رحلة الافلام السينمائية العربية مع التسويق تتعدد. بعضها يجد له سبيلاً الى الصالات التجارية، ثم ينطلق الى عالم النسيان. وبعضها - وهو الأوفر حظاً - يتجاوز عروض الصالات ليصل الى الجماهير العريضة من خلال التلفزيون. بينما يقف قسم آخر عند عتبة المهرجانات الثقافية من دون أمل في تجاوزها. الفئة الأخيرة يطلق عليها اسم"افلام المهرجانات". وهي تضم عدداً لا بأس به من أفلام تحمل تواقيع مخرجين من أصحاب المواهب. "تحت السقف"باكورة أعمال المخرج السوري نضال الدبس الروائية الطويلة، أحدها. فهو منذ عرضه الأول في"مهرجان دمشق السينمائي الدولي"لم تقف جولاته بين المهرجانات. آخر المحطات كان في ميسينا في جزيرة صقلية أمام جمهور إيطالي. وقبلها تنقل بين وهران ومونتريال وروتردام، وسواها من العواصم، من دون أن يحظى بعرض واحد في الصالات التجارية. في بلاده الأمر محسوم."ففي سورية تغيب الصالات السينمائية، وهي إن وجدت وضعها مأسوي"، يقول الدبس، ويضيف:"حتى ان طقس المشاهدة السينمائية لم يعد موجوداً نتيجة غياب الصالات. ولا أبالغ إن قلت أن هناك أجيالاً كاملة لم يعد يوجد بين مفرداتها تعابير لها علاقة بالسينما". ويعزو الدبس هذا الأمر الى"سياسة خاطئة قامت خلال العشرين سنة الماضية حين ضاعفت الدولة هيمنتها على إنتاج القطاع الخاص، واحتكرت سياسة استيراد الأفلام". ويضيف:"مجموعة عوامل متداخلة تعيق تقدم السينما السورية. حالياً الدولة هي الممول الوحيد للسينما. وبالتالي هي تنتج أفلاماً ذات مستوى لا بأس به. بعضهم يسميها نخبوية، أما أنا فأسميها سينما ثقافية فنية. وفي رأيي لا يجوز أن تقتصر سينما بلد على نوع واحد من الأفلام. وهذه مسؤولية القطاع الخاص الذي احتجب عن الساحة السينمائية بعد أن كان إنتاجه في السبعينات يصل الى نحو 15 فيلماً. صحيح ألغى بعض القوانين التي تحول دون مشاركته في نهضة السينما، ولكن ليس من مصلحته العودة الى الإنتاج السينمائي بعد انغماسه في لعبة التلفزيون، وتحقيقه الأرباح". مؤامرة ولا تقف مشكلات السينما السورية في رأي الدبس عند هذا الحد، إنما تتعداه الى وجود ما يشبه المؤامرة. يقول:"هناك من يعمل على سحب السينما من إطارها الثقافي ليضعها في إطار إعلامي. وأرى ان الدراما التلفزيونية، إضافة الى كونها سحبت رؤوس الأموال من السينما، كرّست نمطاً"ثقافياً"، علماً انه لا يمت الى الثقافة بصلة. إذ لا يمكن ان تكون الدراما على الشاشة الصغيرة ثقافية. ولا يمكن أن يكون التلفزيون للثقافة. هو وسيلة للتسلية اولاً واخيراً". في كلام الدبس نقمة على الشاشة الصغيرة، ومع هذا يقول:"أنا لا أحتقر التلفزيون او اعتبره دونياً، والسبب أنني احترم التسلية. لكن كل ما في الأمر أنني لست مقتنعاً بالتوفيق بين نقيضين. ثم لماذا لا بد من وجود الوسط بين الثقافة واللاثقافة؟". ويقدم مثلاً الخلط بين الفيلم الوثائقي والريبورتاج التلفزيوني، ويقول:"اضعنا البوصلة بين الفيلم الوثائقي والريبورتاج التلفزيوني. والسبب هو أننا نحاول الوصول الى أمر وسطي، الى درجة ان الريبورتاج صار يعرض في المهرجانات السينمائية على انه فيلم وثائقي. ولكن شتان بين الصيغتين. من هنا انا أخاف على الفيلم الروائي من أن يجد مصير الوثائقي. ولا أتكلم هنا عن التقنية، إنما عن بنية الفيلم. لذا لم اعد اقبل بالمحاولات الوسطية، ولي أسبابي. فلماذا نسعى الى حل وسطي بين مزاجين في بلاد تغيب عنها الطبقة الوسطى، وتتجلى هوة ساحقة بين"الثقافة"الجماهيرية والثقافة الحقيقية". في الغرب لم يعد الحد الفاصل بين السينما والتلفزيون بهذا الحجم الذي يتكلم عنه الدبس. صار التلفزيون الممول الرئيسي للسينما، والسينما الرافد الاول للتلفزيون. حتى ان بعض التجارب العربية بدأت تسير على هذه الخطى... والمستقبل، كما يبدو، لتعاون تام بين الشاشتين. فهل يخشى الدبس على السينما العربية في حال موّلها التلفزيون؟ يجيب:"حين اتكلم عن التلفزيون لا أقصد الجهاز، إنما آلية المعلومات. ففي كل الاماكن حيث تطورت السينما، كان الممول الأساسي التلفزيون. وفي سورية نطالب أن تساعد الدراما التلفزيونية بتمويل السينما... حتى ان مشروعي المقبل سيكون من إنتاج قناة"أوربت"الفضائية. واتمنى ان تنجح التجربة كونها تمثل أفقاً للسينمائيين. ولمَ لا؟ قد يكون الحل من طريق شركات التلفزيون". بعد طول انتظار بعد الحديث عن صعوبات الإنتاج السينمائي في سورية، ليس غريباً انتظار نضال الدبس عشر سنوات لتحقيق فيلمه الروائي الطويل الأول. عشر سنوات وزعها بين دراسة السينما في موسكو، والعمل كمساعد مخرج لزميليه أسامة محمد وعبداللطيف عبدالحميد. كما أنجز خلالها ثلاثة أفلام روائية قصيرة هي"سوناتا الشتاء"وپ"كولاج"وپ"يا ليل يا عين". ولكن حلم الدبس بالعمل السينمائي يتعدى هذه السنوات..."حين أنهيت تحصيلي الثانوي، كنت أتوق الى العمل السينمائي. وبما أنه لم يكن في استطاعتي السفر لدراسة الفن السابع، نصحني أحد الأصدقاء بالتوجه الى الهندسة المعمارية. وانا أشكره اليوم على هذه النصيحة". لماذا الهندسة المعمارية؟ يجيب الدبس:"العمارة هي أقرب فن الى السينما. فهي مثلها مثله فن جماعي. وكلاهما فن بصري، وايضاً صناعة. ثم في العمارة تتداخل مجموعة فنون. حتى الموسيقى تدخل في العمارة مثلما تدخل في السينما. ويمكن أن نلاحظ ان عدداً من مفردات السينما هي مفردات معمارية مثل البناء والعمق... كما ان مخرجين كثراً في تاريخ الفن السابع كانوا معماريين. ثم، كما لغياب السينما دور في غياب الثقافة، لغياب العمارة دور أيضاً، فدمشق الجديدة مدينة قبيحة معمارياً، وهذا يشبه الوضع الثقافي فيها". دمشق الجديدة لم تغب عن فيلم"تحت السقف". فهو عمل قائم على الذاكرة. ذاكرة المخرج وتراكمات من الواقع."في هذا العمل أتكلم عن نفسي، ولكن أيضاً عن جيل كامل، وعن همّ يمس هذا الجيل. الفيلم يطرح مشكلة أساسية تظهر الى أي مدى ان السياسة مفردة حياتية. في أحد المشاهد أسأل والدتي عن لون عينيّ حين ولدت، فتتحدث عن الانقلاب السياسي الذي صودف يوم مولدي، والدبابات التي غزت الشارع، وصعوبة وصول الداية الى المنزل"، يقول الدبس ويضيف:"في هذا الفيلم إدانة لأدلجة الفرد. إذ سلط الضوء على فكرة كيف أن الإيديولوجيا تفقدنا إنسانيتنا". فهل كان سهلاً عليه أن يلامس مثل هذا الموضوع في فيلم من إنتاج القطاع العام، وبالتالي كيف هرب من مقص الرقابة؟ يجيب:"لم أهرب، لأن همي ليس إدانة إيديولوجيا على حساب أخرى. من هنا لم يكن لدي مشكلة مع أحد، فأنا أتكلم عن الإيديولوجيا في شكل عام، وعن تأثيرها النفسي علّي. وبالتالي من سيحتج يدين نفسه بطريقة او بأخرى. علماً أن ما يهمني هو ان فيلمي أثار جدلاً ونقاشات أفرحتني". ويضيف:"صحيح هناك قطيعة بين الجمهور والثقافة. ولكن كل هذا موقت. أما أسوأ ما في الأمر فهو انتحار الثقافة بحجة الوصول الى الجمهور. وهذا ما لا يجوز التغاضي عنه".