تبدأ الحكاية بحلم في التوجّه إلى المدن الكبيرة من أجل حياة أفضل، أو فضول في خوض تجارب الذين سبقوا إلى العاصمة. والأسباب كثيرة، منها الرغبة في إثبات الذات، وتحقيق الأحلام في مركز الحدث، واقتناص فرص عمل، والانخراط في علاقات وصداقات... قد لا توجد أسرة جزائرية لم"يهجرها"ابن أو ابنة، على الأقل، نحو العاصمة أو المدن الكبيرة مثل قسنطينة ووهران وعنّابة. والأوفر حظاً بين مهاجري الداخل، وجلّهم في سن الشباب، من تتوافر له إقامة عند أقارب. والذين يصرّون على الرحيل بلا سند، عليهم مشاطرة شقة مع أصدقاء، وتقاسم المصاريف الباهظة. تختلف أسباب الانتقال إلى المدن، ومعها تختلف مدة الإقامة وتتنوّع طرق البقاء. معظم الطلاب يود العيش في العاصمة، بعد التخرّج، خوفاً من انتهاء المعارف والمهارات التي اكتسبوها في التسكع في ساحة قرية، أو في زراعة حقل، أو في الارتهان لأفراد أو جماعات أو نافذين. اكتظاظ المدن الحيوية على حساب الأرياف المرهقة،"خطأ"لا يقع على الشبّان والشابّات، فمرافق العمل، ومقوّمات الحياة ومغرياتها، وسبل النجاح والتقدّم... تتركّز في مدن محددة دون غيرها، وهو الأمر الذي شكل ضغطاً شديداً عليها، يتزايد باطّراد، ويتجلّى في اكتظاظ بشري في الطرقات والمساكن والجامعات والمؤسسات، ويمعن في المقابل، في تفريغ مناطق وولايات أخرى في الجزائر. احتمالات العودة بالإتجاهين العاصمة مركز رسمي واقتصادي وتاريخي وسياحي، وفيها ما يشجّع الإقبال والتقاطر عليها. ولتدارك"النزف"البشري إليها والمدن الأخرى، يُدرس عدد من المشاريع الضخمة للولايات الداخلية، تهدف إلى الحد من الاكتظاظ، عبر إقامة"مراكز جذب"أخرى. وتنفيذ الخطة شرح يطول، بينما الأسر الجزائرية والمناطق التي تقطنها، تعاني رحيل أبنائها عنها. ويبقى المغادرون حيارى بين العمل بعيداً والعودة إلى كنف العائلة، والاقتناع بصفة"الحيطست"أو المتبطّل. لا تضع سميرة صحافية 27 سنة في أجندتها الحالية فكرة العودة إلى مسقط رأسها مستغانم، وتصرّ على البقاء في العاصمة، بسبب ندرة فرص العمل. وتقول:"بعد أربع سنوات في معهد الإعلام والاتصال، وجدتني ألتحق بجريدة يومية. وعقب خروجي من الحيّ الجامعي، سكنتُ في شقة مع زميلات، تحولن إلى صديقات عزيزات. فلو عدت إلى مدينتي، لن أجد ما أفعله. ومن الصعب أن أراسل الجرائد من هناك". زارت سميرة خلال عطلتها السنوية، الصيف الماضي، بيت ذويها. وأرادت أن تستطلع إمكانات العمل، لتشعر بأن فرصه ضئيلة، مثل فرص عودتها. ليس من اليسير على شاب وحده في الجزائر أن يشقّ طريقاً من دون رصيد مالي، أو مساعدة أحد. ولا ينتظر معونة من ذويه، بالطبع، وإلاّ ما كان تركهم أساساً. والراتب الشهري العادي نحو 20000 دينار جزائري، لا يسدد إيجار الشهر لشقة صغيرة في العاصمة. سهام 25 سنة، قررت أن تعود. تركت العاصمة قبل أشهر بعد أن شعرت بأن طاقتها استنفدت. ولم تتمكن من ادّخار مبلغ بسيط، سواء لمساعدة أسرتها أو لتأمين"جهاز"عرسها. وتبرر رجوعها بأنها سئمت من العمل"من أجل اللاشيء". ولهذا فكّرت في أن تستقر في بيتها الأسري،"ولا يزال والدي يتحمّل مصاريفي حتى الساعة. لكنني مرتاحة من شطط لم انتفع منه، وأنا بعيدة من أهلي". كمال 30 سنة قرّر أن ينسحب هو الآخر من مدينة كبيرة أنهكته ودفعته إلى العودة إلى أسرته في مدينته المعزولة، بعد أربع سنوات عمل فيها مساعداً في مكتب محام. وعلى رغم أنه اكتسب خبرة، اعترف بأنه يشعر بإرهاق وتعب نفسي، لصعوبة تدبّر شؤونه. ويروي:"أشعر بأنني في ورطة حقيقية، لأنني نادم على التخلي عن منصبي في العمل، وقد حلّ شخص آخر محلي، أي لا أمل لي في العودة. والأنكى، أنني اكتشفت ذلك، حين حاولت العودة إلى العاصمة، بعدما يئست من إيجاد عمل في مسقط رأسي. أنا الآن في العاصمة أقطن مع أصدقاء يتكفلون بأمري إلى حين، راجياً أن أجد عملاً سريعاً". وفي مقابل الفشل واليأس، ثمة شبّان نجحوا في فرض أنفسهم، وقد حالفهم الحظ في العمل وتحصيل الدخل، فتمكنوا من تسديد الإيجار والتكفل بالمصاريف. ومنهم من استفاد من مشاريع سكنية، كمشروع"عدل"الذي يقدّم شققاً جاهزة، مقابل التسديد على آجال طويلة. جلال 28 سنة، يعمل نجّاراً. تدبّر أمر شقة في أحد المشاريع السكنية، ثم توظّف في شركة للأخشاب. لكنّ حالة جلال قد تبث تفاؤلاً"مضلّلاً"، لأنها تشجّع الشبّان الآخرين على مواصلة رحلة البحث عن لقمة العيش والحياة"الموازية"البعيدة من الأهل وتحقيق حلم الاستقلالية والعتق، في حين أن الواقع مغاير لذلك، تماماً.