في روايته الرائعة «عزازيل» يرسم الروائي المصري يوسف زيدان ببراعة مشهودة جانباً من الصراع الأزلي بين العقل والغوغائية والشعبوية التي ترتدي غالباً أردية الدين وتلوي تفسيراته كما تشتهي. رواية زيدان التي فازت بجدارة بجائزة «البوكر» العربية للرواية في العام الماضي تقدم ثلاثة مقاربات إزاء الموقف من ذلك الصراع القديم والمتجدد بين العقل واللاعقل: الأول هو ما تمثله «هيباتيا»، أستاذة العلوم والفيلسوفة وابنة الفيلسوف ثيون فيلسوف ودرة تاج العلم المزدهر في الاسكندرية، والثاني يمثله رجل الدين «كيرلس» المتعصب والشعبوي والمعادي ل «هيباتيا» والمحرض عليها دوماً وعلى علومها بدعوى أن فلسفتها وعقلها ضد الدين، والثالث يمثله الراهب «هيبا»، بطل الرواية، والضمير القلق الذي يقف في الوسط متردداً بين العقل واللاعقل. «هيبا» لا يستطيع حسم أمره، وتتراكم هزائمه، وأولها كانت «أوكتافيا» الجميلة المتأثرة ب «هيباتيا» الفيلسوفة، والتي عشقته وظنته من أنصار العقلانية، لكنها لما أدركت موقفه المتردد وغير الجريء داست على قلبها وتركته مهزوماً. بيد أن الهزيمة الأكبر في حياة الراهب «هيبا» كانت في شهادته بأم عينه المقتل الرهيب ل «هيباتيا» في شوارع الاسكندرية على يد الغوغاء والمتعصبين. «هيباتيا» التي هي أقنوم العلم والنور والجمال، ووريثة سلالة التنوير في عائلة رفيعة المقام علماً وأدباً. في الإسكندرية، يرسم زيدان بإتقان المفارقة الكبيرة بين صورتين: «هيباتيا» العالمة والمتواضعة والرائعة الأسلوب والبديعة اللغة وصاحبة المحاضرات العلمية، مقابل صورة البابا «كيرلس»، مدعي العلم، والمتعجرف، والفج الأسلوب، والكاره والمُحرض الدائم ضد «هيباتيا» وكل من «يهرطق» بالعلم مثلها. أما الراهب المشتت «هيبا» فيزداد تمزقاً بين ضميره الديني الملتحق ب «كيرلس» وأتباعه، وعقله وضميره (عزازيل) الذي يشرئب إلى «هيباتيا». في يوم المقتلة الكبرى يخطب «كيرلس» بغضب وتحريض ضد «أعداء الدين» ويطلق لجام ألوف الغوغاء من أتباعه باتجاه «أعداء الديانة» للقضاء عليهم، وخاصة «هيباتيا». يربطونها ويجرونها بالخيول على اطراف طرق الإسكندرية الحجرية، فيتحطم رأسها، ويتمزق جسدها، ويتناثر عقلها تحت أرجل المحرضين الغاضبين. فجعتنا النهاية المأسوية ل «هيباتيا». لكن انتصار يوسف زيدان لها وللعقلانية هو ما دفع الرواية إلى مصاف رفيعة. لكن يوسف زيدان الصحافي يفجعنا ويصدمنا عندما يكتب بشعبوية وغوغائية وعنصرية ضد الجزائر كبلد وضد الجزائرين كشعب. في خضم تلك التفاهة الكروية الكبرى كنا ننتظر من زيدان أن يتشبث بصولجان «هيباتيا» ويهش به حشود «كيرلس» الهائجة. في مقالة صادمة له في صحيفة «المصري اليوم» بتاريخ 25 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي نرى زيدان آخر. ونتعجب إذ نقرأ له لغة نزقة متوترة وركيكة لا علاقة لها بلغة الرواية الرصينة، الشاعرية، والمبهرة. يستأذن زيدان قراءه قائلاً: «... لا يمكنني بأي حال استكمال سلسلة المقالات التي أكتبها حالياً (مع الحالة المصرية) الحالية. أو بعبارة أخرى لأنه من غير اللائق الكلام عن (الرؤية الصوفية للعالم) في عالم تضطرب فيه بواطن المصريين، وتضطرم قلوبها التهاباً وغضباً بسبب اللقاءات الكروية البائسة التي جرت مؤخراً مع ذلك البلد المسمى الجزائر... ولذلك أستأذن القارئ في قطع الكلام هذا الأسبوع ومواصلته ثانية من الأسبوع القادم بالحديث عن «صوفية الفن وفنون التصوف»، ثم «شطحات التعبير الصوفي» ثم «أزمة اللغة عند الصوفي» وأخيراً «رمزية الأدب»... وبذلك تتم السباعية الصوفية التي تستكشف آفاق الرؤية الروحية للكون». الشيء المدهش هنا هو سهولة وفجائية الانتقال من الغرق في أعماق الرؤية الصوفية للكون بكل شفافيتها وسموها ورقتها إلى سطح الشتائم الشعبوية والانجرار مع الغوغاء والمزايدة عليهم في إطلاق التعميمات على الناس والبشر والبلدان والتخلي عن أي حس منصف وموضوعي، ناهيك عن دوس أي رمزية صوفية أو روحية في المقاربات. يبدأ يوسف زيدان مقالته بسرد «ذكرى أليمة» لتجربة مرت عليه في زيارته اليتيمة للجزائر منذ سنوات حيث ألمّ به برد وأخذ إلى المستشفى، وبعدها اكتشف أن «الجزائر بلد يعتصره البؤس... فلماذا لم تعرف حكومتنا أن البؤس يغوص في نفوس الجزائريين...». وهو لم يفكر ثانية في السفر إلى الجزائر لأنه خشي على نفسه «من تفجير عشوائي أو مذبحة جماعية... ولا أحد يعرف لماذا يذبحون بعضهم البعض؟... وهل هناك حقاً حكومة وجماعات إسلامية بهذا البلد المسمى (الجزائر) مع أنه في معظمه امتداد صحراوي...». ثم ينتقد الروائي الكبير تخاذل المصريين عن الذود عن «كرامتهم» لدرجة «أنهم جعلوا الجزائر، وهي البلد الوليد، خصماً لمصر التي لم يعرف الزمان كفوءاً لها في هذه البلاد الوليدة المجاورة». ثم يتذكر زيدان أيام دراسته في كلية الآداب وزملاءه الطلاب الجزائريين الذين كانوا يدرسون الدراسات العليا آنذاك مطلقاً عليهم شهادته الصارمة بأنهم «... كانوا والحق يُقال مثالاً للغباء والعنف الداخلي والتعصب المطلق». وعندما تصدى لهم زيدان لأنهم كانوا يرون مصر «متخلفة» عن فرنسا فإنهم لم يستطيعوا مواجهته لأنهم رأوا في عيون زيدان «ما يثير فيهم الجبن المميز لسكان الصحراء». والجزائر «الصحراء التي تمتد في كل الجهات، وتمتد في نفوس الناس (أي الجزائريين) كان عليها أن تنتظر قدوم يوسف شاهين «الذي صنع لهم فيلماً (عن جميلة بوحيرد) جعلهم في أذهان الناس بلداً خليقاً بالاحترام». يستنكر زيدان كيف قبل الفريق المصري أن يلاعب «مجرمين ... فالمجرمون ليس لهم إلا العقاب، عقاب اللاعب الذي فقأ عين الطبيب، وعقاب البدو الصحراويين الذين صار لهم بلد، فظنوا أنفسهم مثل المصريين وتخيلوا أن كل البلدان مثل كل البلدان». معنى ذلك أن أي بدو يستحقون العقاب لأنهم بدو ولأنهم صحراويون وبخاصة إذا أرادوا أن يبنوا بلداً لهم. «كيرلس» الذي جرجر عقل «هيباتيا» في شوارع الأسكندرية منذ قرون طويلة هو رمز الغوغائية والشعبوية وموجود معنا في كل زمن وموقع، وقد تطاول وأرغد وأزبد في شوارع مدن كثيرة على هامش مباريات كرة القدم بين مصر والجزائر. «كيرلس» الحديث هو الإعلام الأصفر، والصحافي الشعبوي، والمثقف السطحي، والكاتب الأخرق، والسياسي الماكر الذي يستغل عواطف الناس ويثيرها ويزايد عليها لتحقيق أغراض سياسية، وهو أفراد وجماعات تقودها الانفعالات وتهتاج غاضبة لأسباب تافهة، وتنزلق بسرعة للتعميمات والانخراط في العداوات وإعلان المواجهات الكبرى ضد جماعات وشعوب أخرى، لأن أفراداً من تلك الجماعات ارتكبوا حماقات أو جرائم. الفرق بين «كيرلس» و «هيباتيا» أن الأخيرة تحتكم للعقل والتروي ولا تندفع وراء الحشود الغاضبة التي تريد أن تمزق وتقتل وتعادي. ليس القصد من هذه السطور الانخراط في حيثيات ما حصل بين مشجعي الكرة المصريين والجزائريين. فتلك حوادث جنائية فردية من اختصاص الشرطة وليست من اختصاص وزارات الخارجية والدفاع والأمن القومي. لكن الشيء الصادم هنا هو انحدار كتاب كبار ومفكرين وروائيين فازوا بجوائز عالمية إلى مستوى غوغائية «كيرلس»، وهم من كان عليهم الانتصار دوماً ل «هيباتيا». هل يغفر الإبداع لصاحبه أو صاحبته تبني مواقف عنصرية وشوفينية وتحريضية؟ هناك إجابتان: الأولى تقول أنه يجب الفصل بين العمل الإبداعي وصاحبه، والحكم على العمل من دون التأثر بمواقف ومسلكيات المبدع. والثانية تقول أنه يجب أن تكون هناك حدود لذلك الفصل. صحيح أنه من غير المنطقي محاكمة إبداعات الفنان والمبدع والروائي من منظور مواقفه السياسية والأيديولوجية والأخلاقية، لكن هناك حد أدنى يجب عدم الانحدار تحته وهو خط العنصرية الأحمر، والشوفينية الإثنية المقيتة، والتعالي على الأجناس الأخرى. ذلك أن السماح لهذه الانحطاطات والتسامح في شأنها وعدم محاكمة أصحابها، بل ومواصلة تقدير إبداعاتهم الأخرى، إنما يمهد الأرضية للعنصريات الجماعية ومزاعم التفرد المُتأسسة على التفوق العرقي، كما شهد التاريخ الحديث من ألمانيا النازية، إلى صربيا المتوحشة، إلى إسرائيل الصهيونية. باسم مصر الغنية والثرية والواثقة يجب أن تُرفض دعوات التفوق العرقي. وحفاظاً على اسم مصر وموقعها يجب القول بأن يوسف زيدان لا يستحق جائزة «البوكر» للرواية العربية التي حصل عليها العام الماضي، وربما يجب المُطالبة بسحبها. * أكاديمي فلسطيني - جامعة كامبردج [email protected]