كانت تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية المكلَّفة تشكيل الحكومة الجديدة، تعتذر عن ذلك لرئيس الدولة العبرية شمعون بيريز، عندما بدأت وكالات الأنباء تنقلُ عن وسائل الإعلام السورية خبر الغارة الأميركية على قريةٍ سوريةٍ تقع على مقربةٍ من الحدود مع العراق. وبحسب الأخبار من سورية أن الغارة بطائرات الهليكوبتر أوقعت ثمانية قتلى من المدنيين. لدينا هنا إذاً خبران، كلاهما يشير الى التوتر الحاصل في الشرق الأوسط، وكلاهما له علاقةٌ بالسياسات الأميركية، وبالانتخابات الأميركية. فقد كان أقطابُ"كاديما"يريدون أن تنجح ليفني في تشكيل الحكومة، لأن البديل لذلك انتخابات مبكرة تقولُ استطلاعاتُ الرأي أن نتانياهو زعيم"الليكود"واليمين هو الذي سيفوزُ فيها، فيتعذّر السيرُ في مفاوضات السلام! انما الذي حصل أنه وفي حين كان بيريز يذهب الى القاهرة ومعه دعم حزبي العمل و"كاديما" ليتبنى علناً مبادرة السلام العربية للمرة الأولى، كانت ليفني قد يئست من القدرة على تشكيل الحكومة الجديدة. وهذا يعني أن ايهود أولمرت سيبقى ثلاثة أشهر ونصف الشهر في السلطة مع حزب العمل حتى الانتخابات. ولن يسلّم الحزبان طبعاً بالهدوء والسلاسة الى حين مجيء الانتخابات وهزيمتهما! ولذا فقد يكون المخفي امكان وقوع أحداث مفاجئة تكون تمهيداً للأرض في مقابل السلام. إذ لو فرضنا أن شمعون بيريز صادقٌ في ما يطرحه في شأن العودة الى حدود العام 1967 في مقابل السلام، فإن العرب لا يمونون على"حزب الله"و"حماس"و إيران، فضلاً عن عدم وجود تنسيقٍ بين سورية والعرب الكبار. وهكذا فإما أن تتوسع الدائرة وتصبح إيران طرفاً في التفاوض وإن في شكلٍ غير مباشر، أو تكون هناك ضربة صغيرة تشمل"حزب الله"ولبنان أو كبيرة تشمل ايران أيضاً خلال الأسابيع المتبقية من ولاية الرئيس بوش، وولاية أولمرت. وقد كان أمراً مفاجئاً أنه حتى الاندفاع السوري للتفاوض مع إسرائيل، ما أرضى الأميركيين. وقد صرَّح مساعد وزيرة الخارجية الأميركية قبل أيام أن سورية لم تفعل ما فيه الكفاية ولا يزال عليها الكثير لتفعله: التوقف عن تسريب السلاح والمسلحين الى لبنانوالعراق، والتوقف عن دعم التنظيمات الفلسطينية المسلَّحة، والتوقف من جانب سورية عن تزويد"حزب الله"بالسلاح، أو اتخاذ سورية طريقاً لذلك. وقد تكون الغارة الأميركية رسالةً ذات جوانب ثلاثة: الأول أنه ليس صحيحاً ان سورية هي عرضةٌ للإرهاب من لبنان أو العراق، بل العكس، أي أن سورية لا تزال مصدِّرةً للإرهاب الى العراق والى لبنان وربما الى بلدانٍ أخرى. والثاني أنه لا ينبغي الاستخفاف بقدرة الأميركيين على الإيذاء حتى لو كانت ادارة بوش في نهايتها، والأوضاع في العراق ليست على ما يرام. والثالث: تغير العلاقة بين إيران وسورية، بحيث ما عاد التوتر بين سورية والولاياتالمتحدة مرتبطاً بعلاقة سورية ب"حزب الله"وإيران بالضرورة. ومن جهةٍ أخرى: هل يعني ذلك انكشاف سورية لجهة المظلة الإيرانية؟ أو أن العلاقة بين الطرفين استنفدت أغراضها؟! ولنعد الى المشهد الشرق أوسطي على مشارف نهاية عهد بوش الطويل. فمنذ ستة أشهرٍ يقول بوش، وتقول وزير خارجيته، انه لا بد من الوصول الى شيءٍ من خلال المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وقد حال دون ذلك حتى الآن: تصلب اليمين الإسرائيلي الذي لا يقبل بالعودة الى حدود العام 1967 في الجولان وفلسطين، وضعف الحكومة الإسرائيلية وترددها خشية أن تخسر لمصلحة اليمين في الانتخابات المقبلة إن سعت الى تسويةٍ سلميةٍ مع الفلسطينيين، وانقسام الفلسطينيين الكبير بين غزة والضفة، واستمرار التوتير مع اليهود لمنع التفاوض من جانب"حماس". وسط هذا كله، طلع علينا بيريز بالموافقة ويا للعجب! على مبادرة السلام العربية. وكما هو معروف، فإن الإسرائيليين عارضوا دوماً الحلول الشاملة ووقّعوا معاهداتٍ جزئيةٍ مع مصر والفلسطينيين والأردن. ولو نظرنا الى الأمر في المشهد الراهن لوجدنا أن الحكومة الإسرائيلية كان وضعها في التفاوض المنفرد مع كلٍّ من أبو مازن والأسد، كلٌّ على حدة، جيداً بل جيد جداً. مع الفلسطينيين تستطيع القول كل الوقت انها حتى لو ردَّت لهم كل الأرض، فإنهم لا يضمنون لها السلام بسبب الانقسام بين"فتح"و"حماس"! ومع السوريين خاض الاسرائيليون أربع جولاتٍ من المحادثات غير المباشرة بوساطة تركية، وبدوا راضين عن النتائج. فلماذا إذاً قبول المبادرة العربية الآن؟ الحل مع الفلسطينيين حتى إن تمّ فهو مُكلف، والتزاماته تتطلب وجود العرب الكبار بالموافقة أو بالحضور أو بالأمرين معاً. واعادة الجولان السورية لا تفيدُ إسرائيل ولا الولاياتالمتحدة في شيء، ما دام السوري لا يستطيع أن يقدم شيئاً في الأمن أو في التعاون الاقتصادي. وهكذا فإنه في الوقت الذي لا يزال الصهاينة المتشددون يتشبثون بالأرض المحتلة ويزيدونها كل يوم، ينصرف صهاينة اليسار والوسط الى التفكير بالمستقبل الذي يتجاوزُ مسألة الأرض: فلا بد من الموافقة على إعطاء الفلسطينيين الأرض التي يريدونها لتقوم الدولة الفلسطينية أو تفقد الدولة العبرية هويتها إذا تكاثر فيها الفلسطينيون. ولا بد من التفكير بالمستقبل الاقتصادي والجيوسياسي للكيان الاسرائيلي، وهذان أمران لا يمكن تصورهما من دون المملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر. ولذا، فإنّ السعي الى السلام الشامل يُعطي سورية والفلسطينيين مظلةً عربيةً ضروريةً للقدرة على تحمل الأعباء والمسؤوليات، ويُعطي من جهةٍ أخرى الدولة العبرية الوضع الذي ترغب فيه أجيالها الجديدة بصفتها دولةً عاديةً وطبيعيةً في الشرق الأوسط. بيد أن لهذه الرؤى"الاستراتيجية"الكبرى لبيريز طواياها وثناياها غير المريحة. إذ ان جمع الفلسطينيين - وإن موقتاً - وراء أبو مازن ليس بالأمر السهل. ف"حماس"لا تقبلُ بأقل من السلطة الكاملة لكي تتنازل عن الانقسام، وهي تقول انها تستطيع التصرف مع إسرائيل، وقد تصرفت بالفعل عندما صاغت التهدئة! لكن"حماس"عالقةٌ بين مصر وإسرائيل، وقد تصغي الى حلٍ وسطٍ إذا خافت الاختناق. والوضع مع سورية أصعب. ذلك أن اندفاعها باتجاه تركيا وإسرائيل رفع عنها الجفاءين الأميركي والسعودي. وفي حين يركز الأميركيون على توقف سورية عن دعم الإرهاب مباشرةً وبالواسطة، يريد السعوديون أن يتوقف النظام السوري عن نشر الاضطراب في البلدان العربية المجاورة. وكان الإيرانيون والإسرائيليون ولأسبابٍ مختلفةٍ طبعاً قد حموا النظام السوري حتى الآن. لكن الإيرانيين كفّوا في ما يبدو عن دعمه لأنهم استردوا المهمات التي كان النظام يؤديها لهم في العقدين الماضيين: رعاية حقوق الشيعة في العراقولبنان وسورية، ودعم ايران في حرب صدام حسين عليها. أما الإسرائيليون فربما كانوا لا يزالون يفضلون بقاء النظام السوري الحالي، لكنهم يريدون علاقةً أفضل مع العرب الكبار لا يؤمِّنها هذا النظام، كما أنهم يريدون إذا حصل السلام أو التعاهدُ عليه أن يكون مع الأكثرية أو ممثليها لكي يثبت ويستقر، كما حدث مع المصريين والأردنيين. حتى لو كان الإسرائيليون جادّين في طلب السلام الشامل بالصيغة العربية التي اقترحها الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز، فإن العقبات لا تزال قوية من جانب المجتمع السياسي الإسرائيلي، ومن جانب"حماس"و"حزب الله" وإيران وسورية. في الجانب الإسرائيلي هناك اليمين الذي لا يريد أن يُعطي شيئاً ويعتقد أنه يستطيع الاحتفاظ بالوضع الحالي الى ما لا نهاية وبالقوة العسكرية وحدها. وفي الجانب العربي، هناك التنظيمات الثورية التي تعملُ في خدمة إيران وسورية. وقد كان الخطاب السوري من قبل يتجاهل الجولان، ويستبدل به لبنان، ويحتضن المقاومات، مع قوله بالقرارات الدولية. لكنه في المدة الأخيرة أظهر اهتماماً باستعادة الجولان، مع الإبقاء على المقاومات. وهذان الأمران لا يمكن الجمع بينهما، وبخاصةٍ أن استخدام السلاح من جانب"الثوريين"لا يتم في فلسطين، بل في لبنانوالعراق، ثم يتهم النظام السوري متشددين من لبنان بتصدير الإرهاب اليه! خلاصة الأمر أن الأوضاع الحالية ليست ناضجةً لسلامٍ شاملٍ، وانما لا بد من إنضاجها. وهكذا فعندما يقال من جانب العرب ومن جانب ساسةٍ إسرائيليين بالمبادرة العربية للسلام الشامل، فإن ذلك يعني اتخاذها قاعدةً للتفاوض، والسعي لإنضاج شروطها وظروفها. وقد يحصلُ شيٌ من هذا الإنضاج في ما تبقى من حكم بوش وأولمرت. * كاتب لبناني