مخطئ من يعتقد أن تغييراً جذرياً قد حصل في منطلقات أيديولوجية شارون ورؤيته بشأن كيفية التوصل إلى تسوية سياسية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. بل على العكس تماماَ، يجب أن ينظر إلى خطابه أمام مؤتمر هرتسيليا على أنه الوسيلة التي استعاد من خلالها زمام المبادرة لهذه المنطلقات. في الخطاب أرسل شارون إنذاراً للسلطة الفلسطينية:إما التفاوض على أساس خطة الطريق الشارونية المعدِلة لخطة الطريق الدولية ب 14 تحفظاً والتي يستحصل بموجبها الفلسطينيون على "دولة" داخل الجدار، وإما قيام شارون بخطوات أحادية الجانب لفك الارتباط تعطي الفلسطينيين سيطرة على أرض أقل من ذلك. هذا هو المتاح، والخيار متروك للفلسطينيين في هذه "المساحة" الضيقة. المساحة ضيقة لأن الفكر الصهيوني، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ضيق الرؤية، كونه فكراً عنصرياً انتقائياً انعزالياً قام أساساً على مبدأ إقامة دولة يهودية نقية العرق في فلسطين. وعندما تعذر تفريغ فلسطين من أهلها الفلسطينيين، خصوصاً بعد احتلال عام 1967، بدأت مقاربات صهيونية تظهر لتحقيق المستطاع من ذلك الهدف. في مقابل الفكر الصهيوني اليساري البراغماتي الذي أنتج اقتراحات متعددة تقبل مبدأ إقامة "دولة" فلسطينية ضمن مساحات اختلف حجمها داخل الضفة وقطاع غزة، نادى شارون في الأساس بضرورة طرد الفلسطينيين وأن يصبح الأردن وطناً بديلا لهم. ولكن عندما وصل إلى قناعة باستحالة ذلك وخصوصاً بعد اتفاق اوسلو وتوقيع اتفاقية سلام بين إسرائيل والأردن، بدأ يعمل على حشر الفلسطينيين في أقل رقعة ممكنة من الأرض الفلسطينية، ليمنحهم عليها فيما بعد حكماً ذاتياً يمكن أن تتم تسميته ب "دولة". ولكن هذه "الدولة" لن تكون، وفقاً لشارون أو حتى لليسار الإسرائيلي، كاملة الاستقلال والسيادة، وبالتأكيد لن تشمل جميع الأراضي التي احتلت عام 1967. لذلك جاء بناء الجدار الذي يقسم الضفة الغربية ويحولها إلى مجموعة من المعازل التي تحشر داخلها الغالبية العظمى من فلسطينيي الأرض المحتلة. الهاجس المرعب الذي يواجه إسرائيل والإسرائيليين، إذاً، يتمثل بالأثر السياسي المستقبلي للعامل الديموغرافي الذي يهدد احتفاظ إسرائيل بيهوديتها، هذا الهاجس يستوجب، إضافة إلى حشر الفلسطينيين، إقصاءهم سياسياً والانفصال عنهم. وبالنسبة إلى إسرائيل فإن أهم وظيفة للسلطة الفلسطينية أنها تشكل هيئة منفصلة عنها مع أنها مستوعبة ضمنها وتتحمل المسؤولية والتبعية السياسية - القانونية عن الفلسطينيين، وبالتالي تحميها من مخاطر هذا العامل الديموغرافي المدمر لكينونتها. لذلك فإن استمرار وجود السلطة، من وجهة النظر الإسرائيلية، ضروري لتحقيق "الترانسفير" القانوني للفلسطينيين حتى وان استمروا بالوجود داخل "ارض إسرائيل". من هذا المنطلق، ذكر نتانياهو أمام مؤتمر هرتسيليا أن "إسرائيل تواجه بالفعل مشكلة ديموغرافية، لكن التهديد لا يأتي من الفلسطينيين الذين سيحصلون يوماً على حكم ذاتي، وإنما من عرب إسرائيل" "الأيام" 18/ 12/ 2003. ويلاحظ هنا أن نتانياهو أقصى بكل يسر وسهولة فلسطينيي الأرض المحتلة من أثر العامل الديموغرافي المؤرق لإسرائيل بواسطة الحكم الذاتي الذي لا يأبه حتى شارون في أن يدغدغ المشاعر الفلسطينية بتسميته "دولة". فالأساس هو المضمون وليس التسمية. كيف يمكن والحالة كذلك أن تتم مواجهة المخطط الإسرائيلي الاختزالي لتصفية القضية الفلسطينية، وكيف يمكن التصدي لإنذار شارون المتضمن في خطابه، والذي ينبئ بحشر الفلسطينيين في معازل داخل الجدار؟ على افتراض أن الحد الأدنى لتسوية سياسية مقبولة فلسطينياً مع إسرائيل يقوم على أساس الموقف الرسمي المعلن والمتمثل بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة والاستقلال على خطوط عام 1967 وإيجاد حل مقبول لقضية اللاجئين وفق أسس الشرعية الدولية، ومع معرفة أن استمرار إسرائيل بعملية الاستيطان وبناء الجدار سيحول دون تحقق هذا الهدف، فان أية مفاوضات مع شارون ستكون بالنسبة الى الفلسطينيين عدمية ولن يستفيد منها سوى إسرائيل. علاوة على ذلك فإن أسلوب مهادنة ومهاودة إسرائيل وتقديم سلسلة لا متناهية من التطمينات والضمانات لها من الجانب الفلسطيني لن يؤدي إلى استخلاص موقف ايجابي منها تجاه التسوية. فإسرائيل المتغطرسة بقوتها تشعر بزيادة في الزهو والاستكبار عندما تشعر بأنها غير مهددة بل أن الغير يناشدها ويسعى الى استدرار تفهمها. عندئذٍ، تستطرد إسرائيل في وضع الشروط وتقديم المطالبات، وغالباً ما يؤدي ذلك بالجانب الفلسطيني إلى تقديم التنازلات. الجانب الفلسطيني ليس مضطراً لمواءمة موقفه دائماً وفقاً لسيل الاشتراطات والمطالبات الإسرائيلية المستمرة إلا إذا اعتقد بأنه ضعيف ومهزوم ولا يوجد لديه أي خيار آخر. بالتأكيد يوجد أمام الفلسطينيين خيارات أخرى، ولكن المسألة المهمة هنا تكمن في الثمن الذي يحتاجه الانتقال من خيار إلى آخر. والسؤال المهم هنا: هل هناك استعداد عند الجانب الفلسطيني لدفع ثمن الخيار الأخر ؟ عوضاً عن الالتقاء بشارون والسعي المستمر الى تطمين الإسرائيليين عبر تقديم تنازلات جوهرية في موسم المبادرات المتلاحقة، على الجانب الفلسطيني أن أراد تحقيق إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والسيادية على خطوط العام 1967 أن يصلّب موقفه ويقدّم إنذاراً لإسرائيل رداً على إنذار شارون. هذا الإنذار يجب أن يأتي في سياق مبادرة فلسطينية متكاملة تأتي في خطاب رسمي صادر عن السلطة الفلسطينية يفضل أن يلقيه رئيس الوزراء أمام جمع من الديبلوماسيين المعتمدين لدى السلطة الفلسطينية وأن يتم نقله مباشرة عبر وسائل الإعلام. أما مرتكزات هذا الخطاب فتتمحور حول النقاط الآتية: - توجد موافقة فلسطينية رسمية على التوصل إلى تسوية سياسية للصراع مع إسرائيل وفقاً لمبدأ إقامة دولتين. - وفقاً لهذا المبدأ، وتمشياً مع مقررات الشرعية الدولية، فإن الدولة الفلسطينية التي يقبلها الفلسطينيون تقع على خطوط عام 1967 ويجب أن تكون مستقلة وسيادية كي يتحقق الحل القائم على مبدأ إقامة الدولتين، ولن يقبل الفلسطينيون ما هو أقل من ذلك بتاتاً. - لتأخذ إسرائيل مهلة مدتها ستة أشهر لتقرر إن كانت حقاً معنية بتسوية للصراع تقوم على مبدأ إقامة الدولتين. فإذا كانت معنيّة بذلك عليها أن ترسل مؤشرات فعلية مثل وقف الاستيطان وبناء الجدار. ولكي يتاح لإسرائيل التفكير بهذه المسألة خلال الفترة المحددة فإن الجانب الفلسطيني يلزم نفسه خلالها بهدنة تامة. - إذا ثبت خلال فترة الستة أشهر أن إسرائيل غير معنية بقبول مثل هذه التسوية فمعنى ذلك أنها تغلق الباب أمام الحل القائم على الدولتين. عندئذٍ يضطر الجانب الفلسطيني إلى إغلاق الباب نهائياً على هذا الخيار وقبول التوجه باتجاه الخيار الآخر الذي تفرضه عليه إسرائيل، وهو خيار الدولة الواحدة. هذا الخيار يبدأ بوضعية الابارتايد، مروراً بالدولة ثنائية القومية، وصولاً إلى دولة واحدة لكل مواطنيها. - لكي يتم التوجه باتجاه خيار الدولة الواحدة الذي تفرضه إسرائيل برفضها خيار الدولتين فإن الجانب الفلسطيني يقوم بعد انتهاء المهلة الممنوحة لإسرائيل بحل السلطة الفلسطينية لتتحمل إسرائيل كامل مسؤوليات وتبعيات حكم احتلالها للفلسطينيين، وتُحرم من استمرارية وجود عنوان رسمي علني فلسطيني تحاصره في الوقت ذاته الذي تحمّله المسؤولية عن تدهور الأوضاع الذي هو مسؤوليتها المباشرة. - على إسرائيل أن تعي أن التوجه باتجاه خيار الدولة الواحدة سيطلق الأثر السياسي للعامل الديموغرافي الفلسطيني من عقاله، وعليها هي أن تتحمل النتائج المترتبة على ذلك. فإما الفصل من خلال حلّ يقوم على إقامة دولة فلسطينية سيادية ومستقلة على الأرض الفلسطينيةالمحتلة عام 1967، وإما خسارة إسرائيل معركة الديموغرافيا، أي خسارتها لما تحاول الحفاظ عليه بشتى الوسائل، ألا وهو يهودية الدولة العبرية. هذه هي المبادرة التي يجب على الجانب الفلسطيني أن يقابل بها تهديد شارون، وليس الالتقاء به والتفاوض معه على أساس القبول الضمني بخطته المعدِّلة للطريق. ففرض حل الدولتين وفقاً للرؤية الفلسطينية يتطلب من الفلسطينيين الاستخدام الفاعل لخيار الدولة الواحدة. فإسرائيل لن تقبل بالمطالب الفلسطينية إلا إذا شعرت بأن عدم قيامها بذلك سيؤدي إلى نتائج سلبية وخيمة عليها. وإن كان أخشى ما تخشاه إسرائيل يكمن في خسارتها الغالبية اليهودية، يكون من عدم الحصافة السياسية عدم توظيف ذلك لتحقيق المصلحة الوطنية الفلسطينية. باختصار، يجب طرح خيار الدولة الواحدة من أجل الحصول على خيار الدولتين وفقاً للحد الأدنى الفلسطيني المعلن رسمياً. ولكن لكي يكون طرح خيار الدولة الواحدة جدياً فإن على الجانب الفلسطيني أن يجعل من إمكان حل السلطة الفلسطينية ذاتياً إمكاناً فاعلاً. فهل يمكن لمن في السلطة التفكير الجدي بذلك؟ هذا هو السؤال الإستراتيجي الذي يحتاج إلى جواب. * كاتب واكاديمي فلسطيني.