مع اقتراب نهاية العام الحالي وصعوبة الوصول الى اتفاق فلسطيني - إسرائيلي، وخصوصا على إقامة دولة فلسطينية، تزايدت الدعوات الى التخلي عن المطالبة بهذه الدولة على حدود 1967 خطة الدولتين، لأن إمكانية قيامها أصبحت مستحيلة مع استمرار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بفرض الحقائق الاستيطانية على الأرض، التي تجعل إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس أمرا مستحيلا. وطرح أصحاب هذه الدعوات خيار الدولة الواحدة على كل مساحة فلسطين الانتدابية. هناك من يدعو الى خيار الدولة الواحدة، كنوع من التكتيك، مثلما فعل أبو علاء رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض، وذلك من خلال تخويف الإسرائيليين وإظهار نتائج سياساتهم المتعنتة التي أفشلت وتفشل كل المبادرات الرامية للتوصل الى حل للصراع. وهناك من يدعو الى هذا الخيار من قبيل القناعة بأن الأحداث والتطورات والوقائع على الأرض جعلت خيار الدولة الفلسطينية مستحيلا ومن الماضي، وأن الاستمرار بالدعوة إليه نوع من الحرث في البحر، أي بلا جدوى تماما. وهناك من يؤيد خيار الدولة الواحدة، لأنه يعتقد أنه البرنامج الوحيد العادل والقادر على حل القضية الفلسطينية. وأنصار هذا الرأي يقولون إن إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، حتى لو سلمنا جدلا بأنه خيار قابل للتحقيق سيحل مشكلة جزء من الشعب الفلسطيني الموجود في الضفة وغزة، ولكنه يبقي قضية اللاجئين الذين يشكلون حوالي نصف الشعب الفلسطيني وأكثر، من دون حل. ويتابع أنصار هذا الرأي: أن من كان يعتقد أو لا يزال يعتقد أن إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، مرتبط بحل قضية اللاجئين من خلال تأمين حق العودة والتعويض، مثلما يتضمن البرنامج الفلسطيني المقر منذ عام 1988، فهو إما واهم أو مضلل. فإسرائيل لن تقبل على الإطلاق بإعادة أكثر من 5 ملايين فلسطيني الى داخل اراضيها، لأن هذا من شأنه أولا أن يقضي عليها فورا بوصفها"دولة يهودية"، بعد أن يصبح معظم سكانها من الفلسطينيين. فمن يتمسك ببرنامج الدولة الفلسطينية وحق العودة، كان عليه أن يعرف أن المخفي في هذا البرنامج هو الاستعداد للمقايضة، التي يعتقد أنها كانت أو لا تزال ممكنة، وهي تتضمن التنازل عن حق العودة مقابل أن توافق اسرائيل على قيام هذه الدولة. ما حدث في الواقع أسوأ من ذلك بكثير وهو أن اسرائيل لم تكتف برفض حق العودة بل رفضت أيضا قيام الدولة على حدود 1967، وطرحت بالمقابل قيام دولة فلسطينية على جزء من الأراضي المحتلة سنة 1967، تتحدد مساحتها بعد أن تضم اسرائيل كل الأراضي الفلسطينية التي تحتاجها بما في ذلك في القدسالشرقيةالمحتلة، لأسباب دينية أو اقتصادية أو أمنية أو عسكرية أو مائية، والتي تتراوح ما بين 40-60 في المئة من مساحة حدود 1967 وفقا للتعديلات والآراء الإسرائيلية المتباينة. كل هذا رغم أن القيادة الفلسطينية أبدت مرونة زائدة من خلال استعدادها لقبول عودة رمزية للاجئين لا تمنحهم جميعاً حق العودة، عبر الاستعداد لعودة"عدد معقول"منهم، ورغم أن العرب كانوا"كراماً"من خلال قبولهم بالتوصل الى"حل متفق عليه"بالنسبة لقضية اللاجئين وفق القرار 194 كما جاء في مبادرة السلام العربية. فاسرائيل حصلت على اعتراف فلسطيني وعربي بها وهي تقوم على 78 في المئة من أرض فلسطين الانتدابية، وتريد أن تقتسم مع الفلسطينيين الضفة وغزة، مع فرض ترتيبات أمنية على الدولة الفلسطينية العتيدة تجعلها محمية إسرائيلية وليست دولة، لا تمتلك من مقومات الدول سوى الاسم. إن خيار الدولة الواحدة ليس خيارا جديدا اكتشفه بعض الفلسطينيين والعرب أخيرا، فهو الخيار الذي طرحته الثورة الفلسطينية بعيد انطلاقها عام 1965، وتخلت عنه كشرط للاعتراف بها وبما تمثله وبالحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية التي يضمنها القانون الدولي، وعلى أمل أن تحقق هدفها بإنهاء الاحتلال وانجاز الاستقلال الوطني وإقامة دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين، بوصف ذلك الهدف الواقعي الممكن التحقيق والمنسجم مع موازين القوى والوضع الجديد الذي أصبحت فيه اسرائيل حقيقة واقعة وجزءاً من الشرعية الدولية، وقوة كبرى ونووية في المنطقة لما تمتلكه من تفوق عسكري واقتصاد قوي وعلاقات متينة وصلت الى حد التحالف الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة، القوة العظمى المهيمنة على العالم كله. فالأسباب التي استدعت تغيير الخيار الاستراتيجي لا تزال قائمة، بل أصبحت تفعل فعلها بشكل أكبر في ظل الضعف الفلسطيني والعربي المتزايد، والذي وصل الى حد الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني، وتفاقم التجزئة والتبعية العربية وغياب المشروع العربي الواحد. فلا يمكن الانتقال، بعد الفشل في تحقيق هدف كبير، الى طرح هدف أكبر منه، واعتبار ذلك تغييرا ملائما في الاستراتيجية. إن الطريق المسدود في وجه خيار الدولة الفلسطينية وصلنا إليه سابقا عندما رفعنا خيار الدولة الواحدة، واعتمدنا سياسة"كل شيء أو لا شيء"، ولكي نستطيع فتح هذا الطريق يجب أن ندرس تجربتنا السابقة بعمق ونستخلص الدروس والعبر، التي أهمها أن الفلسطينيين من دون طرح برنامج كفاحي وطني واقعي ديموقراطي قادر على توحيدهم، والعمل على التخلص من الاحتلال كشعار ناظم لكل مكونات العمل الوطني والديموقراطي الفلسطيني، لا يمكن أن يحققوا أهدافهم سواء كانت دولة فلسطينية أو دولة واحدة، وأن ينتقلوا بخفة من الدولة الفلسطينية الى خيار الدولة الواحدة، بل يمكن أن يعودوا بسرعة أكبر"إذا كبروا حجرهم"الى مرحلة الوصاية والاحتواء العربي، أو يبقى الاحتلال كما هو عليه الأمر الآن لعشرات السنين الأخرى، أو تطبق اسرائيل بسرعة أكبر وتكاليف أقل الحل الاسرائيلي الاحادي الجانب بما في ذلك التهجير بطبعته القديمة أو بطبعته الجديدة التي تسمى التبادل السكاني، أو تفرض الدولة ذات الحدود المؤقتة، أو حلا دوليا يأتي حسب الشروط والمواصفات الإسرائيلية. لا مفر من الكفاح ضد الاحتلال بهدف إيجاد وضع يجعل اسرائيل تخسر من احتلالها أكثر مما تربح، أو يمكن أن تربح من إنهاء الاحتلال أكثر مما تربح من بقائه. عندها ستفكر اسرائيل بالانسحاب والتوصل الى حل تاريخي مع الفلسطينيين والعرب. ولكن إذا استمر الحال على ما هو عليه الآن من تراجع سقف البرنامج الفلسطيني والعربي من دولة على كل فلسطين، الى دولة على جزء من فلسطين تمثل 22 في المئة، الى تقاسم الضفة وغزة مع اسرائيل عبر مسميات مثل تبادل الأرض وضم الكتل الاستيطانية وتقاسم الأحياء في القدس، والسيادة على ما فوق الأرض وما تحتها في المسجد الأقصى وحوله، فهذا لا يقود فعليا الى استبدال برنامج الدولة الفلسطينية ببرنامج الدولة الواحدة. فإسرائيل سترفض برنامج الدولة الواحدة بشكل جماعي وأقوى مما رفضت برنامج الدولة الفلسطينية، وهي قادرة على إفشاله لأن المجتمع الدولي يقر برنامج الدولة الفلسطينية ويرفض برنامج الدولة الواحدة التي يراها محاولة جديدة للقضاء على اسرائيل. ما سبق لا يعني أن خيار الدولة الفلسطينية خيار وحيد لا رجعة عنه، بل هو خيار يبتعد أكثر مع مرور كل يوم. لذلك يجب العمل منذ الآن للاستعداد لخيار الدولة الواحدة وكل الخيارات الأخرى المفضلة للفلسطينيين، ليس من قبيل التهديد الفارغ وإنما الاستعداد الجدي الحقيقي، لكي تدرك اسرائيل أن لدى الفلسطينيين خيارات فعلية عدة. فإذا لم يتحقق خيار الدولة الفلسطينية هناك خيار الدولة الواحدة، ولكن في كل الأحوال هذه قضية نضالية وليست أكاديمية اختيارية. فالدولة الواحدة لن تهبط من السماء لمجرد أن اسرائيل قضت على خيار الدولة الفلسطينية. كما أن خيار الدولة الفلسطينية قد يكون أقصر طريق لتحقيق خيار الدولة الواحدة، فلماذا نضع تناقضاً تناحرياً بين الخيارين؟ فإسرائيل يمكن أن تقبل بقيام دولة فلسطينية الى جانبها تقر بحق العودة إذا وجدت أن رفضها سيؤدي الى أسوأ من ذلك. ولكنها لا يمكن أن تقبل بأن تساهم بالقضاء على نفسها بالموافقة على خيار الدولة الواحدة، في حين أنها تستطيع إذا استمر الوضع الراهن أن تحقق ما هو أسوأ بكثير من خيار الدولة الفلسطينية المستقلة. فهي تستطيع مثلا أن تحقق خيار الدولة ذات الحدود الموقتة التي تريدها أن تصفي القضية الفلسطينية بأيدي أصحابها، عبر تأجيل القضايا الأساسية الى الأبد! * كاتب فلسطيني