سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أيام في بلاد الديموقراطية والإرهاب وپ"الحرب على الإرهاب" عشية اغتيال بوتو . بينظير عادت الى باكستان قبل تسوية ملفاتها والإسلاميون كانوا ينتظرون مواجهتها 1 من 4
يدرك من يتجول في إسلام آباد او في ضاحيتها الكبيرة راولبندي، ان المدينة أعدت نفسها لجنائز كبرى. هنا موقع المسجد الأحمر، وهذا الجسر سبق ان دمرته عبوة ناسفة أثناء مرور الرئيس برويز مشرف عليه، لكن الرئيس نجا بأعجوبة، وأمام ثكنة الجيش هذه فجر انتحاري نفسه قبل نحو شهر... إذاً تعدّك المدينة لاحتمالات كثيرة من هذا النوع، وتدفعك الى التساؤل، قبل حادث اغتيال رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو، عن الشجاعة التي يتحلى بها الزعماء المعارضون الذين عادوا من المنفى. إسلام آباد مدينة مفتوحة على بر جنوب آسيا، وثمة سلاسل جبلية في محيطها. لقد كانت المدينة منذ اقل من أربعة عقود غابة، الى أن تقرر تحويلها الى عاصمة باكستان. الشوارع سهلة وأسماؤها أحرف إنكليزية وأرقام. لا كثافة سكانية يمكن ان يتوقعها المرء، على رغم أنها عاصمة لدولة تضم 170 مليون نسمة. هذا الهدوء يضاعف من ريبة المرء حيال ما يجري في هذه المدينة. الإسلاميون، ومن بينهم الأحزاب الممثلة في البرلمان الباكستاني والناشطة في شكل علني، لم تخف ضيقها بعودة بوتو، وقادة هذه الأحزاب الذين التقتهم"الحياة"قبل اغتيال رئيسة الوزراء السابقة، لم يخفوا عداوتهم لها. إنها السيدة أولاً وهذا لوحده سبب لتحفظهم، وهي العلمانية، والداعية الى فتح ملفات المدارس الدينية والى دخول الجيش الى مناطق القبائل... إضافة الى عشرات الأسباب الأخرى. ثم ان بوتو عادت الى باكستان لتخوض الانتخابات التشريعية في وجه الرئيس الباكستاني برويز مشرف. الانتخابات التي كان سيخرج منها الرئيس مجبراً على اختيار شركاء له في الحكم. وكان على مشرف بعد هذه الانتخابات ان يتجرع كأس بينظير رئيسة لوزرائه، خصوصاً انه كان من المستحيل ان يشارك قطب المعارضة الثاني نواز شريف الحكم. فالقوى التي كانت ستتقاسم البرلمان، بحسب معظم التوقعات، هي نواز شريف على رأس حزب"الرابطة الإسلامية"أولاً، ثم بينظير بوتو على رأس حزب"الشعب"، ثم الرئيس مشرف على رأس جناحه في حزب"الرابطة الإسلامية"، والقوة الرابعة الإسلاميون بقيادة زعيم"جمعية علماء الإسلام"بعد ان أعلنت الجماعة الإسلامية مقاطعتها الانتخابات. إذا البرلمان الذي كانت الانتخابات ستنتجه مشتت ومن دون غالبية مطلقة ما يحتم على الرئيس اختيار حليف ليشكل الحكومة، وهذا الحليف لن يكون نواز شريف ولا الإسلاميين طبعاً. وبوتو عادت الى باكستان قبل ان تسوي مشكلتها المزمنة مع المؤسسة العسكرية. فهذه المؤسسة التي أعدمت والدها ذو الفقار علي بوتو عام 1979 بعد الانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرال ضياء الحق عام 1977، لها الكلمة الفصل في مستقبل السياسيين في باكستان خصوصاً في هذه المرحلة. وتحفظات جنرالات الجيش على تولي بينظير رئاسة الحكومة بعد الانتخابات التي كانت مقررة قبل اغتيالها امر مسلم به في باكستان. الحليف السياسي والخصم الانتخابي لبينظير وزعيم حزب الرابطة نواز شريف، لم تشكل عودة بوتو الى باكستان، والتي سبقت عودته صلحاً كاملاً بينهما، فالريبة بقيت تسود العلاقة بين الزعيمين. فهما عادا بعفو رئاسي واحد، ولكنهما افترقا في الكثير من التفاصيل المتعلقة بشروط العودة، بدليل السماح لها بالترشح ومنع نواز شريف وشقيقه من ترشيح نفسيهما الى الانتخابات. عودة بينظير الى باكستان كانت أشبه بوصول الى حقل مملوء بكل هذه الألغام. هذا قبل المباشرة باستعراض القوى التي يرجح الجميع ان تكون هي من يقف وراء الاغتيال، أي جماعات العنف الديني وعلى رأسها تنظيم"القاعدة"وحركة طالبان اللذان يشكل وصول بوتو الى الحكم إليهما تحدياً كبيراً. فأول ما يشير إليه أنصار هذه الجماعات في إسلام آباد عندما تلتقيهم وهم كثر وفي الإمكان لقاؤهم هو ان بوتو جاءت من منفاها بضغط أميركي وان الغاية من مجيئها تعزيز المساهمة الباكستانية في الحرب على الإرهاب. وتمتد اتهامات إسلامية الى بوتو لتصل الى الملف النووي، فيشيرون الى وعود قطعتها بوتو بتسهيل التحقيق مع العالم النووي الباكستاني عبدالقدير خان. لن يكون صعباً على من زار باكستان قبل ايام من اغتيال بوتو وعلى مشارف الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في الثامن من الشهر الجاري، تقديم مشهد مختلف عن ذلك البلد في أعقاب الاغتيال. فالمشهد في إسلام آباد كان معداً للزلزال الذي أصابها. المشهد السياسي كان مقفلاً، والانتخابات كانت ستضاعف من انسداده بدلاً من إحداث انفراج ما. وعلى رغم كل ذلك عادت السيدة بوتو الى بلدها. لا شك في أنها سجلت بعودتها شجاعة غير مسبوقة، فالمصير الذي واجهته لم يكن مستبعداً من قبل الكثير من المراقبين، لا سيما أنها كادت تواجه مصيراً مشابهاً في اليوم الأول لعودتها. ولا شك في أن الأميركيين، وفي الأشهر التي سبقت عودة كل من بوتو وشريف قد ضاعفوا من ضغوطهم على مشرف لإعادة زعماء المعارضة من الخارج. لم يكن الهدف إزاحة مشرف وإحلال بوتو مكانه، انما الإتيان بشريك لمشرف يدفع بأتجاه مزيد من الإصلاحات ومزيد من الانخراط في الحرب على الإرهاب. خسر الأميركيون رهاناً جديداً في منطقة جنوب آسيا. فربما شكلت عودة بينظير بوتو ونواز شريف تحدياً حقيقياً للإسلاميين وللجماعات المتطرفة منهم في شكل خاص، ولكن أنياب هذه الجماعات لم تستأصل بعد، ناهيك بأن المتضررين من هذه العودة لا يقتصرون على هذه الجماعات. فپ"الجهاد في أفغانستان"والحرب على الإرهاب أكسبا الكثير من الأجهزة مهارات توظيف"المجاهدين"في حروب أخرى. "الحياة"زارت باكستان عشية اغتيال بوتو وعادت بسلسلة تحقيقات تبدأ اليوم بنشر الحلقة الأولى منها علماً ان عدداً من الأحاديث التي ننشرها ضمن هذه الحلقات اجريت قبل عملية الاغتيال، وهي بهذه الحال تعكس الأجواء التي سبقت اغتيال بوتو. رحلة على طريق"المجاهدين"الى بيشاور... ومخيمات الأفغان التي لم تسعفها الإغاثة ضباب كثيف يغطي الطريق السريع الذي يصل العاصمة الباكستانية إسلام آباد بعاصمة إقليم سرحد إقليم الحدود بيشاور. صديقنا الشاب الفلسطيني الذي رافقنا في الرحلة الى بيشاور، المدينة التي أمضى فيها سنوات طويلة، حرص طوال الطريق على إسماعنا أغاني الثورة الفلسطينية التي شاعت في الأردن ولبنان في السبعينات والثمانينات."المد المد يا ثورتنا الشعبية... ما بيقدر حد يوقف زحف الفدائية...". بدا الأمر اقرب الى خلط أزمنة وأمكنة لا يستقيم من دون إعادة بناء المشهد على أسس مختلفة. فهذا الطريق من إسلام آباد الى بيشاور سلكه عشرات الآلاف من"المجاهدين"العرب الذين حطت بهم الطائرات في مطار العاصمة الباكستانية، ونقلتهم سيارات الدفع الرباعي من المطار الى عاصمة الجهاد الأفغاني بيشاور، في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته. "المد المد يا ثورتنا الشعبية..."، الموسيقى تنبعث بوتيرة تفوق وتيرة اندفاع السيارة التي تمشي متباطئة في غمرة هذا الضباب الكثيف. وفي المقعد الخلفي يجلس حكمت الله وهو طالب أفغاني في إحدى المدارس الدينية في إسلام آباد، غطى وجهه بوشاح كبير تجنباً لبرد الصباح في هذه المنطقة الجبلية. لكن خلط الأزمنة والأمكنة الذي نجم عن عدم انسجام في عناصر المشهد، بين موسيقى الثورة الفلسطينية وأراجيزها، وبين تقادم"الجهاد"، ناهيك عن القطيعة الجغرافية، هذا الخلط يمكنه ان يتبدد في لحظات كثيرة. فقد لا يجد المرء صعوبة كبيرة في إيجاد علاقة تربط هذه الموسيقى ببلاد"المجاهدين". أما الزمن، فلا قيمة لانقضائه سواء هنا أو في بيروت أو عمان. ماذا يحجب هذا الضباب عنا يا حكمتاه؟ سأل صديقنا الفلسطيني زميله حكمت من دون أن ينتظر إجابة يعرف تماماً ماذا ستكون. أما مناداته له حكمتاه بدل حكمت، فمردها الى ميل العرب المقيمين في باكستان الى الاقتراب من اللهجات المحلية عبر إرخاء اللسان. الضباب يحجب على الأرجح فراغاً جغرافياً هائلاً تعيش في بعضه قبائل إقليم سرحد. فراغ وتراب. الأشجار قليلة في هذه المناطق، او في ما يتيح لنا الضباب معاينته منها. التراب أقوى من الضباب. السيارات، وأقمشة ثياب العابرين وسط الضباب، وحتى الأشجار القليلة جميعها ترابية الألوان. السيارة مستمرة في شق الضباب محاذرة مفاجآت من نوع الاقتراب من تلك الشاحنات المزينة، أو الاصطدام بدراجة هوائية لا يتيح الضباب رؤيتها قبل أمتار قليلة. يا حكمتاه... أين أنت يا شيخ؟ ينادي صديقنا الفلسطيني زميله الأفغاني، ويبدأ حديث بينهما بعربية فصحى مطعمة بلهجة أفغانية تزيد فصاحتها أحياناً. أحاديث ولهجات تردك الى جوهر العلاقة بين المسلمين غير العرب وبين العرب، فحكمت الله يجيد من العربية ما كدنا ننساه نحن في بلادنا. ومع الاستماع المستمر لمحادثة من هذا النوع تشعر أن اللغة العربية بصيغتها"الأفغانية"استيقظت في مكان ما من وعيك."شقاء العباد بين بيشاور وإسلام آباد"، عبارة كتبت من تلقائها على دفتر الملاحظات أثناء مكابدتنا الضباب في الطريق الى بيشاور. لا يمكن لغريب يعبر هذا الطريق إلا ان يقرن عبوره بحكايات عبور آلاف العرب الذين"خرجوا"من دولهم ومجتمعاتهم الى"الجهاد"في هذه البلاد البعيدة. المصائر المتباينة التي أفضت اليها الطريق من إسلام آباد الى بيشاور تلوح أيضاً وسط هذا الضباب الكثيف. الموت والسجون والتواري عن الأنظار، والاستغراق في"الجهاد"وصولاً الى ساحات جديدة في العراق واليمن وغيرهما. ولكن، وبحسب صحافي باكستاني ثمة مآلات أخرى، إذ أن عشرات من"المجاهدين"اختاروا البقاء هنا في بيشاور وباشروا فيها أعمالاً ومهناً في ظل صعوبة عودتهم الى بلادهم. من المفترض ان يكون حكمت أعد لنا لقاء مع أحد مسؤولي"الحزب الإسلامي"الأفغاني بقيادة قلب الدين حكمتيار، في مخيم شامشاتو للاجئين الأفغان في جنوب مدينة بيشاور. ولهذا الحزب نفوذ في مناطق أفغانية واسعة، وهو يقاتل الى جانب الحركة في ولايات كونار ولغمان وكابيسا وميدان وردك وغيرها من المناطق الأفغانية، ومعظم هذه المناطق هو في وسط أفغانستان في حين تتمتع حركة طالبان بنفوذ واسع في مناطق الجنوب أي في قندهار وزابل وباكتيا. ما زالت مخيمات اللاجئين الأفغان في جنوببيشاور على حالها منذ أنشئت في الثمانينات، بل تردت وازدادت اكتظاظاً. فنحو مليوني لاجئ يعيشون في مخيمات ترابية وفي ظروف قاسية. وما زالت المخيمات تحمل أسماء قادة"الجهاد"الأفغاني الذين أسسوها واستقدموا إليها عائلات أنصارهم. فهي نشأت عندما لجأ الى بيشاور مسؤولو الفصائل الأفغانية المناوئة للاتحاد السوفياتي الذي كان يحتل أفغانستان آنذاك. مخيم شامشاتو التابع للحزب الإسلامي، ومخيم جالوزو التابع لعبد الرسول سياف ثم مخيم مولاي خالص ومخيم قاضي حسين أمين... لم يترافق سقوط نظام"طالبان"ودخول قوات التحالف الغربي الى كابول وتولي حكومة كارزاي السلطة مع عودة ملحوظة لهؤلاء اللاجئين الى بلادهم، على رغم الجهود الباكستانية لحضهم على العودة. فمعظم هؤلاء اللاجئين هم من البشتون الذين يناصبون الحكومة الأفغانية الحالية العداء. ثم انهم يقيمون اليوم في منطقة محاذية للحزام القبلي البشتوني على الحدود الباكستانية - الأفغانية، أي انهم لا يشعرون بغربة كبيرة، ويتمتعون باحتضان القبائل البشتونية الباكستانية، علماً أن الحكومة الأفغانية لم تبذل الى الآن جهوداً تذكر لتشجيعهم على العودة الى بلادهم. سلطة المخيمات تحمل هذه المخيمات ملامح"المجاهدين"الذين أسسوها، فعلى مدخل كل مخيم بوابة وحارس ينتمي الى الفصيل"صاحب المخيم". السلطة في المخيم للفصيل الذي أسسه، وان اتسم ذلك بشيء من الحذر. وتفصل بين المخيمات مساحات خصصت للهو الأطفال وتحولت الى ملاعب واسعة وغير منسجمة مع ضيق المخيمات واكتظاظها."السلام عليكم"هكذا استقبلنا أطفال ملاعب المخيمات على مدخل مركز"الحزب الإسلامي"في شامشاتو. أدوات اللهو الأولى التي يخترعها الأطفال تشعرك بأن الحاجة الى اللهو ما زالت قائمة هنا. عربات الباعة في هذه الملاعب تضم ألعاباً للأطفال وبرتقالاً وسكريات. مياه آسنة تتخلل الطرق الترابية، ولا اثر نهائياً للنساء، حتى أولئك المنقبات اللواتي تكتظ بهن شوارع كابول لا اثر تقريباً لهن في هذه المخيمات. تعامل عناصر"الحزب الإسلامي"معنا في مكتبهم في شامشاتو بشيء من الحذر غير المبرر، فهم يعتبرون ان وجودهم في هذا المخيم يجب ألا يترافق مع ضجيج كبير، في ظل خضوعهم للسلطة الباكستانية المتحالفة مع الولاياتالمتحدة في حربها على الإرهاب، وانخراطهم من جهة أخرى فيپ"مقاومة الاحتلال الأميركي الغربي لأفغانستان". لكن الحذر الذي أبدوه يظل شكلياً إذا عرفنا ان الاستخبارات الباكستانية ناشطة في هذه المخيمات وان"الحزب الإسلامي"يقيم مخيمه بموافقتها، ثم ان كلاماً كثيراً يتداول هنا عن قيام زعيم الحزب حكمتيار المتواري في أفغانستان بزيارة هذه المناطق أكثر من مرة في الفترات الأخيرة. كان من الصعب إقناع"فريد"الذي يقدم نفسه بصفته ممثل حكمتيار في مخيم شامشاتو وهو ليس اسمه الحقيقي بالموافقة على التقاط صورة له لأسباب"امنية"كما قال، ثم ان مرافقنا الأفغاني حكمت الله لم يساعدنا على إقناعه لأسباب أخرى. فحكمت يعتقد بأن التصوير حرام وهو ملتزم فتوى"امير المؤمنين"الملا محمد عمر التي تنص على ذلك. وجوه رجال البشتون الذين تحلقوا حولنا في مركز"الحزب الإسلامي"تدفعك الى اعتقاد خاطئ بأن ثمة ما أغضب هؤلاء الرجال. ملامح حادة وعيون مشدودة الى ما تحدق به. أما بنادق الكلاشنيكوف التي يحملونها فهي متقادمة، أضيف الى مقابضها لسبب ما، زجاج لونه اخضر. لم يشأ فريد ان يشير الى ارث العداء المستحكم بين"طالبان"وپ"الحزب الإسلامي"بقيادة حكمتيار والذي توج بقضاء"طالبان"على الحزب في التسعينات. قال:"اليوم نحن وطالبان لدينا هدف واحد هو قتال الأميركيين". ورفض ان يفصح عما إذا كان ثمة تنسيق ميداني بين الحزب والحركة في أفغانستان. ونفى بشدة ان تكون مخيمات اللاجئين مصدراً لدعم"المجاهدين"في أفغانستان، وهو الأمر الذي يتنافى مع إشارات كثيرة أرسلها فريد ومساعدوه في المخيم عن عمليات امداد واتصال بالعمق الأفغاني. ابتسم"فريد"حين سألناه عن مكان إقامة قلب الدين حكمتيار، وقال:"أمضيت في سجن باغرام الأميركي بالقرب من كابول سنتين وكان هذا السؤال يوجه اليّ يومياً". والغريب ان فريد أجاب عن معظم الأسئلة المتعلقة بهويته الخاصة باستثناء ذكر اسمه، لأن ذكره"قد يثير الاستخبارات الباكستانية". فهو اصلاً من منطقة كابول، عمره 58 سنة ولديه إجازة في الدراسات العسكرية من جامعة كابول التي تخرج فيها في السبعينات ضابطاً في الجيش الأفغاني. يقلل فريد من أهمية مخيمات اللاجئين الأفغان في إمداد المجاهدين، ويقول ان المجاهدين يقيمون هناك على الحدود وفي داخل أفغانستان. أما الأعضاء في قيادة الحزب الذين التحقوا باللوياجيرغا مجلس النواب الأفغاني فيؤكد فصلهم من الحزب. يبتسم محمد وهو أفغاني رافقنا الى مخيم شامشاتو، حين نسأله عن مدى استعداد اللاجئين للعودة الى أفغانستان إذا تأمنت ظروف العودة، ويقول انه"باستثناء الحكومة الباكستانية لا أحد يرغب في عودة هؤلاء، حتى هم أنفسهم لا يرغبون. الحكومة الأفغانية لا تبذل جهداً لاعادتهم، وكذلك قوات التحالف الغربي. السلطات الباكستانية قامت بخطوات لإعادة قسم منهم، ولكن لم يلبث هؤلاء ان عادوا الى هنا عبر طرق غير شرعية. ففي أفغانستان إضافة الى الوضع الأمني السيئ، لا فرص عمل ولا مساعدات يمكن ان تساهم في تشجيع أحد على العودة"والغريب ان بين اللاجئين من هو مناصر لقوى أفغانية مشاركة في الحكم الآن، أي ان الأوضاع السياسية ليست عائقاً أمام عودته، وعلى رغم ذلك لم يبادر أحد الى العودة. في هذه المخيمات تتم صناعة"مجاهدين"يعبرون الحدود الباكستانية -الأفغانية القريبة. نحو خمسين كيلومتراً تفصلنا عن معبر خيبر الشهير، وعلى طرفي الحدود تقيم العشائر البشتونية المتحالفة مع الطالبان. صممت هذه المخيمات لهذه الوظيفة اصلاً، وفي البداية حصل ذلك برعاية أميركية وباكستانية، ثم انقلب السحر على الساحر. الرجال البشتون في مركز"الحزب الإسلامي"في مخيم شامشاتو كانوا أطفالاً عندما تأسس المخيم ولا بد انهم كانوا يلهون في الملاعب نفسها التي يلهو فيها اليوم هؤلاء الأطفال، كما في الملعب المقابل لمركز الحزب. اكثر من 20 سنة انقضت ولم يتغير المشهد. انقلب المشهد السياسي في العالم، وبقيت هذه المخيمات البائسة ترسل"المجاهدين"الى أفغانستان المجاورة. الأطفال بثيابهم الأفغانية المغطاة بوحول الملاعب يستقبلونك بعبارة"السلام عليكم"وبوجوه حائرة ومبتسمة، فيما الرجال يقفون أمام مدخل مركز الحزب مثبتين أنظارهم ومتحفزين صامتين. من الصعب تحديد طبيعة المسافة الزمنية التي تفصل بين الأطفال والرجال! لا تفصل بينهم مدارس وتعليم، كما لا تفصل خبرات مستحدثة أو معارف مستجدة. الأطفال الذين سرعان ما يخفق قلبك لاقترابهم منك بمشاعر أولية، سيتحولون قريباً الى"مجاهدين"، وستتلاشى المودة خلف تلك الوجوه المنقبضة للرجال هنا في شامشاتو. الطريق العام الذي يعبر من وسط المخيمات مكتظ بالسيارات المتحولة عن وظيفتها في نقل عدد محدد من الركاب الى سيارات تستطيع نقل العشرات منهم. الشاحنات الصغيرة ليست لنقل البضائع وإنما لنقل البشر، والطرق الموحلة والضيقة وسط أسواق المخيمات تدفعك الى التساؤل عن مصير الأموال الهائلة التي تدفقت لپ"إغاثة"هؤلاء النازحين في العقدين الفائتين. لكن وعلى رغم البؤس لم يجد المرشحون الى الانتخابات الباكستانية ضيراً في تعليق صورهم وهم مبتسمون وسط أسواق المخيمات. انهم مرشحون عن المناطق القبلية أجاب مرافقنا الأفغاني حين أبدينا استغراباً للجوء المرشحين الى نشر صورهم وسط مناطق اللاجئين الأفغان الذين يفترض ألا يكونوا قوة ناخبة في باكستان. والناخبون في المناطق القبلية هم قبائل بشتونية تتصل همومها وهواجسها بقضية هؤلاء اللاجئين. على رغم صمود هذه المخيمات في وجه المتغيرات السياسية والعسكرية والأمنية، ثمة وقائع أدت الى انعدام الانسجام السياسي في أوساط اللاجئين. فهذا مخيم جالوزو الذي أنشأه عبد الرسول سياف أحد رموز النظام الأفغاني الحالي يتوسط مخيمات أخرى لقادة الحرب الأفغان الذين يقاتلون هذا النظام. ما زال لسياف نفوذه في مخيمه كما لخصومه من الطالبان وپ"الحزب الإسلامي"نفوذهم في مخيماتهم. في باكستان لا تنشب حروب بينهم فهم يرسلون"مجاهديهم"الى خلف الحدود كي يتقاتلوا. لا يكتمل عقد الرحلة الى منطقة بيشاور من دون زيارة الجامعة الحقانية في منطقة نوشهرة بالقرب من المدينة. فهي الجامعة التي ما زال مديرها مولانا سميع الحق يباهي بأن معظم قادة حركة الطالبان تخرجوا فيها، بدءاً من الملا محمد عمر مروراً بيونس خالص ووصولاً الى جلال الدين الحقاني. التجوال في أروقة الجامعة الحقانية وفي ردهاتها يشعرك بأن مجداً غابراً أفل، على رغم كل جهود سميع الحق لمقاومة الزمن المقبل. صحيح أن طلابه يفوق عددهم الثلاثة آلاف، جزء كبير منهم من البشتون الباكستانيين والأفغان، لكن وظيفة ما تعطلت. ففي حديثه عن مشاريع الحكومة الباكستانية لمراقبة أداء المدارس الدينية يقول مولانا سميع الحق:"لن نقبل بأن يتدخلوا في مناهجنا وفي هويات أساتذتنا وطلابنا. سنسمح لهم بمراقبة وارداتنا وإنفاقنا ولكن من دون ان يقتربوا الى المناهج". من الواضح ان هناك جهوداً لضبط نشاط المدارس الدينية، ثم ان جنسيات الطلاب تكاد تقتصر اليوم على الباكستانية والأفغانية، بعدما كانت الجامعات الدينية في بيشاور تضم آلافاً من الطلاب من حملة الجنسيات المختلفة. في باحة أمام منزله المحاذي للجامعة وبين أشقائه وأولاده، جلس سميع الحق على كرسي وخلفه سيارة من نوع"تويوتا"يابانية وضعت على لوحاتها عبارة"senator"للإشارة الى ان صاحبها عضو في مجلس الشيوخ الباكستاني. الشيخ شديد الغضب من الرئيس برويز مشرف الذي"يجاري الأميركيين في حربهم على المسلمين"كما يقول. لا شك في ان الحرب التي يشير اليها سميع الحق أصابت جامعته بشيء ما. الرقابة الشديدة على تدفق المساعدات من الداخل والخارج، أجّلت ربما طلاء الجدران الداخلية والخارجية. هذا ما يمكن ان يلاحظه زائر عابر لم يتمكن من التدقيق في نتائج أخرى لهذه الرقابة. تقع الجامعة الحقانية على الطريق القديم الذي يربط بيشاور بإسلام آباد. ثكن الجيش الباكستاني على هذا الطريق اقرب الى مدن عسكرية. هنا ثكنة القوات الجوية التي تضم أيضاً منازل الضباط والتي شهدت في اليوم الذي أعقب مرورنا من أمامها عملية انتحارية نفذتها امرأة في باص ينقل أطفال الضباط الى المدرسة. ليست العملية حدثاً استثنائياً في باكستان. خبر عاجل تنقله وسائل الأعلام لا يلبث أن تطيحه أخبار أخرى، ليستقر في اليوم الثاني في زاوية في صفحة الحوادث. * غداً حلقة ثانية عن منطقة الحزام القبلي البشتوني على الحدود الباكستانية - الافغانية.