في ختام العام الدراسي المنصرم، عدّلت كلية الطب في جامعة"كورنِل"الأميركية تقليداً اتبّعته أكثر من مئة عام. فعقدت احتفالين بتخريج دفعة جديدة من أطبائها، أولهما في"المدينة التعليمية"في الدوحة، والآخر كما جرت العادة منذ العام 1898، في مدينة"إيثاكا"في نيويورك.. بين حفلي الدوحةونيويورك امتد فاصلان في المكان والزمان، فقد جاء الحفل الأول بعد ثلاثة أسابيع من الثاني، وفصل بينهما ما يربو على أحد عشر ألف كيلومتر. لكنهما يمثلان بالأساس حالاً من التقارب بين مؤسسسات تعليمية وبحثية في الغرب و3 دول عربية هي المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة. وتسعى هذه الدول لإحداث قفزة في مؤسساتها العلمية والتعليمية. ومثلاً، تعكف السعودية على إنشاء"جامعة الملك عبدالله للعلوم التقنية"باستثمار مقداره 10 بلايين دولار. وتعمل قطر على إنجاز"مركز سدرة للأبحاث الطبية"باستثمار قيمته 8 بلايين دولار. وافتتحت جامعة"السوربون"الفرنسية المرموقة فرعاً لها في إمارة أبو ظبي، ليتجاور فرعاً لجامعة نيويورك الشهيرة مع حلول العام 2010. البنى التحتية تليها الأكاديمية وتشترك هذه المبادرات في اعتمادها على ثروة النفط. وتأتي بعد أن طورت دول النفط بناها التحتية الأساسية مثل الطرق والمدارس ووسائل المواصلات والاتصالات والتعليم الأساسي، ما سَهّل ضخّ استثمارات ضخمة في المشاريع التعليمية والبحثية المتقدمة. بيد أن الحماسة التي تبديها أخيراً دول الخليج العربي للمشاريع التعليمية الكبيرة لها أسباب أخرى تتعدى توافر الموارد. وبحسب تصريح فاروق الباز رئيس"مركز الاستشعار من بُعد"في جامعة بوسطن الأميركية، لبعض وسائل الإعلام العربية أخيراً، فإن القادة في دول الخليج تابعوا كيف حققت بلدان مثل"النمور الآسيوية"والهند والصين، تقدماً مشهوداً في الاقتصاد والتعليم والمناحي الاجتماعية، من دون أن توهب موارد طبيعية كبيرة. ونمت لدى كثيرين من أولئك القادة قناعة بالأهمية المحورية للاستثمار في التعليم العالي والجودة كخطوة أولى في النمو الاقتصادي والتطوّر الاجتماعي. ويشارك الدكتور الباز منذ أواخر العام 1973 في مبادرات لتطوير العلوم في السعودية ومصر وليبيا والإمارات وقطر. ويبدو أن هذا الوعي الجديد يقف وراء الكثير من المبادرات التي نراها اليوم في الخليج. ففي لقاء مع"الحياة"، صرح تيدو ميني رئيس"واحة قطر للعلوم والتكنولوجيا"، بأن تأخر المنطقة العربية تعليمياً وعلمياً،"لم يعد محل جدل، ومن ثمّ فإن دول الخليج تسعى الآن الى تبديل الحال، ليس حافزها بالضرورة حب العلم، وإنما الرغبة في إحداث التغيير الذي يحل محل الركود والتأخر". وتعتمد تلك المبادرات بصورة جزئية على"استيراد"خبرات وكفاءات تعليمية وبحثية من أوروبا وأميركا، باتباع طُرق متنوّعة. ففي قطر، ترتكز مشاريع التعليم العالي الجديدة الى"نموذج الفرع الجامعي"branch campus model، إذ تُدعى إحدى الجامعات العالمية الكبرى لتفتح فرعاً لإحدى كلياتها في"المدينة التعليمية"في الدوحة. ويطابق الفرع الأصل في التعليم وفي معايير اختيار الطلبة والأساتذة. كما يحصل الطلبة على شهادات تخرّج تطابق تلك التي تمنحها الجامعة الأم. واستضافت"المدينة التعليمية"لحد الآن فروعاً لست جامعات أميركية هي"فرجينيا كومنولث"التصميم الفني،"كورنِل"الطب،"تكساس إيه آند إم"الهندسة،"كارنجي ميلون"إدارة الأعمال وعلوم الحاسوب، جورج تاون كلية السياسة الدولية، وپ"نورث وسترن"الصحافة والإعلام. وتمتد تلك المدينة على قرابة عشرة ملايين متر مربع. وتشرف عليها"مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع". وفي لقائه مع"الحياة، صرح محمد فتحي سعود رئيس"مؤسسة قطر"بأن تطبيق نموذج"الفرع الأكاديمي"يجري تطويعه بعد الاستفادة من التجارب المُشابهة في دول أخرى واستطلاع آراء الاختصاصيين. فمثلاً، استنتجت قطر ملمح الشراكة مع الجامعات الكبرى حصراً. وكذلك جرى استبعاد فكرة الاعتماد كلياً على جامعة بعينها، مهما بلغ علو كعبها. وبذا، استُبْعِد خيار الاتكال على جامعة فرجينيا الأميركية. وفي المقابل، تبيّن أن جامعات مثل"أوكسفورد"وپ"كامبردج"وپ"هارفارد"وپ"ماساشوستس"، لا تقبل دخول هذه التجارب. وقبلت"كورنِل"المشاركة في أواخر التسعينات، ما فتح الباب أمام إقناع جامعات أخرى بالمشاركة في التجربة القطرية. ولا يخلو نموذج"الفرع الجامعي"من نقاط ضعف، خصوصاً عزوف بعض الجامعات الكبرى عن عقد شراكات طويلة الأمد مع قطر. ومن المعلوم أن تصنيف الجامعات الأميركية لعام 2008، الذي نشرته مجلة"يو أس نيوز"الأسبوعية، لا يتضمن أياً من أسماء الجامعات التي شاركت قطر، في المراتب العشرة الأولى منه. وتشغل"كورنِل"المرتبة الثانية عشرة وپ"نورث وسترن"ال14، وپ"كارنيجي"ال22، وپ"جورج تاون"ال23 وپ"تكساس إيه آند إم"الپ62. وفي تعقيبه ل"الحياة"حول سبب إعراض"معهد ماساتشوستس للتقنية"الذي احتل المرتبة السابعة عن"نموذج الفرع الجامعي"، قال فيليب كلاي، نائب رئيس المعهد إن إنشاء الفروع يشتت جهود الأساتذة، ما قد ينعكس سلباً على كفاءة التعليم وسمعة المعهد الأم. وأضاف:"من يرغب في الحصول على شهادة من معهد"ماساتشوستس"، عليه القدوم لجامعتنا والدراسة مع أساتذتنا". واتّفق الدكتور ميني مع هذا الرأي، مشيراً إلى أن كثيرين من الأساتذة يفضلون البقاء في الجامعة الأم،"حيث المناخ الأكاديمي الغني والمستقر. ولذا، تضطر الجامعات لتوظيف أساتذة من خارج الجامعة الأم، وربما كان بعضهم دون المستوى المطلوب". في المقابل، ذكر الدكتور كلاي أن معهد"ماساتشوستس"مندمج في عشرات البرامج البحثية المشتركة مع جامعات غير أميركية، ومنها برنامج تعاوني مع"معهد النفط"في إمارة أبو ظبي، وقد أعلن عنه في شباط فبراير 2007. برامج البحوث المشتركة يُظهِر مشروع"جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية"ارتكاز النموذج السعودي على بناء شبكة من برامج البحوث المشتركة مع جامعات عريقة. ولا يستعمل أسلوب استيراد الأفرع الجامعية الذي تسير فيه قطر. وتتميّز تلك الجامعة عن نظيراتها العربيات بأنها متخصصة في البحوث. ولا تقبل سوى طلبة الماجستير والدكتوراه. وتُموّل بحوثاً في جامعات عالمية، عبر برامج للشراكات العلمية. وتمنح تمويلها للباحث الذي يعمل على مشاريع تقع ضمن نطاق مجالاتها البحثية، مثل بحوث الوقود العضوي وتحلية المياه والهندسة الحيوية والرياضيات التطبيقية، من دون أن يضطر لمغادرة جامعته ومختبره. وفي أحد برامج التمويل، تبلغ منحة البحث نحو خمسة ملايين دولار، موزعة على حوالى ثلاث سنوات. وفي مقابل ذلك التمويل، تطلب"جامعة الملك عبدالله"من الباحثين أن يزوروا حرمها في السعودية مرتين أو ثلاثاً للمشاركة في ندوات أو برامج تدريبية للتعريف بمشاريعهم، وأساليب إجرائها، ومدى التقدم فيها. ومن المستطاع التقدم لهذه المنح البحثية من أي بلد، إذ تُعطى من دون التمييز بناء على الجنسية أو الدين أو العرق أو غيرها. والمعلوم أنها الجامعة السعودية الأولى التي تعتزم ضم فصول للإناث والذكور على السواء. ويجري العمل راهناً على إنشاء حرم الجامعة في منطقة ثويل على البحر الأحمر، 80 كيلومتراً شمال جدة على مساحة تقارب 63 مليون متر مربع. وتبدأ الدراسة في أيلول سبتمبر 2009. وفي تصريحات تناقلتها وسائل الإعلام السعودية أخيراً، انتقد رئيس الجامعة الدكتور اتشون فونج شيه سنغافوري الأصل فلسفة"الفرع الجامعي"بالإشارة إلى طبيعته الاحتكارية التي تقيد الجامعة الأم والدولة المستضيفة في شراكات حصرية. ورأى أن القرن 21 شهد بزوغ نوع جديد من الشراكات الأكاديمية"المفيدة وغير الحصرية"التي تدعم أوجه القوة في الشركاء. وتعكس شراكات الجامعة هذا التوجه، بتعاونها مع جامعات في الولاياتالمتحدة واليابان وكندا وإيطاليا وهولندا والسويد والهند وتايوان ومصر. إحترام الحريات الأكاديمية في المقابل، يمكن السؤال عن المردود فعلياً من إنفاق مئات الملايين من الدولارات على مشاريع بحوث خارجية غير مضمونة، بحسب بيتر لي، نائب الرئيس الأكاديمي لجامعة"كارنيجي ميلون"الأميركية. والمعلوم أن وفداً من"جامعة الملك عبدالله"أجرى محادثات مع مسؤولين في هذه الجامعة الأميركية في شأن الشراكة في برامج بحثية في آذار مارس 2007. وحضر الدكتور لي اللقاء. ولم يكد يُعلن عن إمكان التعاون بين الجامعة الأميركية وجامعة الملك عبدالله حتى تتابعت ردود فعل غاضبة من أساتذة أميركيين، يأخذون على جامعتهم إقدامها على التعاون مع دولة ادعوا إنها لا تحترم حقوق النساء ولا حرية الرأي. وكان رد الدكتور لي أن الجامعة تحترم الحرية الأكاديمية، ولا تفرض شيئاً على أحد من أساتذتها، مشيراً الى أن قرار التعاون في برامج بحثية مع الجامعة السعودية يعود لكل أستاذ على حدة، يقبله من يشاء ويرفضه من يشاء. والحق أن التشكيك في التزام الجامعة السعودية التقاليد الأكاديمية الغربية كان مثار جدل في الأوساط العلمية الأميركية. فمثلاً، نشرت مجلة"نيتشر"Nature العلمية المرموقة في حزيران يونيو 2007 مقالاً بعنوان"هل تستطيع جامعة سعودية أن تفكر بحرية"؟ وتردّد هذا السؤال بصيغ مختلفة في صحف غربية خلال العام المنصرم. حينها، انتقد البعض أيضاً تجربة"جامعة الملك عبدالله"بأنها تركّز على البحوث التطبيقية بصورة حصرية. وردّ عالم الاجتماع المصري -الأميركي المعروف سعد الدين إبراهيم على ذلك في مقالات تداولتها الصحف حينها، بالإشارة إلى أن الأمم تبدأ نهوضها بالتركيز على المناحي التطبيقية، تلك التي تؤتي ثمارها سريعاً، ثم تنتقل تدريجاً الى العلوم البحتة، كما حدث في الولاياتالمتحدة نفسها. ولاحظ إبراهيم، الذي يرأس"مركز إبن خلدون للدراسات الإنمائية"، أن ذلك يمثل تحوّلاً جديراً بالانتباه. ولفت إلى أن"الأفكار الخلاقة والتحديثية كانت غالباً تأتي من قلب العالم العربي، من دمشق والقاهرة وبيروت، ومع مضي الزمن، تكلست شرايين ذلك القلب، وصارت أفضل المبادرات تأتينا من الأطراف، كنواكشوط والرباط ومدينة الكويتوالدوحة". تتنوع فلسفات النهوض بالتعليم في دولة الإمارت العربية. ففي العام 2003 دشنت حكومة دبي مشروع"مدينة المعرفة"التي استقبلت فروع جامعات من الهند وباكستان واستراليا والولاياتالمتحدة وكندا وبريطانيا. وعلى عكس نهجي السعودية وقطر، فُتحت تلك الفروع كمؤسسات ربحية، تستمد تمويلها من رسوم الدراسة التي تحصّلها من الطلاب. وجُعِلَت"مدينة المعرفة"منطقة حرة، مفتوحة للجامعات الراغبة في العمل في المنطقة العربية. وفي إمارتي أبو ظبي ورأس الخيمة، يُتّفق مع الجامعات الغربية الكبرى على شراكات طويلة الأمد نسبياً. وبحسب مقال لصحيفة"نيويورك تايمز"في شباط فبراير الماضي، تمتلك جامعة"جورج ميسُن"الأميركية برنامجاً محدوداً في رأس الخيمة. وثمة برنامج مماثل لجامعة واشنطن في أبو ظبي، التي فتحت فيها جامعة"السوربون"فرعاً في أواخر 2005، كما يصلها أيضاً فرع لجامعة نيويورك في الپ2010. وعلى رغم اختلاف الفلسفات التي تطبقها دول الخليج، فإنها تتفق في جديتها في العمل على استنهاض الهِمّة مجدداً في التعليم والبحث العلمي، عبر التفاعل الخلاق مع المؤسسات الأكاديمية العريقة.