يواصل الشاعر الإماراتي خالد الراشد الكتابة، لكن ليس في أي مكان أو زمان. اختار جبال الهمالايا. وجد لنفسه حياة مختلفة ذات إيقاع مغاير لطبول المدن السريعة. هناك يجلس صاحب «كله أزرق»، يتأمل نصّه، يجيب عن أسئلة «الحياة» عبر البريد الإلكتروني، فيقول إن تجربته زادت شعره جودة، وإن الهمالايا أعادت الروح إلى مفاصل لغته: «أنا أعمل في شكل أفضل ضمن هذه البيئة، وقريباً سيصدر ديوان «مزراب الشمال» وحالياً أكتب «مزمور الرعاة»... هنا، خرجت من الكتاب حياً، قبل ذلك كنت ميتاً». في ديوانه الأول «كله أزرق»، جمع تجربته على مدى 20 سنة، حمّلها رموزاً ومفردات خاصة به، فالطريق إلى البيت، والبيت نفسه، كان مقبرة كما يقول الراشد: «كاد البيت يكون مقبرتي، الآن لا تزال جبال الهملايا تصقلني، فهي صحرائي، وأنا رجل من الصحراء». الإقامة تسع سنوات على قمم جبال الهملايا كانت مثمرة روحياً وحسياً وإبداعياً بالنسبة إلى الراشد: «حملت إلى هذا المكان جسدي وحده، وصقلَتْ عواصفه روحي التي أشعر بأنها كانت هنا منذ آلاف السنين. كتبت «منمنمات»، و«راما روز»، و«الياسمين الأبيض»... وقابلت النساء كما تلتقط الفراشات لقاحها من زهرة، أحجار كريمة، بين أشجار التفاح على الجبال». الإقامة على القمة الأعلى في العالم مثّلت تحدياً للشاعر الإماراتي، بل وجذبته تعاليم مستقاة من الطبيعة الخالصة في الهمالايا: «بحثت عن خلاصي من وحدتي مع المرأة، الوحدة التي أثقلت كاهلي منذ أيام الشباب وحتى بلغت الأربعين، ثم تنفستها وكأنها هواء منالي، تلك المدينة الجميلة في قلب الهمالايا، تعلمت في الهند التوازن بين الذكر والأنثى في علم يسمونه التيانترا، وأنا معلم فيه، ولي تلاميذ. لست لاهثاً خلف العلاقات، والمرأة بالنسبة إلي صديقة قلّما ألتقيها، واقتنعت بأني لست مركّباً حتى أتجزّأ». لم يذهب الراشد إلى الهمالايا هارباً من مشكلة، لكنه بحسرة يقول: «كنت غريباً في موطني، وتحولت هنا إلى كائن بسيط تحتضنه امرأة. مجموعاتي الشعرية الثلاث تنبع مما قالته لي تلك المرأة، لم أزد عليها شيئاً، لم أحرّفها، فأنا ممسوس بهذا الحب المقدس، هنا فلسفة تعلّم الناس كيف يشعرون بحواسهم الخمس التي لا يستطيعون استعمالها في المدن المطحونة حيث يتحول الناس المطحونون إلى ديكورات». الماضي بالنسبة إلى الراشد محل إعادة نظر: «أصدقائي القدامى انتهوا من حياتي، لأنهم قابلون للنهاية. الطريق الذي اتخذته لا عودة عنه، وجدت نفسي في قارب في المحيط، لن أرجع إلى اليابسة». وعما يريده من الإقامة في الهمالايا، يقول: «أبحث عن سر الوردة الذهبية، ربما من خلال التأمل، بعيداً من أي غضب أو حقد علمتني إياه المدينية السابقة. الطبيعة معلمتي الكبيرة وأنا أؤمن بتعليم الأنثى». الحياة على أعلى قمة في العالم أعادت الى الراشد الكثير مما فقده في صخب المدن، في لهاثه خلف إيقاع الحياة السريع: «لم أعد أحب المدن الثرية، كما لا أريد أن أكون من المساكين الذين يتضورون جوعاً، لكني وجدت في الهمالايا صحراء حسية، فيها ناس يعلمونني وأعلمهم... تركت كل شيء، الوظيفة والعائلة والأصدقاء، فقط حركت جسدي الذي قادني إلى الروح، ولم أكن عاتباً، كان كل شيء بلا جدوى... تعلمت الريكي (الطاقة الكونية) واليوغا». يغادر الراشد الهمالايا كل ستة أشهر، يعود إلى الإمارات ليجدد الفيزا: «أعود مجبراً، لكني لا أترك الهند، حيث يسير نهر بياس بشعره الطويل حتى المحيط، وحيث لا أريد قول شيء غير شِعري». وهناك يتتبع الشاعر الإماراتي خطى طاغور، فالإقامة في مكان مختلف هي بمثابة بحث جديد واكتشاف للغة والشعر من وجهة نظر مختلفة. يحكي شعراً أيضاً: «المرأة التي أعرفها هي أمي، والمرأة التي سأعرفها أريد شالها في قبري. أنا تخليت عن كل شيء لأن لا شيء لي، أطفالي يعيشون في سلام، وهم مسلحون بي». خيبات الشاعر، مثل أحلامه: «مشكلتي في الهند أني أجنبي، وأيضاً في الهمالايا لا يوجد شاعر هندي أتواصل معه وأتزود منه بجديد، أنا الصحافي العربي الذي أجرى لقاء مع الزعيم الروحي للتيبت الدالاي لاما، وهو حوار لم ينشر، وما زال عندي». يشدد الراشد على أنه، وعلى رغم كونه العربي الوحيد الذي سكن الهمالايا، لم يتعرض لمضايقة من أحد، «بل غيرت حياة الكثيرين من التلاميذ في الهمالايا، من الحزن إلى الفرح، وغالبيتهم من الولاياتالمتحدة وأوروبا». كتب في مجموعته «راما روز»: «أنا لا أبحث عن بيت، أبحث عن الوردة». يمقت فكرة البيت باعتباره ملجأ مغلقاً ونهائياً: «كنت دائماً أشعر به يُطْبِق عليّ، فتركته من دون أن أنظر خلفي، تركت كل شيء على حاله وذهبت».