يتجاوب الزمان الداخلي الذي تتحرك في مداره المغلق رواية يوسف زيدان"عزازيل"مع زمان خارجي، قلق، مضطرب، مملوء بالعنف وذلك على نحو يغدو معه الزمانان زمناً واحداً يناوشه القمع من كل جوانبه التي تبدأ وتنتهي بالتعصب الديني الذي يغدو إرهاباً، ويجعل من الرواية نفسها مداراً مغلقاً من الصراع المتصل، سواء في داخل البطل هيبا الذي يصارع شيطانه الذي يصارعه بدوره، أو في الخارج الذي تنطلق فيه شياطين التعصب كالبراكين المتفجرة بكل ما يقضي على إمكانات الحياة الآمنة لكل من يراهم زبانية التعصب مختلفين أو مخالفين، مقيمين اتحاداً تخييلياً بينهم وشياطين الكفر الذين لا بد من استئصالهم، وقطع جذورهم، فلا حياة مسموحاً بها إلا للأشباه الذين يدخلون حظيرة الاتِّباع والطاعة المذعنة للذين يمتلكون، وحدهم، الحقيقة، ويحتكرون معرفة تعاليم الحق المطلق وتأويله. ومن هذا المنظور، تبدو الرواية نوعاً من المجاز الموسّع، أو تصويراً رمزياً لزمن خاص، تتحول دلالة تعينه إلى زمن عام، وذلك على نحو لا تغدو فيه تفاصيل التعين هي المقصد المباشر، وإنما ما يسميه عبد القاهر الجرجاني"المعنى الأول"المراد منه الدلالة على"المعنى الثاني"وهو الدلالة المقصودة من المجاز، حيث لا يُراد ظاهر المعنى، بل دلالته التي ينقلب بها الخاص إلى عام، والزمن المتعين إلى زمن محتمل، يمكن أن يقع حين تتوافر شروط موازية، كي يتحقق معنى المماثلة أو المشابهة التي هي أصل المجاز الذي ينطوي على الاستعارة والكارثة الإنسانية المقصودة، في تفاعل سياقات"عزازيل"وتجاوبها، هي التعصب الذي ينقلب إلى إرهاب، حين يغدو عنفاً لا يعرف التسامح أو يقبله، حتى في دائرة العقيدة الواحدة وما رأته عينا الراهب هيبا في زمنه المتعين الذي تحدده الرواية، في معالجتها المجازية لموضوع القمع الديني، هو صورة متكررة، تغدو رمزاً لكل قمع يحدث باسم الدين أو السياسة أو حتى تقاليد الطائفة أو القبيلة، وذلك حين يغدو العنف سبيلاً لاستئصال المختلف دينياً، أو طائفياً، أو اجتماعياً، أو عرقياً. وقد شهدت عينا الراهب هيبا هذا العنف الاستئصالي، من دون أن يستطيع له صداً، ثلاث مرات على الأقل الأولى هي قتل أبيه على أيدي مجموعة متعصبة دينية، بحجة أنه ظل على وثنيته، وكانت أمه طرفاً متآمراً في هذا الاغتيال الذي ظلت دلالته تترجع في وعي هيبا، مؤكدة إمكان أن تبيع الزوجة زوجها، وتغدر به نتيجة تعصب ينقلب إلى عنف إرهابي. أما المرة الثانية فهي التي تشغل حيزاً أساسياً من الرواية، وفيها نسمع خطاب التعصب الذي يبرر الإرهاب الذي يحضّ عليه ملاك الحقيقة من صُنّاع الفتن والمحن، أولئك الذين يدفعون جماهيرهم إلى الفعل، بعد غسل عقولهم، وحشوها بما يجعل منهم أسلحة فتاكة للإرهاب هكذا ينطق صوت داعية الإرهاب، في رواية يوسف زيدان، مؤكداً أننا نعيش زمن الفتن، ومن ثم فنحن في زمن الجهاد، حيث الظلمات تعشش في كل مكان، وتطل على أرض الله بوجه الفتن والهرطقات التي تنخر في قلوب الناس،"ولن يهدأ جهادنا لها، ما دمنا أحياء فلنكن جنود الحق الذين لا يرضون إلا بإكليل النصرة السماوية"ونتيجة لمثل هذه الكلمات وتخييلاتها المصاحبة تثور ثائرة الجماهير التي اكتمل ترويض سلوكها والسيطرة على عقولها. هكذا، تزداد الجماهير هياجاً في مدينة الإسكندرية القديمة، مع إحدى خطب الأنبا كيرلس الأسقف الأعظم للمدينة خصوصاً حين يهدر بصوته الحماسي قول يسوع المسيح ما جئت لألقي في الأرض سلاماً، بل سيفاً، فيزداد هياج الجموع، ويقارب بحدته حدود الجنون الذي يقع الجميع في أسره بعد صرخة كالرعد، يطلقها قارئ الإنجيل بكنيسة قيصرون الذي انفجر من بين الجموع قائلاً:"بعون السماء، سنطهر أرض الرب من أعوان الشيطان"وتخرج الجماهير، في حالة التهوس التي انتابتها، إلى الطرقات، وتهرب الملائكة الرحيمة من السماء، يقودها بطرس القارئ بصيحاته الهائلة ودمويته البشعة التي لا علاقة لها بأي دين وتكون الضحية هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية التي كانت تقول في أول وآخر محاضرة استمع إليها هيبا إن العقل الإنساني يمكن أن يستشف النظام الكامن في الكون، وأن يصل بالفهم إلى معرفة جوهر الأشياء، وبالتالي يميز أعراضها وصفاتها المتغيرة، وإن الفهم، وإن كان فعلاً عقلياً، فإنه فعل روحي أيضاً، فالحقائق التي نصل إليها بالمنطق وبالرياضيات، إن لم نستشعرها بأرواحنا فستظل حقائق باردة، أو نظل نحن قاصرين عن فهم روعة إدراكنا لها. وقد تعمدت المجاورة بين خطاب الإرهاب الغوغائي والخطاب الهادئ للعقل لكي يبرز الفارق بين الاثنين أعني خطاب العنف الذي يحكم على المخالف بالاستئصال، ويبرر حكمه بتأويل تخييلي لنص من نصوص الدين، معزول عن سياقه في الأغلب، كي يتحول استغلال النص المجتزأ إلى ما يبدو، تخييلاً، دعوة إلى الاغتيال الذي يقترن بالإرهاب، في مقابل خطاب العقل الذي يلازمه التسامح، وتجذبه المعرفة التي تجاوز الأديان ولا تضادها، في التحليل الأخير ومن الممكن أن نحذف اسم كيرلس أو بطرس، ونضع محلهما أسماء أخرى، تنتسب إلى أية عقيدة دينية أو سياسية أصابتها فيروسات التعصب، ولن يكون هناك فارق جوهري، فمبدأ خطاب العنف الذي ينتجه تعصب يتحول إلى إرهاب، واحد في كل الأحوال، بل في كل العصور والأزمنة، والنتائج التي تترتب عليه متشابهة في كل الديانات والعقائد وما نال الضحايا من عمليات تعذيب وحشي أدى إلى القتل أو الحرق، في هذا الزمان أو ذلك المكان، لا يختلف في جوهره، فآليات الخطاب واحدة، ومفرداته متشابهة وتخييلاته متقاربة، لا فارق جوهرياً بين تلك التي أدت إلى الاغتيال البشع لهيباتيا، باسم إله بريء من فظائع قتلها، وبين الفتوى التي أباحت قتل الأطفال المسلمين في الجزائر، حتى لا يشبّوا كفاراً مثل آبائهم ولذلك ليس المعوّل على الأسماء، أو الديانة، أو المكان، في هذا السياق الروائي، فالأهم هو الدلالة المتكررة الرجع، الدلالة التي لا يقصد من ورائها هذا الاسم بعينه، أو تلك الطائفة الدينية من دون غيرها، بل جوهر الفعل الذي تتعدد تجلياته وتتكاثر صوره، عبر الأزمنة والأمكنة، وفي كل الديانات والاعتقادات التي يشيع فيها خطاب التعصب، وتسيطر على وعي طائفة منها آليات خطاب العنف الذي يتحول إلى وصمة في جبين الإنسانية، ما ظل العموم هو المقصود من خصوص الخطاب الروائي الذي هو خطاب مجازي في نهاية الأمر. وليس من الضروري، والأمر كذلك، ترويع القارئ بتفاصيل اغتيال هيباتيا، ابتداء من سحلها وانتهاء بحرقها، فما حدث لها لا يختلف كثيراً عن ما حدث لغيرها عبر التاريخ الإنساني، خصوصاً في اللحظات التي سادت فيها غوايات عزازيل وكوارث الذين تقمصتهم روحه التدميرية الشريرة، وذلك في الأزمنة المؤهلة له، والمرحبة به، أكثر من غيرها ويُكمل المغزى التناقض اللافت بين ظاهر الفاعل لخطاب العنف الديني وجوهر العقيدة التي ينشر هذا الفاعل الدمار باسمها، محققاً هدفاً أبعد ما يكون عن حقيقة العقيدة الدينية ومبدئها الأسمى ويبدو هذا الأمر واضحاً في المفارقة التي تلحظها عينا هيبا على النحو التالي"نظرت إلى الثوب الممزق في تمثال يسوع، ثم إلى الرداء الموشى للأسقف ملابس يسوع أسمال بالية ممزقة عن صدره ومعظم أعضائه، وملابس الأسقف محلاة بخيوط ذهبية تغطيه كله، وبالكاد تظهر وجهه يد يسوع فارغة من حطام دنيانا، وفي يد الأسقف صولجان أظنه، من شدة بريقه، مصنوعاً من الذهب الخالص فوق رأس يسوع أشواك تاج الآلام، وعلى رأس الأسقف تاج الأسقفية الذهبي البراق بدا لي يسوع مستسلماً وهو يقبل تضحيته بنفسه على صليب الفداء، وبدا لي كيرلس مقبلاً على الإمساك بأطراف السماوات والأرض". وأتصور أن هذا النوع من الوعي بالتضاد ينقلنا إلى ما يماثله من المفارقة بين الأجساد الضخمة للمتعصبين بطرس القارئ مثلاً، حاملاً سكينه الرهيب، ووجوههم التي لا تعرف البسمة طريقاً إليها، مقابل الأجساد المهزولة للرهبان الذين أفرغوا أنفسهم من أغراض الدنيا، تاركين بسمة التسامح والرحمة علامة على وجوههم ووجودهم في الوقت نفسه وأضف إلى ذلك وجهاً آخر من حرص هيبا على كتابة ما رآه وسمعه وعاينه في تعاقب الأحداث التي عاناها، أو عايشها، فهو يقوم بدور الشاهد الذي لا يكتم شهادته، على الأقل لنفسه، في رقوق يعرف، قطعاً، أنها ستجد من يقرأها، في زمن ما، وأنها ستظل شهادة إدانة لكل أشكال التعصب والعنف التي رآها وعاينها، ابتداء من مصرع أبيه الفيزيقي، وانتهاء بإسقاط أبيه الروحي، نسطور الذي هزمه التعصب، ووقع عليه نوع موازٍ من عنف القمع، هو وأتباعه على السواء وتوحّد هيبا، في لحظات الكتابة التي تحولت إلى اعترافات أكسب شهادته صفة الصدق الجارح الذي جعل منه شاهداً وضحية في آن، وإذا كان لم يستطع أن يفعل شيئاً إيجابياً، يقاوم به العنف الذي أحاط به، فإنه على الأقل لم يكف عن مقاومة عزازيل الذي انطوى عليه وأحسب أن محاولة مقاومة عزازيل، في داخله، كانت فعلاً رمزياً تعويضياً عن عجزه في مواجهة الشر الذي كانت آخر معاركه الخارجية معركة نسطور التي كانت الخسارة فيها هي الأخيرة، والقاضية على أمل هيبا في الخلاص من عنف عالمه الذي هو عالمنا بمعنى من المعاني. وقد بدأت علاقة هيبا بنسطور في أورشليم التي ذهب إليها حاجاً، وتعارفا في الدير الذي سكنت فيه روحه القلقة، فوجد فيه معلِّماً وأباً روحياً، يشاركه في رغبة المعرفة التي لا يشوبها التعصب، والتي تنفتح على الفلسفات القديمة، ولا تتردد في الإفادة من الفلاسفة القدماء، ما ظلوا على الحق، في الدائرة الكبرى التي لا يحكمها سوى العقل، بعيداً من التعصب وما يلازمه من ضيق أفق، فقد كان مبدأ نسطور نؤمن ثم نتعقل، فيتأكد إيماننا، وكان في ذلك على النقيض من كيرلس الذي يكره الفلسفة، ويعادي العقل، ويلح على أن الكتاب المقدس ينطوي على حلول لكل شيء، وعلاج لكل مرض، وحماية من تأملات العقل وشطحاته التي تقود إلى الهرطقة أما نقيضه نسطور فكان يرى أن ما جرى في الإسكندرية من جرائم تعصب لا شأن للدين به، وأن قتل الناس باسم الدين لا يجعله ديناً، وأن الدين ينقلب إلى جحيم من البشاعة عندما يتغلغل الشيطان في نفوس القائمين به، فيتحول التسامح إلى تعصب ويظل الإيمان صافياً، في عيني نسطور، ما ظلت الممارسة الدينية محافظة على سماحة الدين، وإلا فإن أصحابه يتحولون إلى أهل سلطان لا أصحاب إيمان، أهل قسوة دنيوية، لا محبة روحانية ولذلك كان يؤكد لتلميذه هيبا أن الرهبان لا يَقْتلون، ولا يختالون، وإنما يمشون على الأرض هوناً، متبعين خطى الرسل والقديسين والشهداء. ولكن للأسف، يبدو أن الشيطان وجد سبيله إلى نسطور بعد أن أصبح أسقفاً للقسطنطينية، فاستبدل التعصب بالتسامح، وبطش بالمعارضين له وهدم كنائس الأريوسيين وطردهم من القسطنطينية، ففعل ما فعله الذين وقف ضدهم، وناقض نفسه بنفسه، تماماً مثل المعتزلة دعاة العقل في التراث الإسلامي، عندما فرضوا مبادئهم على غيرهم بقوة السلطة وبطش السلطان، فناقضوا أنفسهم، وصنعوا مصيرهم الذي قادهم إليه أعداؤهم وهذا عين ما حدث مع نسطور الذي أهاج عليه كيرلس الكثيرين، وجمع الممالئين له في المجمع المقدس الذي اجتمع برضا الإمبراطور في إفسوس وقرر إدانة نسطور، وحرمانه من منصبه، ونفيه إلى مكان قصي تابع للإسكندرية التي كانت مقر كيرلس ومركز قوته التي فرضها على الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني الذي كان قد رسم نسطور أسقفاً لعاصمة الإمبراطورية، وطالبه الثاني بأن يساعده في حربه على الكفرة، ويعطيه الأرض خالية من الهرطقة، كي يعطيه مفاتيح السموات ونعيمها المقيم وكان نسطور بذلك يطلب الأرض للسماء، ويتحول إلى واحد من أهل السلطان لا أهل الإيمان، في ما يقول هيبا. ولذلك كله، أعتبر رواية"عزازيل"تمثيلاً مجازياً أو رمزياً بلا فارق، وأنظر إلى كل بطل من أبطالها بوصفه مشبّهاً به لشخصية من الشخصيات المماثلة في المغزى والدلالة في زمن التعصب والعنف الذي نعيشه ونعانيه، ونراه، في الرواية، من خلال موازياتها الرمزية، أو تشبيهاتها التمثيلية التي ترينا زمننا من منظور جديد، وفى ضوء مغاير، كما لو كانت تطلب بعد الدار عنه، تمثيلاً، لكي تزداد قرباً منه، تحقيقاً، فنغدو أقدر على فهمه، وأكثر استعداداً لتغييره، ساعين إلى القضاء على جرثومة العنف الذي يتولد عن التعصب، ونهزم عزازيل الذي استولى، في زماننا الذي نرى أشباه رموز العنف فيه، وسلوكهم الدموي التدميري، في رقوق هيبا التي هي مرايا مزدوجة، نرى فيها علاقات ودوافع وصراعات الزمن الماضي الذي تتحدث عنه.