هو شيء قدري مأتمي وجحيمي شبيه بأسطورة سيزيف، غير أن كل دمار تقابله تحديات العيش وإعادة الإعمار. وتظهر دواليب مكتوب عليها عبارة"للحرق"تأكيداً للأحداث الأخيرة التي عرفت موجة حرق الدواليب في الشوارع. من أزمة وجودية حادة، تنبع عناصر تعبر عن مدى التجذّر والانتماء إلى واقع مأزوم، الواقع المشحون بنظرة نقدية، والحامل عطوب نتائج الحرب وتداعياتها، التي لا يمتلك أيمن بعلبكي سواها. فهو رأى النور مع اندلاع الحرب اللبنانية من مواليد العام 1975، تابع دراسته في باريس وشارك في الكثير من المعارض وفاز بأكثر من جائزة تقديرية عن أسلوبه في معالجة الموضوعات الإنسانية، من وجوه وأقنعة وخوذات، ناهيك عن حالات التهجير التي عاشها وشكلت مدارك طفولته.