نجحت تسيبي ليفني رئيسة حزب "كاديما" في تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة أو لم تنجح فإنه من المرجح أن اصطفاف النُخب في إسرائيل أو خياراتها لن تتغيّر في المدى المنظور. فإذا أفلحت ليفني في إقامة ائتلاف حكومي جديد برئاستها فسيكون مماثلا بهذا الشكل أو ذاك للائتلاف القائم الآن. وإذا لم تنجح فسيتمّ الذهاب لانتخابات جديدة لن تسفر في رأينا عن تغيرات جذرية في مركز الخارطة السياسية في إسرائيل. وحتى لو حصل الأمر فإن محور الحالة الإسرائيلية يظلّ في طروحات النُخب وليس في اصطفافها، وإن كنا نقيم فارقا بين هذا الحزب أو ذاك. وعليه، من الخطأ بمكان أن تراهن أطراف عربية أو فلسطينية على نتائج الحراك الحزبي والسياسي في إسرائيل إلى درجة أن تنتظر وتكتفي بردود الفعل. يُغرى المشتغل بالسياسة الإسرائيلية برصد التصريحات وتسجيل المواقف المعلنة بينما السياسة في مكان آخر. في الاقتصاد الاستراتيجي وفي المقدرات والموارد وفي مبنى القوى والتوازنات القائمة وفي وجهة النُخب الإسرائيلية التي لا تزال تعتقد في أوساط واسعة فيها أنها قادرة على الاستمرار في سياساتها مع بعض التعديلات. بل أن المراجعات الحاصلة في إسرائيل منذ حرب لبنان الثانية التي تقاطعت مع المراجعات والمكاشفات التي حصلت في الذكرى الخامسة والثلاثين لحرب تشرين أكتوبر 1973، تكشف أن الرهان الأساس، وإن اهتزّ، فلا يزال نافذا. ومفاده أن النُخب الإسرائيلية ماضية في استثمار فائض القوة الذي تتمتع به أو الذي تعتقد أنها تتمتع به. واللافت أنها عمدت بعد حرب لبنان إلى بناء قدرات الجيش وإعادة تجهيزه من خلال سلسلة لا نهاية للها من الإجراءات والتدابير على الأرض، وهي ليست معلنة في قسم كبير منها. ويلاحظ تلك المراهنة المتزايدة على العسكر في ظل غياب قيادة سياسية مستعدة لخيارات غير عسكرية في المرحلة الراهنة. لا يشهد الخطاب الإسرائيلي السياسي والأمني والاستراتيجي تحولات أو طروحات تبتعد عن الفرضيات الأساس المعمول بها منذ فشل اوسلو. وهي فرضيا تقول بتفوق إسرائيلي ينبغي إدامته واستثماره كجزء من نظريات الأسس التي تبني عليها الجماعات والشعوب خياراتها الاستراتيجية. وعلينا أن نُشير إلى حقيقة أن بروز إيران كقوة إقليمية ذات شأن بفعل قدراتها العسكرية غير الاعتيادية، عزّز في إسرائيل هذا التوجّه وإن بدا أنه يتخذ أشكالا ألطف وأكثر مرونة على الجبهة مع العرب لا سيما بعد معاهدتي سلام مع مصر والأردن وعلاقات ديبلوماسية أو شبه ديبلوماسية مع عدد من الدول العربية. بمعنى ما فإن إسرائيل غير الراغبة في حرب لا تزال قادرة على إدامة حالة اللا سلام! وهي صيغة تأخذ منذ اتفاقيات أوسلو شكلا آخر وهو إدامة حالة التفاوض على أنها الحلّ انظر ملفّ المفاوضات مع الفلسطينيين! من هنا تأتي أهمية الفاعلية العربية في مساحة المواجهة/التفاوض مع إسرائيل. وهي فاعلية ينبغي أن تتجاوز النسق القائم من الحديث العربي المحصور في القيادة الإسرائيلية المنتخبة. صحيح أنها عنوان لكنها ليست العنوان الوحيد في الساحة. ففي إسرائيل رأي عام فاعل ومصممو رأي ومؤسسات مجتمع مدني حيوي ونشط بدلالة أن قرارات إسرائيل الاستراتيجية تُقرّ وتتبلور في العقدين الأخيرين في مراكز أبحاث ومعاهد وحلقات بحث ودراسة وفي الحيز العام أكثر مما تُقرّ في البرلمان أو الحكومة. من ناحية ثانية على القيادات العربية أن تنتبه إلى حقيقة الدور المتنامي للجاليات اليهودية في أوروبا وأميركا الشمالية في التجربة الإسرائيلية. وهي جاليات عمّقت تدخلها المباشر وغير المباشر في السياسة الإسرائيلية الداخلية أنظر العلاقة المالية المتطورة بين قيادات الأحزاب الكبيرة وبين أثرياء يهود من مختلف بقاع العالم وانظر الاستثمارات اليهودية في إسرائيل والعلاقة الوثيقة بين الدولة العبرية والجاليات. في ضوء هذا لا يُمكن للقيادات العربية أن تُغفل هذين المركزين المؤثرين في بلورة السياسات الإسرائيلية. بل أن التوجّه السلامي الاستراتيجي الذي اعتمده العرب في المبادرة السعودية المعدّلة ينبغي أن يشمل هذين المركزين. ولا يُمكن مواصلة التخبط في خانة"رفض التطبيع"وإبقاء المبادرة المذكورة، التي استوعِبت إسرائيليا في المستوى الكلامي على الأقلّ، كقاعدة للتفاوض وإقرار مصالحة عربية إسرائيلية، في حدود انتظار نتائج الانتخابات الإسرائيلية من جولة إلى جولة! فلماذا لا يتمّ الاتصال المباشر بهذين المركزين أو بممثلين عنهما؟ لا يصحّ، والمبادرة السعودية مبنية على فرضية المصالحة مع الشعب اليهودي في فلسطين، الإحجام عن متابعة تسويق طروحات المبادرة بحجة"رفض الاتصال مع العدو والتطبيع مع الكيان الصهيوني"! وهي حجة تبدو وفق أحكام العقل الرشيد والراشد طفولية صبيانية تنمّ عن نسق المزايدة أو التنصّل من المسؤولية عن المبادرة والتوقيع عليها. فهنا لا يتم الحديث عن تسلل فردي لهذا الزعيم العربي أو ذاك ولا عن اتفاقيات انفرادية مع إسرائيل بل عن رؤيا عربية متكاملة لن يضرّ أحد أن يتم التفاوض على أساسها وعلى أساس ما تتضمنه من شروط عربية واضحة وتحظى بإجماع! سيكون من الحيوية العربية المكمّلة لروح لمبادرة والفعل المبدع العربي ديبلوماسيا أن تُبادر جهات عربية، وتحت مظلة المبادرة، إلى اتصالات مفتوحة مع مركزي التأثير المذكورين على السياسات الإسرائيلية لإقناعهما بقبول المبادرة العربية ومبادئها. وينبغي ألا يتواضع العرب في اعتبار اتصالات كهذه محاولات للتأثير المباشر على الرأي العام في إسرائيل أو على قطاعات مؤثرة في التجربة الإسرائيلية. وباعتقادنا أن الرأي العام الإسرائيلي وكذلك الجاليات اليهودية في أوروبا وأميركا الشمالية قابلة للتفاعل مع تحرك عربي كهذا. ولأن لا فراغ في السياسة الإسرائيلية حتى في فترة الانتخابات، فسيكون تحرك كهذا قد فرض تحديات على النُخب الإسرائيلية التي قلنا أن تغير اصطفافها الانتخابي في السنوات الأخيرة، لم يتحول إلى تغيّر جذري في الطروحات والرؤى. والعرب قادرون في هذه المرحلة تحديدا على التأثير على هذه النُخب إذا ما عزفت عن دور المتريّث ورادّ الفعل وأنجزت ما بدأته بطرح المبادرة! * كاتب فلسطيني.