في مستوى عالٍ من التنظيم والاختيار والعرض والتقديم، يطل معرض الفن اللبناني الذي يقام في أجنحة متحف نقولا سرسق بيروت، حتى أواخر شهر كانون الأول ديسمبر المقبل، كحدث ثقافي متميز تحت مظلة الفرنكوفونية، نظمه رئيس لجنة المتحف غسان تويني ومديرة المعارض فيه سيلفيا عجميان بالتعاون مع وزير الثقافة غسان سلامة، على ألا يكون مجرد بانوراما تقليدية استعراضية، لمحتويات مخازن متحف سرسق ومجموعة الوزارة، بل ليشهد على أهمية الفن اللبناني بغزارته وتنوع اتجاهاته وأساليبه ومدارسه طوال قرن من الزمن أواخر القرن التاسع عشر - أواخر القرن العشرين. 153 لوحة ومنحوتة وعملاً تجهيزياً ل85 فناناً، هي قوام المعرض الذي يركز على بعض المتغيرات الجوهرية والملامح التأسيسية لهذا الفن، بقواعده الأكاديمية الكلاسيكية أو برموزه التنويرية الحديثة وبمفاصله الأساسية منذ جيل رواد النهضة المؤسسين، والجيل الانطباعي الذي أعقبه، ومن ثم جيل الحداثة وصولاً الى تجارب الجيل الجديد. الانتقائية على حساب الشمولية، تلك هي الخطة التي اتبعتها سيلفيا عجميان كبديل عن استعراض مسطح. ذلك ما أفسح المجال لاستكشاف بعض المحطات البارزة في انتاج بعض الفنانين في مساراتهم التطورية أو انطلاقاتهم اللافتة. هكذا يعيد متحف سرسق الاعتبار لأول نصب نحتي وُضع في ساحة عامة في لبنان وهو للنحات الرائد يوسف الحويك الذي لم يحظ بالتقدير في زمانه، فأزيل التمثال الذي جعله يرمز لشهداء 6 أيار مايو عن ساحة البرج واستُبدل بتمثال آخر من صنع الايطالي مازاكوراتي العام 1948. وقد وضع على قاعدة حجرية في حديقة المتحف بعدما خضع لعملية تنظيف من جراء الاهمال. على مقربة من منحوتة سلوى روضة شقير التي رُممت أيضاً حجارتها بيتاً بيتاً، بعدما تعرضت لكسر اثناء الحرب، وهي تعود لتكمل مسار القوافي الشعرية كقصيدة بصرية بتجريدية، وتحضر عشتروت بعربتها الاسطورية لتخاطب عين الزائر في تكوين - بمادة الحديد - يعكس قوة اسلوب عادل الصغير في معالجة الحركة الرشيقة للكتلة، فضلاً عن تجارب مميزة على الحجر والرخام لأعمال فازت بجوائز معارض الخريف منذ أوائل الستينات، لكل من عارف الريس وميشال بصبوص وزافين حديشيان وصولاً الى بعض التجارب الشابة من بينها تكاوين نديم كرم حديد وأسلاك معدنية. الدخول الى الجناح الشرقي من قاعات الطبقة الأولى من المتحف، يضع الزائر وجهاً لوجه أمام انجازات المعلمين الكبار الأوائل، الذين بدأت معهم نهضة الفن في لبنان أواخر القرن التاسع عشر، وبهم ارتقى فن "البورتريه" ليضاهي الصورة الفوتوغرافية. وبذلك وصلتنا صور الأجداد ونخبة وجوه العائلات التي تنتمي الى الطبقة الاجتماعية الراقية. من الستارة السوداء التي تحتل خلفية وجه لداوود القرم - أول رسام "شوفاليه" في تاريخ الفن اللبناني - الى الانارة الملونة في باستيل حبيب سرور ولمسات كل من خليل الصليبي وجورج داوود القرم، انتقالاً الى وجه الشاعر خليل مطران الذي صوره إدمون سوسة واحد من الفنانين الذين عاشوا في مصر بلطخات لونية متحررة ومضيئة. والى ذلك الجناح الشرقي الكلاسيكي، سارع غسان التويني لإغناء تلك الأعمال المختارة من التراث التشكيلي القديم، بإضافة لوحتين لحبيب سرور قدمتهما مارسيل ربيز كهبة للمتحف، وتمثلان وجه جديها د. قسطنطين وأوجيني ربيز، فضلاً عن لوحة غير معروفة في انتاج الحويك، تظهر للمرة الأولى، وهي عبارة عن زيتية تصور اجنباً من حقل وجدار بيت تحت سماء زرقاء، وذلك بألوان صافية واختصار وتبسيط مدهشين، مما يطرح اسئلة جديدة حول توجهات الحويك ومقارباته اللونية كرسام طليعي للمناظر الطبيعية. وتعلن مائيات كل من عمر الأنسي وجورج سير، روابط صداقة بينهما توطدت على أساس التحرر في مزاولة التصوير في الهواء الطلق، واطلاق نزوات العين في قطفها للمشاهد الحية على أنها خطوط سريعة وسحابات ألوان. هكذا أخذت تظهر بيروت كعاصمة حديثة منفتحة على الحياة العامة وبطبيعتها المتوسطية المميزة واستعداداتها للاندماج في الاتجاهات الحديثة. وبيروت بعيون فنانين كثر، تخبئ حنيناً لعادات وتقاليد تتجلى في أعياد لونية وصباحات مزهرة في أعمال خليل زغيب ولوثي عضيمي، والمدينة تغدو قامة امرأة جميلة في جدارية ميشال المير، ومكاناً تلجأ اليه القطط المتسكعة في أعمال ابراهيم مرزوق. وتتبدى أيضاً بيروت كنسيج من ذكريات في أعمال كل من لور غريب وفيصل سلطان ولا ندري لماذا يغيب أمين الباشا عن ذاكرة بيروت في متحف سرسق وعلى ضوء أي مبررات!! ويتمتع جيل الحداثة في الستينات من القرن الآفل، بالحضور الأقوى والأهم، لوفرة الأعمال التي دخلت ضمن مقتنيات مجموعتي وزارة الثقافة والمتحف. وهي تعكس العصر الذهبي لانفتاح بيروت على مدرسة باريس، ولصعود التجريد بوجهيه الهندسي والغنائي. وما رافقه من ردود فعل. فقد تجاوز فنانو الحداثة اساتذتهم الانطباعيين فحوروا الأشكال وسلبوها ماهيتها وارتباطها بالواقع طارحين أساليبهم التي تجاهر باللطخة اللونية في بناء العمل التشكيلي. فلم يعد المنظور يحفظ تراتبية الأشياء، بل طارت المخيلة الى آفاق من سديم الأحلام والى منتهى الذات، كما يبدو ذلك جلياً في أعمال شفيق عبود وجان خليفة وايلي كنعان وناديا صيقلي وايفيت أشقر وهلن الخال وبول غيراغوسيان. فالطاقة التي تختزنها الضربة على المسطح التصويري تكشف عن زيوح وايقاعات مدهشة للتأمل في السلم اللوني ناديا صيقلي أو مثيرة للجدل والحوار في أعمال عارف الريس، لا سيما حين تقترب تلك اللغة التجريدية من تعبيراتها الوحشية الساطعة في لوحات حليم جرداق. تلك الوحشية التي دجنها أمين الباشا وقربها من نزواتها الطفولية البريئة، ويزداد تساؤل ميشال بصبوص حيال ما يمكن أن تعطيه الطبيعة من اشكال خام هي أشكال تجريدية صافية وغرائبية، بينما يستفيد حسين ماضي من موجودات تلك الطبيعة التي تغدو نظاماً ولوناً وحركة. ويشعر المرء بلسعات اللون وبوميض براق لعلاقات لونية متأججة تخطف البصر، في رحاب قامات كبيرة من الأعمال التجريدية، التي فتحت مدارك البصر على عصر الفضاء والسرعة والتكنولوجيا. واللوحة في ذلك المضمار في تحدٍ وسباق ومغامرة. لكن ثمة من تعاطى مع التجريد من زوايا متعلقة بالحروفية أمثال سعيد أ. عقل ووجيه نحله. وهواجس اختبارية اخرى طرحها التجمع الشرقي المؤلف من ستيليو سكامنغا وعادل الصغير ومنير نجم، للمصالحة بين التراث الشرقي الغني بعناصره المعمارية والزخرفية والأرابسكية والتجريد اللوني في مفهومه الغربي. بينما فتح رفيق شرف في مرحلته الرمادية، صفحة تعبيرية متميزة، أطلت من خلالها تكهنات شاب كان حدسه دوماً يسبقه فيرى أبعد من الواقع، يستشف في غيوب السماء الرمادية نذيراً ينبئ بالعاصفة. فالطيور تصطرع بين أسلاك شائكة أو تحوم بأجنحتها المسننة في خلاء كبير، ليس إلا فضاء لسهول بعلبك هروباً من اكتظاظ المدينة التي كانت على حافة المأساة. ويستهل حسن جوني مرحلة السبعينات، التي تندرج ضمنها أيضاً أعمال سيتا مانوكيان ومحمد الرواس وشوقي شمعون وجميل ملاعب... وغيرهم حيث أعيد الاعتبار للواقع، ولكنه الواقع الجديد المنبثق من أعماق المأساة والخيبات والعلاقات المفككة بين الصور وأحلام المدينة وتناقضاتها. يتبدى ذلك على نسق صريح أكثر في أعمال غريتا نوفل وسمر مغربل وجان مارك نحاس وسواهم من الفنانين الشبان الذين عاشوا متاهات الحرب وانعكست على اساليبهم عنفاً في الاداء وطرائق المعالجة، ونظرتهم المتجهمة والحزينة للواقع فلافيا قدسي وريتا عون وجورج ندره وندى عقل وجورجي شعنين وريما أميوني وغالبية هذا الجيل اعتمدت على الخامات الجديدة والمواد المختلفة، سعياً لايجاد قماشة جديدة للتعبير كما تراءى في اعمال التجريد بين الجدد يوسف عون وآرام جوغيان وأمل داغر ومنهم من حافظ على اللوحة المعلقة ومنهم من كسر رتابة الحامل في أعمال تجهيزية جوزف حرب وفارتان آرور مشدودة الى عامل الوقت سبيلاً لنسيان ذاكرة الحرب.