قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس إن السلام وقيام الدولة الفلسطينية يمكن ان يتحققا خلال ستة اشهر، وردت وزيرة الخارجية الاسرائيلية باستغراب قائلة: كيف يحدث ذلك، ونحن غير متفقين على ما يعتبره الفلسطينيون قضايا رئيسية؟! لكن، لكي تبقى تحت السقف الاميركي الحالي - وقد كان دائماً سقفاً اسرائيلياً - أضافت: لكن مبادرة الرئيس بوش ايجابية وهي تستحق الاعتبار والمتابعة! والواقع ان غوامض كثيرة لا تزال تحيط بجدول اعمال المؤتمر الدولي الذي اقترحه الرئيس بوش بعد طول انتظار. وهذا في الاساس ليس امراً غريباً، ويمكن ان يتحدد في المفاوضات التمهيدية التي تقوم بها وزيرة الخارجية الاميركية في جولاتها في المنطقة منذ شهرين. إنما الغريب هو عدم الوضوح لدى الاسرائيليين بالدرجة الأولى، ثم لدى الفلسطينيين، ففي المرتين اللتين جرى فيهما تفاوض جدي بين الطرفين بوساطة أميركية، كان هناك أمر رئيسي متوافر لديهما وهو القيادة، والتي تمثلت لدى الفلسطينيين في الرئيس ياسر عرفات، ولدى الاسرائيليين في اسحاق رابين، وبعد مقتله وفي المرة الثانية 1998-2000 في إيهود باراك. ويمكن ان نضيف هنا ان سجل الرئيس بيل كلينتون لجهة الاهتمام، وإرادة الانجاز، كان أفضل بكثير من سجل الرئيس جورج بوش. والذي يقال الآن انه لولا الفشل في العراق، وغياب شارون، لما التفت الى تلك القضية. والدليل على ذلك الفرصة المتاحة بعد وفاة الرئيس عرفات عام 2004، وحتى الانتخابات النيابية الفلسطينية، والتي جاءت بحكومة"حماس"عام 2006. ان الوضع الآن يتمثل في الانقسام الفلسطيني العميق بحيث ظهرت حكومتان بين الضفة الغربيةوغزة. وفي حين نعرف"جدول اعمال"الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والمتمثل في الاعلان عن قيام الدولة الفلسطينية بعد الاتفاق على الاشكاليات التي لا تزال تعوق الحل النهائي وهي: المستوطنات والحدود والقدس واللاجئين، لا نعرف في الحقيقة ما تقبل به"حماس"أو لا تقبل. ومع ان سائر الاطراف العربية والولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا... وإسرائيل تقول بشرعية محمود عباس وأهليته للتفاوض، فإن الاسرائيليين يشيرون دائماً الى ان عباس"ليس قوياً"، وليس مضموناً ان يستطيع تنفيذ الاتفاق الذي يجري التوصل اليه. لكن، فضلاً عن ذلك، هناك مشكلات في"القيادة"الاسرائيلية، قد لا تقل كثيراً عن مشكلات القيادة الفلسطينية. فأولمرت لا يزال مهدداً بنتائج حرب تموز يوليو. وليفني التي تطمح لخلافته اذا ذهب وبقيت الحكومة ولم تجر انتخابات مبكرة، تميل الى المزايدة لكي يتطلع اليها الجمهور. ووزير الدفاع وزعيم حزب العمل إيهود باراك، ما عاد مؤمناً بالحل السلمي مع الفلسطينيين والسوريين من دون ضربة"عسكرية"في أي مكان، يستعيد فيها الجيش الاسرائيلي هيبته. وقد أرانا نموذجاً على الخبطات الاعلامية في غارة الطيران الاسرائيلي الغامضة في أقاصي شمال سورية! ويقول الصقور الاسرائيليون إن خبرات السنوات السبع الماضية، أدت الى استنتاجات اخرى في شأن"أمن اسرائيل"ما عاد تجاهلها ممكناً، وفي سائر موضوعات أو إشكاليات الحل النهائي. وأولى تلك الاشكاليات: الحدود، فانسحاب اسرائيل عام 2000 من جنوبلبنان جاء ب"حزب الله"، والانسحاب من غزة جاء ب"حماس". وبذلك صار الاسلاميون حاضرين لهاتين الجهتين، وهم لا يقولون بأي شرعية للكيان الاسرائيلي. ومنطق الصقور هؤلاء من ناحية، ومنطق الاسلاميين من ناحية أخرى، يفضي الى نتيجة واحدة وهي استحالة قيام الدولة الفلسطينية المنقسمة الى قطرين بل الى أشطار. وجل ما يعرضه الطرفان هدنة طويلة الامد، مع استمرار الوضع على ما هو عليه الآن. وقد كان شارون يعرض للعام 2005 وهو الموعد الذي حدده الرئيس بوش عام 2002 لقيام الدولة الفلسطينية الموعودة قيام دولة فلسطينية من دون حدود او بحدود موقتة، أي ليست لها حدود مع مصر او الأردن او ان تلك الحدود تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي! ثم كيف ستقوم الدولة مع وجود حوالي نصف مليون مستوطن اسرائيلي بداخلها ومعهم أفضل الأراضي ومعظم المياه، وسط اصرار اسرائيلي على عدم تفكيك المستوطنات الكبيرة هذه، وتحصينها بالسور الواقي. وموضوع القدس ليس أقل عُسراً، فالمسجد الاقصى يكاد يتقوّض بسبب الحفريات تحته ومن حوله، والاسرائيليون مصرّون على بقاء القدس موحدة وتحت سيطرتهم. وقد كان ذلك سبباً مهماً لفشل المحاولة التفاوضية الاخيرة بين عرفات وباراك بواسطة كلينتون. وقد كان الاسرائيليون حتى العام 2001 يقولون ان حق العودة للاجئين شديد العسر والصعوبة، بيد ان الحديث فيه ممكن لاستكشاف البدائل. اما اليوم فيقولون ان التنازل عن حق العودة شرط مسبق للقبول بالتفاوض! ليس المقصود من ذكر كل تلك الصعوبات التوصل الى ان التفاوض غير ممكن أو غير مجدٍ. بل ايضاح خريطة الوقائع والمواقف على مشارف المؤتمر الدولي المأمول. والطريف - وعلى سبيل التذكير - ان الافكار الأولى في شأن المؤتمر الدولي تعود الى العام 1976-1977. ووقتها اعترض عليه الاميركيون، وأقنعوا مصر بالحل المنفرد، الذي ساد منذ ذلك الحين وحتى اليوم، على رغم المظاهر الشاملة لمؤتمر مدريد. اذ الذي خرج من عباءة مدريد كلٌ من اتفاق أوسلو 1993 مع الفلسطينيين، ووادي عربة 1994 مع الأردن. أما المسارات الاخرى الشاملة، أي التي تتناول أكثر من طرف، فقد توقفت من دون ان يحاسب أحد على ذلك! والطريف والمؤسي ايضاً وايضاً ان مؤتمر بوش الدولي الآن يعود الى الحل المنفرد على رغم فشل التجارب السابقة أو أيلولتها للفشل. بوش أراد محادثات اسرائيلية - فلسطينية بحضور عرب ودوليين ليس من بينهم سورية، وهذا الاسبوع فقط بدا الاميركيون موافقين على الحضور السوري من دون الحديث في الجولان، وبعد إلحاح عربي وأوروبي كبير! ولا شك في ان للتراجع في الموقف الفلسطيني والعربي أسباباً موضوعية، ومن تلك الاسباب الإنهاك الذي أنزلته الهجمات العسكرية الاميركية - تحت يافطة محاربة الارهاب - بالعرب في العراق وغير العراق. ومن تلك الاسباب الانقسام الذي نزل بالفلسطينيين بحيث ما عادوا يتحدثون بلسان واحد، ولا يملكون خطة واحدة. وللصعود الاسلامي نتائجه البارزة ولا شك، لكنها نتائج مختلطة، فقد كشف صمود"حزب الله"، وصمود"حماس"، ان التفوق العسكري الاسرائيلي لا يشكل ضمانة لأمن اسرائيل، كما كان الاعتقاد من قبل. لكن الصعود الاسلامي من جهة أخرى أحدث انقساماً داخلياً عربياً وفي لبنانوفلسطين والى حد ما في العراق، فضلاً عن آثاره المشرذِمة في سائر المجتمعات العربية. ثم ان الملف الاسلامي الصاعد أدخل ايران على خريطة النفوذ الفعلي في المنطقة العربية، ولذلك الدخول آثاره المختلطة أيضاً، اذ هو يهدد اسرائيل والنفوذ الاميركي من جهة، لكنه يحدث ايضاً انقسامات داخلية عربية، وصراعات على الأولويات وعلى الهوية الاجتماعية والجغرافية وربما الدينية. هذا اذاً هو الموقف الآن: مبادرة عربية شاملة للسلام، ردت عليها الولاياتالمتحدة بعد خمس سنوات طويلة بمؤتمر دولي للتفاوض في شأن إمكان قيام دولة فلسطينية فقط، مع عدم وضوح في معنى ذلك القيام وتلك الدولة. أما الاسرائيليون غير المرتاحين للوضع الراهن، فإنهم يخشون ان يزداد الوضع سوءاً بالنسبة اليهم إن قامت الدولة الفلسطينية. ولذلك كانوا يفضلون ألا يكون هناك مؤتمر له نتائج، والانصراف بدلاً من ذلك، ومع الولاياتالمتحدة، للتخطيط لمهاجمة ايران مكافحةً لبرنامجها النووي! فالتحدي العربي يتمثل في الاصرار على الشمولية في الحل بجلاء الاسرائيليين عن الاراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية واليوم قبل الغد، في مقابل التطبيع مع الكيان. والتحدي الاسرائيلي يتمثل في تأجيل الحلول الى ان تستقر الاوضاع السياسية داخل الكيان الصهيوني، ومصائر السلطة الفلسطينية مع"حماس"، وتتبين ايضاً نتائج التجاذبات مع ايران في الشأن النووي والعراقولبنان. أما التحدي الاميركي فهو مختلف وموزع ولا يتسم بالتركيز. صحيح انهم مهتمون بأمن اسرائيل أشد الاهتمام، وفي سنة الانتخابات الرئاسية بالذات، لكن الاسرائيليين انفسهم ليسوا على بيّنة مما اذا كان قيام الدولة الفلسطينية القابلة للحياة يخدم أمنهم. والأميركيون يريدون الخروج من مأزقهم في العراق، ويحتاجون الى المساعدة العربية، ولذلك يريدون تقديم شيء في فلسطين، لكنهم يرون تقدم الاسلاميين المعادين لهم، ويرون مصادمة ايران لهم في سائر الملفات والجهات. ولذلك لا يريدون ان يكون الاتجاه للتسوية مُثيراً لطمع ايران والإسلاميين. والأميركيون اخيراً في سنة انتخابات، وسائر الاطراف تعرف ذلك، وتعرف ان ادارة بوش ذاهبة، فلماذا الضغط على اسرائيل، اذا كان ذلك يزيد من خسائر الحزب الجمهوري؟ لكن من جهة أخرى، للضغط حدوده الممكنة وسط ادراك الجميع في المنطقة وفي أوروبا وروسيا ضعف ادارة بوش وقرب زوالها؟! وهكذا، فإن المؤتمر الدولي، إن عُقد، لن تكون له نتائج بارزة، لكنه إن لم يعقد، فإن المنطقة ستزداد اضطراباً وعدم استقرار. * كاتب لبناني